د. شادية الغول
تبدو ملامح عالم اليوم وكأنها صدى بعيد لعالم الثلاثينيات المضطرب، حين كانت البشرية تسير بخطى وئيدة نحو هاوية الحرب العالمية الثانية. تتكرر المشاهد ذاتها وإن اختلفت الأدوات: قوى تتنازع النفوذ، أزمات اقتصادية تخنق الشعوب، صعود للنزعات القومية، وتراجع للإيمان بالمؤسسات الدولية التي أنشئت لحماية السلام. وكأننا نعيش نسخة محدثة من ذلك الزمن، لكن هذه المرة في عالم أكثر هشاشة وترابطًا، وأشد خطرًا من أي وقت مضى.
الكرة الأرضية اليوم تغلي فوق صفيح ساخن. من أوكرانيا المشتعلة إلى الشرق الأوسط الغارق في الدم، ومن بحر الصين الجنوبي إلى القرن الإفريقي، تمتد خيوط الفوضى التي تتغذى على بعضها البعض. كل أزمة تلد أخرى، وكل صراع يفتح الباب أمام صراع جديد، حتى غدا العالم وكأنه يعيش لحظة ما قبل الانفجار الكبير. النظام الدولي الذي بُني على أنقاض الحرب العالمية الثانية يبدو اليوم مترنحًا، عاجزًا عن ضبط إيقاع الفوضى أو احتواء العنف المتصاعد.
الأرقام تؤكد عمق الأزمة. فالإنفاق العسكري العالمي بلغ مستويات قياسية غير مسبوقة، وأعداد اللاجئين تجاوزت أرقام الحرب العالمية الثانية، فيما تتفاقم الفجوة بين الغني والفقير لتتحول إلى شرخ إنساني عميق. أصبح العنف سمة عالمية لا تستثني أحدًا؛ فهو يتخذ شكل الحرب في الجنوب، والاحتجاج في الشمال، والاضطراب في كل مكان. لم يعد هناك استقرار حقيقي، بل توازن هش يعيش على حافة الانفجار.
تُظهر الجغرافيا السياسية خمس بؤر توتر رئيسية تمثل الشرارة المحتملة لأي حرب كبرى: أوكرانيا، الشرق الأوسط، بحر الصين الجنوبي، شبه الجزيرة الكورية، وأفريقيا الوسطى. هذه المناطق ليست مجرد نقاط صراع، بل مرايا تعكس اختلال التوازن الدولي كله. في كل واحدة منها تتقاطع مصالح القوى الكبرى، وتتصادم روايات التاريخ، وتتحرك الجيوش على إيقاع اقتصاد ينهك الجميع.
وللمفارقة، لم تعد الأزمات حكرًا على الجنوب الفقير، بل امتدت إلى قلب الشمال الغني. مجموعة الدول السبع، التي طالما كانت عنوانًا للرخاء، تعاني اليوم أزمات اقتصادية واجتماعية عميقة. التضخم، تآكل الطبقة الوسطى، تصاعد الحركات الشعبوية، والانقسامات الحزبية الحادة كلها مظاهر لاهتزاز داخلي في مراكز القوة ذاتها. العالم بأسره يترنح في أزمة شاملة، لا يمكن فصل الاقتصادي فيها عن السياسي، ولا الاجتماعي عن الأخلاقي.
منذ أكثر من قرن، حذر الاقتصادي البريطاني جون ماينارد كينز من أن معاهدة فرساي ستقود إلى حرب جديدة، لأن إذلال الشعوب لا يصنع سلامًا بل ينتج انتقامًا. واليوم، تبدو كلماته نبوءة تعود للحياة؛ فالعقوبات تفرض، والحصار يُمدد، والشعوب تُعاقب باسم العدالة الدولية. التاريخ يدور في حلقة مفرغة، والدروس لا تُستوعب، وكأن العالم يسير بخطى واثقة نحو هاوية يعرفها جيدًا.
منذ انهيار الاتحاد السوفيتي وانفراد الولايات المتحدة بقيادة العالم، لم تعرف البشرية توازنًا مستقرًا. نهاية الحرب الباردة لم تفتح باب السلام، بل فتحت أبواب فوضى جديدة. تدخلات عسكرية متتالية من أفغانستان إلى العراق، ومن ليبيا إلى سوريا، خلّفت دولًا مدمرة ومجتمعات مفككة، وأطلقت قوى جديدة خارجة عن السيطرة. من قلب هذا الركام بدأت خريطة الغضب تتسع، وظهرت قوى إقليمية ودولية تعلن بوضوح تحديها للنظام القائم.
روسيا، الصين، إيران، وكوريا الشمالية تمثل اليوم نماذج مختلفة لرفض الهيمنة الأمريكية. بعضها يسعى لاستعادة مجده التاريخي، وبعضها يدافع عن مصالحه أمام حصار طويل الأمد. وكما دفعت العقوبات اليابان في الثلاثينيات إلى الغزو والحرب، فإن الضغوط والعقوبات الحالية لا تردع خصوم الغرب، بل تدفعهم نحو مزيد من المواجهة. في النهاية، تتحول أدوات الردع إلى أدوات تفجير، وتتحول القوة إلى لغة
أما مجلس الأمن الدولي، الذي يُفترض أن يكون صمام أمان العالم، فقد أصابه الشلل الكامل. القرارات تُعطّل بالفيتو، والمعايير تُطبّق انتقائيًا، والشرعية الدولية صارت تُستخدم كسلاح سياسي لا كقيمة أخلاقية. إنه المشهد ذاته الذي سبق الحرب العالمية الثانية حين عجزت عصبة الأمم عن إنقاذ السلام، فسقطت أمام جشع الدول وعبث السلاح.
في خضم هذا التصدع، تتراجع الهيمنة الأمريكية التي حكمت العالم لعقود. داخل الولايات المتحدة نفسها، تتصاعد الانقسامات الحزبية والعرقية، ويتآكل الإيمان بالديمقراطية الليبرالية التي صدّرتها للعالم. وفي الخارج، تنشأ تحالفات جديدة مثل "بريكس" و"منظمة شنغهاي" تبحث عن نظام بديل يتجاوز المركزية الغربية. تتغير موازين القوى ببطء، لكن بثبات، في اتجاه عالم متعدد الأقطاب يتشكل على أنقاض النظام القديم.
كل ذلك يجري في ظل تآكل احترام القانون الدولي وانحسار القيم التي تأسس عليها النظام العالمي الحديث. فالمعاهدات تُنتهك، والاتفاقيات تُنسف، والحروب تُخاض دون تفويض، والعدالة تُقاس بميزان القوة لا بميزان الحق. في غزة، وفي أوكرانيا، وفي تايوان، وفي السودان، تتكرر المأساة نفسها: البشر وقود السياسة، والمبادئ تُترك خلف ركام المدن المهدمة.
وهكذا، ومع كل اضطراب جديد، يزداد الشعور بأن العالم يقف على أعتاب عاصفة كبرى. فحين تنهار الثقة بين الأمم، وتغيب العدالة، وتتحول القوانين إلى شعارات بلا معنى، تصبح الحرب احتمالًا واقعيًا لا سيناريو خياليًا. ولعل ما يميز لحظتنا الراهنة هو أن أدوات الفناء صارت متاحة للجميع، وأن أي شرارة صغيرة قد تشعل نارًا لا يمكن إخمادها. يبدو أن التاريخ يعيد نفسه بطريقة مأساوية، وأن القرن الحادي والعشرين يسير نحو مواجهة لا تشبه سابقاتها، لكنها ستولد من رحم الأخطاء ذاتها التي تجاهلها العالم قبل قرن من الزمان.