مصطفى ابراهيم – مصدر الإخبارية
بعد حربٍ طاحنة أكلت ما تبقى من روح الحياة، يخرج الناس من تحت الركام — مجازياً وفعلياً — محمّلين بوجع لا يُوصف، وأملٍ خجول بالكاد يجرؤ على الظهور. لكن اللحظة التي يُفترض أن تكون بداية جديدة، تُظلَّلها غيوم الشك: هل الاتفاق القائم سيصمد؟ أم أن ما نراه الآن ليس إلا هدنة مؤقتة تسبق جولة أخرى من الكارثة؟
الحرب تركت وراءها مدنناً مدمَّرة، وعائلات مفجوعة، وأجيالاً بلا أفق. الناس لا يبحثون فقط عن طعام أو مأوى، بل عن معنى، عن أمان نفسي، عن ضمانة أن الغد لن ينهار فجأة من جديد. ورغم توقف القصف، لا أحد هنا يشعر بالأمان الكامل. لأن الاتفاق السياسي، مهما كان شكله أو من وقّع عليه، لا يزال هشّاً، مهدداً إما بعدم الاكتمال أو بالخرق المتعمد.
المجتمع المنهك لا يحتاج فقط إلى بنى تحتية، بل إلى وقت لالتقاط الأنفاس. الجميع منهك: المدنيون، العاملون في الإسعاف والإغاثة، الأطفال الذين كبروا قبل أوانهم، والناجون من القصف، ومن فقدوا أحباءهم دون فرصة وداع.
وفي الوقت ذاته، لا يوجد متسع كبير للراحة. فالدمار الذي خلّفته الحرب يحتاج إلى جهد غير مسبوق لإعادة الإعمار. وهناك مصابون وجوعى ومشردون وناجون من الصدمة لا يمكنهم الانتظار.
ومع كل هذا، يعيش الناس في ظل تهديد صامت: ماذا لو لم يكتمل الاتفاق؟ ماذا لو أُخِلّ به؟ ماذا لو انهار تحت وقع الغطرسة الاسرائيلية، أو الحسابات السياسية الدولية والإقليمية، أو النوايا غير المعلنة؟
الناس بين رماد الحرب وغموض السلام المزعوم، من يعيشون في مناطق الحرب لا يملكون ترف التحليل السياسي المعقّد. ما يعرفونه هو أن أصوات المدافع خفتت، لكن الخوف لا يزال عالياً. كل تصريح متوتر، كل شائعة عن خرق الاتفاق، كل تحرك عسكري مشبوه، يُشعل في النفوس نارًا كادت تنطفئ.
ما يخيف الناس ليس فقط خرق الاتفاق، بل أن يُستخدم الاتفاق كغطاء لمزيد من الإقصاء، أو المماطلة، أو فرض واقع جديد بالقوة. فالسلام الحقيقي لا يُبنى على الورق، بل في حياة الناس اليومية، في قدرتهم على العيش دون أن يخافوا من الغد، في ثقتهم بأن ما جرى لن يتكرر.
اليوم، يحتاج الجميع إلى أن يتنفس، لكن التنفس وحده لا يكفي. المطلوب من كل من يملك قراراً أو تأثيراً، أن يفهم أن الناس قد استُنزفوا بالكامل، وأن أي اختلال في الاتفاق لا يعني مجرد أزمة سياسية، بل نكبة إنسانية جديدة.
من بين الأنقاض، تُبنى الحياة من جديد، لكن أي شرخ في التوافق، وأي خرق في الاتفاق، كفيل بأن يُسقط كل هذا الجهد في لحظة. السلام ليس توقيعاً فقط، بل التزامٌ فعلي، ومحاسبةٌ صادقة، وإرادةٌ لحماية ما تبقى من أرواح ومُدن وأحلام.