شادية الغول: “عقيدة الجنون” .. ترامب بين الهيمنة والفوضى

عرف عن دونالد ترامب منذ ظهوره على الساحة السياسية بصفته “الرجل الذي لا يمكن التنبؤ بتصرفاته”، وهو يسعى عمدًا لترسيخ هذه الصورة في أذهان الجميع باعتبارها نقطة قوة. بل ذهب إلى حد وصف نفسه صراحة بـ”المجنون” خلال حديثه إلى صحيفة “وول ستريت جورنال” حول موقفه من الصين، حين أكد أنه سيفرض تعريفات جمركية ضخمة إذا ما حاولت الصين حصار تايوان. وعندما سألته الصحفية إن كان الخيار العسكري مطروحًا في حال تجاهلت الصين هذه التهديدات الاقتصادية، استبعد ترامب هذا الخيار تمامًا، وعلّل ذلك بأن الزعيم الصيني “يحترمه ويعلم أنه مجنون”. هذا التصريح لم يكن مجرد انفعال عابر، بل اعتبره الكاتب الأمريكي ديفيد لورن، في موقع “أكسيوس”، مفتاحًا لفهم العقيدة السياسية لترامب. فمنذ أن عاد ترامب إلى البيت الأبيض عقب فوزه بالانتخابات الرئاسية، وهو يسير وفق مبدأ “الردع عبر عدم التوقع”، حيث باشر فعليًا فرض تعريفات جمركية على العديد من دول العالم، في توجه حمائي يعكس فلسفته الواضحة: أمريكا أولًا، والبقية لاحقًا.
لكل رئيس أمريكي عقيدة واضحة ترسم ملامح سياسته الخارجية، ويمكن تتبع هذا التقليد من خلال عقائد مثل “مبدأ مونرو” عام 1823، الذي نصّ على أن أمريكا الشمالية والجنوبية مناطق نفوذ للولايات المتحدة وممنوع على القوى الأوروبية التدخل فيها. أو “عقيدة ترومان” بعد الحرب العالمية الثانية عام 1947، التي التزمت فيها واشنطن بدعم الدول المناهضة للشيوعية، وأسست من خلالها سياسة الاحتواء التي قادت أمريكا إلى التدخل في صراعات متعددة باسم “حماية الديمقراطية”. ثم جاءت “عقيدة كارتر” عام 1980 كردّ فعل على الغزو السوفييتي لأفغانستان، حيث تعهدت أمريكا بالتدخل العسكري لحماية مصالحها في منطقة الخليج العربي. أما “عقيدة ترامب”، وفق تحليل لورن، فتتمثل في بثّ الخوف في نفوس الخصوم من ردود أفعاله غير المتوقعة، فهو يؤمن بأن بإمكانه إحلال السلام في أوكرانيا، وردع الصين تجاريًا وعسكريًا، ومنعها من غزو تايوان، وإجبار الحلفاء على دفع ثمن الحماية العسكرية الأمريكية. يرى ترامب أن العالم لا يجب أن يشعر بالارتياح تجاه وجود زعيم “مجنون” على رأس أقوى دولة في العالم، ويعتبر ذلك وسيلة ردع فعالة، تخلق حالة من التردد والحذر في صفوف صانعي القرار الدوليين.
أنصار ترامب لا يرون في هذا “الجنون” عيبًا، بل ميزة تُعزز مكانة الولايات المتحدة، وتمنحها الأفضلية في التفاوض والصراع. ويؤكد ريتشارد جرينل، الرئيس السابق للاستخبارات الوطنية الأمريكية والذي خدم في ولاية ترامب الأولى، أن استراتيجية التخويف، أو ادعاء الجنون، تندرج ضمن ما يعرف في العلاقات الدولية بـ”نظرية الرجل المجنون”، وهي النظرية التي ارتبطت بالرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون. فقد سعى نيكسون خلال الحرب الباردة إلى ترسيخ انطباع لدى قادة الكتلة الشيوعية بأنه قد يتخذ قرارات غير عقلانية وسريعة وخطيرة، في حال تم استفزازه، مما خلق نوعًا من الردع النفسي لدى خصومه.
هذا النمط في التفكير والسياسة كان حاضرًا بوضوح عند تنصيب ترامب، حيث أعدّت مجلة “ذا إيكونوميست” ملفًا بعنوان “مرحبًا بكم في عالم ترامب”، تضمن ثلاثة محاور رئيسية لخّصت ملامح المرحلة القادمة: أولها تحذير الحلفاء من مغامرات وخيانات سياسية قادمة، ثانيها سياسة داخلية واقتصادية قائمة على خفض الضرائب وبناء الجدران، وثالثها قناعة الأمريكيين بأن الديمقراطيين أسوأ حالًا من أي خيار آخر. في هذا السياق، يأتي شعار “أمريكا أولًا” الذي رفعه ترامب مخالفًا لما انتهجه معظم الرؤساء منذ الحرب العالمية الثانية، فهو لا يؤمن بالنظام الدولي ومؤسساته، ولا يعترف بالاتفاقيات ما لم تحقق ربحًا مباشرًا وفوريًا للولايات المتحدة. بل يرى أن الحلفاء، خصوصًا الأوروبيين، باتوا عبئًا على أمريكا، يجنون فوائد الحماية دون أن يدفعوا مقابلها، وهو ما دفعه إلى تهديدهم مرارًا قائلاً: “إن أردتم الحماية فعليكم الدفع، أو اذهبوا للجحيم”.
ميزانية وزارة الدفاع الأمريكية التي تخطت 841 مليار دولار في العام الحالي، لا يجب، من وجهة نظره، أن تُدار كمؤسسة خيرية لحماية الآخرين. ولكن حتى الرؤساء السابقين لم يكونوا فاعلي خير، بل اتبعوا في علاقاتهم الخارجية إحدى مدرستين فكريتين: مدرسة هاملتون، نسبةً إلى ألكسندر هاملتون أحد الآباء المؤسسين، والتي تؤمن بضرورة بناء اقتصاد قوي يرتكز على دعم الشركات العابرة للحدود، وحمايتها من خلال نظام عالمي يخدم المصالح الأمريكية ويمنع صعود قوى منافسة، كما هو الحال مع الصين اليوم. أو مدرسة ويلسون، نسبةً إلى الرئيس وودرو ويلسون، التي تؤمن بوجوب نشر القيم الأمريكية وتحويل العالم إلى نسخة ديمقراطية على الطريقة الأمريكية، انطلاقًا من قناعة بأن السماح بوجود أنظمة معادية أو مختلفة، كألمانيا النازية أو اليابان قبل الحرب العالمية الثانية أو نظام صدام حسين، يؤدي في نهاية المطاف إلى تهديد مباشر لأمن أمريكا واستقرارها، كما حدث في هجمات 11 سبتمبر.
أما ترامب، فهو الرئيس الوحيد الذي ينتمي إلى مدرسة “جاكسونية” – نسبة إلى الرئيس السابع أندرو جاكسون – حيث يتبنى فكرًا انعزاليًا يقوم على مبدأ: دَع العالم يدير نفسه، واهتم فقط بأمريكا. لا يهتم كثيرًا بالقانون الدولي أو حقوق الإنسان أو الحلفاء، ولا يحبذ عقد التحالفات الدائمة التي قد تربط مصير الولايات المتحدة بقرارات دول أخرى. بل يرفض الهجرة، ويشكك في الثقافات والأعراق والأديان الأخرى، ويرى في التجارة مع العالم فرصًا مؤقتة تخضع لمعيار الربح والخسارة
من هذا المنطلق، فإن ترامب لا يرى أهمية كبيرة للتحالف مع أوروبا، بل وصف الاتحاد الأوروبي بأنه “عدو اقتصادي”، واعتبر خروج بريطانيا من الاتحاد خطوة ذكية، وأعرب عن أمله في تفكك الاتحاد بالكامل، حتى يسهل عليه التعامل مع كل دولة على حدة، مما يمنحه مساحة أكبر للضغط والمناورة، وهو أمر يخدم مصالح الصين وروسيا، عبر إضعاف الكتلة الغربية كقوة تفاوضية موحدة.
في ظل هذا المناخ السياسي المتوتر، والواقع الدولي المنقسم، تبرز ممارسات ترامب الاقتصادية، كفرض التعريفات الجمركية على دول عدة، كأداة ضغط لتحقيق أهداف سياسية. وعلى خلفية ذلك، يصبح من المشروع التساؤل حول موقف الإدارة الأمريكية من المجازر والإبادة الجماعية التي تُرتكب حاليًا بحق الفلسطينيين في قطاع غزة، في ظل حرب طاحنة يقودها الاحتلال الإسرائيلي. فبدلًا من الضغط على تل أبيب، تصر الإدارة الأمريكية على تقديم الدعم الكامل لها، وتتجاهل العدوان المتواصل على النساء والأطفال والبنية التحتية. كما أن سياسة فرض الضرائب التي يعتمدها ترامب حاليًا تضعف اقتصادات الدول النامية، بما فيها دول عربية، وتقلص من قدرتها على دعم قضايا مثل فلسطين، بينما تُستخدم أموال دافعي الضرائب الأمريكيين في تمويل آلة الحرب الإسرائيلية، في مشهد يعكس عمق التناقض بين شعارات “السلام” وواقع “الدمار”.
بهذه الخلفية، يتضح أن سياسة ترامب، وإن بدت “مجنونة” للبعض، تحمل في طياتها منهجية واضحة تقوم على إعادة تشكيل النظام العالمي بالقوة والابتزاز، وهو ما يدفعنا للتفكير بجدية في مستقبل العدالة الدولية، ومكانة القيم الإنسانية، في ظل عالم تسوده الفوضى ويتزعمه رجل لا يتورع عن التلويح بجنونه كسلاح ردع.