تراجع قبضة الرقابة القضائية: قراءة في تبدّل موازين القوى داخل المحكمة العليا

26 نوفمبر 2025 08:12 م

الأراضي المحتلة - مصدر الإخبارية 

تشير مراجعة مجموعة من القرارات القضائية الإسرائيلية الأخيرة إلى أنّ المحكمة العليا تشهد تحوّلًا واضحًا في تعاملها مع الملفات المرتبطة بما يُعرف داخل إسرائيل بـ"الانقلاب القضائي"، في انعكاس مباشر لمزيج من الضغوط السياسية، والتغيّرات البنيوية داخل المحكمة، والتحولات التي أعقبت السابع من تشرين الأول/ أكتوبر.

هذا التحول لم يكن مفاجئًا بالكامل؛ فقد شكّلت لحظة تحذير رئيسة المحكمة السابقة، إستير حيوت، مطلع عام 2023، من خطّة وزير القضاء ياريف ليفين باعتبارها تهديدًا "يفكّك جهاز القضاء"، نقطة انطلاق لمسار جديد داخل المحكمة، سرعان ما تأثر بالتغيّرات الحكومية المتلاحقة، وبالصدام المستمر بين السلطة التنفيذية والجهاز القضائي.

وبحسب تحليل نشرته صحيفة "هآرتس"، فإن مراجعة لأحكام المحكمة منذ تشكيل الحكومة الحالية، ومحادثات مع خبراء قانونيين، تكشف عن تراجع تدريجي في شدّة المعارضة التي أبدتها المحكمة لخطة الحكومة، وظهور توجه أكثر ليونة في ملفات حسّاسة شكّلت سابقًا خطوطًا حمراء.

تعيين زيني: تسوية كسرت سوابق قضائية

أبرز تجليات هذا التحول ظهر في ملف تعيين دافيد زيني رئيسًا لجهاز الشاباك. فعلى الرغم من معارضة المستشارة القضائية للحكومة، غالي بهاراف ميارا، للتعيين بسبب تضارب المصالح المرتبط بملفات تخص مقرّبين من نتنياهو، اتخذت المحكمة مسارًا غير متوقع، إذ وجّه قضاة بارزون انتقادات مباشرة لموقف المستشارة، فيما دفعت غالبية هيئة المحكمة نحو "تسوية" أجبرتها على التراجع وقبول تعيين زيني.

اعتُبرت هذه التسوية، وفق "هآرتس"، سابقة خطيرة شرعنت سلوكًا يناقض في جوهره مبادئ أقرتها المحكمة ذاتها في أعوام سابقة.

رفض تجميد إجراءات إقالة المستشارة

القضية الثانية التي رأت الصحيفة أنّها تعكس تغييرًا عميقًا كانت قرار القاضي نوعام سولبرغ رفض إصدار أمر مؤقت بتجميد إجراءات إقالة المستشارة القضائية. ورغم التحذيرات المتكررة من المستشارة من "ضرر مؤسسي متراكم"، امتنعت المحكمة عن التدخّل إلا بعد استكمال الحكومة لإجراءاتها، وهو ما سمح بوقوع تأثيرات سياسية وإدارية كانت تحذّر منها المستشارة.

يرى خبراء قانونيون أنّ هذا النهج، خصوصًا لدى القضاة المحسوبين على "المعسكر المحافظ"، يقوم على تجاهل السياق السياسي العميق للإجراءات الحكومية، والاكتفاء بقراءة قانونية تقنية "معزولة"، ما يهدد، وفق البروفسور باراك مدينا، جوهر النظام الديمقراطي.

ملف التحقيق مع المدّعية العسكرية: تكريس صلاحيات ليفين

وواصلت المحكمة السير في الاتجاه ذاته حين منحت وزير القضاء، ياريف ليفين، صلاحية تعيين المسؤول عن التحقيق في ملف المدّعية العسكرية السابقة، رغم رفض مرشحه الأول. ورغم اختيار الوزير لاحقًا شخصية لا تستوفي المعايير التي حدّدتها المحكمة نفسها، بدا التدخل القضائي محدودًا للغاية، مع قبول ضمني بمنطق الحكومة وسياستها.

تصريحات من داخل الائتلاف الحاكم عزّزت المخاوف من أن الهدف من هذا المسار هو تمهيد الطريق لإقالة المستشارة القضائية عبر خلق ملفات تحقيقية موجّهة.

تغيّر تركيبة المحكمة: لحظة حاسمة

التغيير الأكبر ارتبط بتركيبة المحكمة ذاتها. فمنذ تقاعد إستير حيوت والقاضيتين عنات برون وعوزي فوغلمان، وعدم تعيين بدلاء بسبب تعطيل لجنة اختيار القضاة، ظهرت لأول مرة داخل المحكمة أغلبية محافظة واضحة. وتشير "هآرتس" إلى أنّ هذا التغيير يفسّر بشكل كبير التحولات في قرارات المحكمة، فضلًا عن التراجع الملحوظ في حدة مواجهتها للحكومة.

وتستعيد الصحيفة قرارات صدرت قبل عامين فقط كانت أكثر صلابة، مثل إلغاء تعيين أرييه درعي وزيرًا في كانون الثاني/ يناير 2023، وإسقاط تعديل يشطب معيار "المعقولية" مطلع عام 2024، معتبرة أنّ نتائج هذه الملفات لو عُرضت اليوم أمام المحكمة بتركيبتها الحالية، لكانت مختلفة جذريًا.

ما بعد 7 أكتوبر: اصطفاف شبه كامل مع الحكومة

بحسب التقرير، شهدت مرحلة ما بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر تغييرًا حادًا في نهج المحكمة، التي باتت – بحد وصف "هآرتس" – "متوافقة إلى حدّ كبير مع الخط السياسي والأمني للحكومة". ومن أبرز مظاهر هذا التغير امتناع المحكمة بشكل شبه تام عن التدخل في الالتماسات المتعلقة بانتهاكات حقوق الفلسطينيين في غزة، أو في قضايا الأسرى داخل السجون.

ضغط غير مسبوق واستقطاب يتسرّب إلى أعلى سلطة قضائية

وتشير قراءات أكاديمية نقلتها الصحيفة إلى أنّ المحكمة تعمل تحت ضغط سياسي متواصل، يتراوح بين التحريض العلني، ومحاولات نزع الشرعية، والتهديد بتغيير آلية تعيين القضاة. ويرى البروفسور يانيف روزناي أنّ الاستقطاب داخل المجتمع الإسرائيلي "تسرّب" إلى المحكمة العليا نفسها، مؤثرًا على سلوك قضاتها، ومعيدًا تشكيل ما يُفترض أن يكون المؤسسة الضامنة للاستقرار الدستوري.

ورغم أنّ المحكمة تبدو اليوم أكثر حذرًا في مواجهة السلطة التنفيذية، يؤكد خبراء أنّها ما تزال مطالبة بخوض "معارك غير شعبية" متى تطلب الأمر حماية المبادئ الأساسية للنظام الديمقراطي، حتى لو كلّفها ذلك مواجهة جديدة مع الحكومة.

 

المقالات المرتبطة

تابعنا على فيسبوك