سماح شاهين- مصدر الإخبارية
مع أول قطرات المطر التي هطلت على قطاع غزة هذا الشتاء، لم يكن البرد هو ما أرعب السكان، بل الحقيقة القاسية التي جرفتها السيول: حجم المأساة التي تعيشها آلاف العائلات تحت الركام وفي الخيام الهشة.
لم يكن المنخفض الجوي مجرد حالة طقس عابرة، بل اختبارًا جديدًا لواقع يزداد قسوة يومًا بعد يوم، حيث تغرق الطرقات بالمياه، وتغرق معها أحلام الناس في النجاة.
ففي مخيمات النزوح المكتظة، ارتفعت صرخات الأطفال من شدة البرد، وازدادت مخاوف الأهالي من ليلة لا تحمل لهم سوى مزيد من المعاناة، هكذا أعاد الشتاء فتح جراح لم تلتئم بعد، كاشفًا هشاشة الحياة وعمق الكارثة الإنسانية التي يواجهها أكثر من مليوني إنسان بلا مأوى آمن ولا مقومات للعيش الكريم.
خيمة مهترئة
يقول عبد الكريم مقداد، وهو يجلس أمام خيمته التي ما زالت آثار المياه تلطّخ جوانبها، إن أكثر ما فاجأه في أول منخفض جوي ضرب غزة لم يكن شدّة المطر، بل سرعة الانهيار.
يروي لـ"شبكة مصدر الإخبارية": "ما كنتش متوقع إنها تغرق من أول مطر، الخيمة أصلاً مهترئة، بس ما توقعت إنها تنهار بهالسرعة".
بعد عودته من جنوب القطاع إلى منطقة الشيخ رضوان، نصب عبد الكريم خيمته على عجل، ظنًا منه أنها ستكون ملاذًا مؤقتًا يحمي أسرته من برد الليل. لكن فجراً، تحوّل الملاذ إلى كابوس.
يتذكر اللحظة التي استيقظ فيها على صراخ زوجته: "صحّيت لقيت مي بتغمر المكان أولادي الثلاثة كانوا مرتجفين، مبلولين من رأسهم لرجليهم حسّيت الدنيا كلها غرقت فوق راسي".
وبينما يحاول إخراج ما تبقّى من الفرش المبتلّ، يتابع بصوت يختلط بالغضب والخذلان: "صرخنا من الصدمة، ما كان في حد يسمع ولا حد يقدر يساعد أول منخفض قلب حياتنا فوق تحت".
اليوم، يقف عبد الكريم أمام خيمة لا تصلح للسكن، يحاول ترقيع جوانبها قبل أن يأتي منخفض آخر قد يجرف ما تبقى من قدرة أسرته على الاحتمال.
لا مأوى آخر
تجلس ختام نبهان على قطعة من النايلون فوق الأرض الموحلة في مواصي خان يونس، تحدّق في ما تبقّى من خيمتها التي انهارت تحت أمطار المنخفض الأول، ما زالت ترتجف ليس من البرد فقط، بل من هول ما عاشته تلك الليلة.
تقول ختام في حديثها لـ"مصدر الإخبارية": "من أول الشتاء وأنا خايفة من المطر، بس ما توقعت إنه أول منخفض يغرّق الخيمة كلها ما إلنا مكان غيرها".

ومع اشتداد المطر في منتصف الليل، بدأت المياه تتسرّب من أطراف الخيمة، ثم تحوّل التسرّب إلى فيضان مفاجئ.
تتابع ختام: "كنت أنا والأولاد نايمين فجأة حسّيت المياه تحتنا قمت مفزوعة، لقيت المياه داخلة من كل مكان صوت الهوا والمطر، وصراخ الأولاد ما بنسى هاللحظة طول عمري".
تصف ختام حالة الفوضى التي عاشتها أسرتها: "بدأت أسحب الملابس والفراش بسرعة كل شي صار مبتل كنت أصرخ، مش عارفة شو ألحق المياه عم تعلى، والخيمة بتوقع حتى جيراننا، خيامهم غرقت معنا، الكل كان يركض بالليل وما حد لاقي مكان يروح عليه".
وتشير إلى أن لا ملجأ بديل يمكنها الانتقال إليه: "وين بدنا نروح؟ ما في مكان وكل شي عايشين عليه جوّا هالخيمة المطر أخد نص أغراضنا، والباقي مش صالح للاستعمال إحنا فعليًا بلا مأوى".
ورغم التعب الذي يعلو ملامحها، تحاول ختام إعادة تثبيت بقايا الخيمة علّها تصمد أمام المنخفض القادم: "إحنا مش خايفين من المطر إحنا خايفين من اليوم اللي ما نلاقي فيه مكان نستر فيه ولادنا الشتاء بده يتواصل، وإحنا وضعنا أصعب من إنسان يحتمله".
تختم ختام حديثها بنداء استغاثي: "بدنا خيمة آمنة، بدنا سقف بدنا أي شي يحمي ولادنا ما عاد إلنا قدرة نعيش كل ليلة نفس الرعب".
تحذيرات من كارثة إنسانية
حذّر جهاز الدفاع المدني في قطاع غزة، السبت، من كارثة إنسانية وارتفاع محتمل في عدد الوفيات مع اشتداد فصل الشتاء وتعاظم المنخفضات الجوية، في ظل الدمار الواسع الذي خلّفته حرب الإبادة الإسرائيلية واستمرار نزوح مئات الآلاف في خيام لا توفر الحد الأدنى من الحماية.
وقال المتحدث باسم الدفاع المدني محمود بصل إن الواقع في القطاع "صعب جدًا" مع استمرار هطول الأمطار بكميات كبيرة لليوم الثاني على التوالي، مشيرًا إلى أن المنخفض الجوي الحالي تسبب في غرق خيام للنازحين في عدة مناطق، بينها الزرقاء واليرموك والمناطق الخلفية لمستشفى المعمداني بمدينة غزة.
وأوضح بصل أن مخيمات الإيواء غرقت "بشكل كبير جدًا"، وأن المياه داهمت خيام النازحين، ما تسبب بأضرار واسعة للآلاف الذين يفتقرون إلى أبسط مقومات العيش.
وأضاف: "ما تساقط على غزة اليوم من أمطار قليل جدًا فماذا سيحدث إذا تعرضنا لمنخفض عميق أو قطبي لمدة أسبوع؟".
وأكد أن أي منخفض جوي أشد قد يؤدي إلى "أضرار كبيرة جدًا، وربما تسجيل حالات وفاة بشكل كبير"، مشددًا على أن الخيام لا توفر حماية من البرد أو الأمطار ولا يمكن أن تكون مكانًا آمنًا للأسر.
ودعا بصل المجتمع الدولي والمنظمات الإنسانية إلى التحرك العاجل، محذرًا من أن التأخر في إدخال خيام مناسبة ومستلزمات إنقاذ "سيُفاقم الكارثة". وتساءل: "متى ستتحركون؟ هل بعد انتهاء فصل الشتاء؟".
ونبّه إلى مخاطر إضافية تشمل غرق مبانٍ آيلة للسقوط وجثثًا غمرتها مياه الأمطار، في وقت يعاني فيه القطاع من حرمان كامل من مواد البناء بفعل الحصار وسياسات الاحتلال.