مصطفى إبراهيم .. كاتب ومحلل سياسي
منذ عامين، لم تتوقّف المجاعة في غزة، بل تبدّلت أدواتها وأشكالها. فالحرب التي بدأها الاحتلال الإسرائيلي لم تكتفِ بالقتل المباشر، بل مدّت أذرعها إلى المعدة، إلى ما يُطبخ على النار، وإلى ما يُسمح بمروره من المعابر. وهكذا تحوّل الطعام من حقٍّ إنساني إلى أداة سياسية، ومن وسيلة بقاء إلى وسيلة إذلال.
عمليًا، يتحكّم الاحتلال بمن يأكل ومتى، وما نوع الحصّة التي يُسمح بها. لا شيء يُترك للصدفة في “اقتصاد المجاعة” الذي تديره إسرائيل بدقّة حسابية. تُحدّد السعرات الحرارية، وتُقاس كميات الدقيق والزيت والسكر، وتُراقَب حركة الشاحنات كما لو كانت شحنات أسلحة. والنتيجة أن من يأكل في غزة، يأكل وفق خطة عسكرية وضعتها بيروقراطية الاحتلال لتحديد الحدّ الأدنى من البقاء.
في الأشهر الأخيرة، امتلأت بعض الأسواق بالبضائع والمواد المعلّبة، وبدأت وسائل إعلام إسرائيلية وغربية تتحدث عن “تحسّن في الوضع الإنساني”. لكن ما يُعرض على الرفوف لا يعبّر عن واقع المعدة الفلسطينية. فالمجاعة لا تُقاس بعدد العلب على الطاولات، بل بما تحتويه من قيمة غذائية.
الجوع اليوم ليس غيابًا للطعام، بل غيابًا للنوعية. لا بروتين، لا لحوم، لا دواجن، لا ألبان، ولا خضار كافية. معظم ما هو متوفر رديء ومعلّب ومشبع بالأملاح والسكريات الصناعية. إنها هندسة دقيقة للجوع: يُسمح بأن تشبع المعدة لتسكت، لكن يُمنع أن يتغذّى الجسد ليستمر.
هذا النمط من “الإشباع الوهمي” يخلق كارثة صامتة تتجاوز الجوع الظاهر: سوء تغذية حادّ لدى الأطفال والنساء، ضعف في المناعة، أمراض مزمنة تتفاقم بفعل نقص البروتينات والعناصر الحيوية. إنها مرحلة جديدة من التجويع، أكثر نُعومة من مشهد الطوابير على الخبز، لكنها أكثر فتكًا لأنها تُدار بالعقل البارد لا بالقصف.
ليست هذه السياسة جديدة. فمنذ سنوات الحصار الأولى، كانت إسرائيل تُعدّ قوائم بـ “السلع المسموح بها” و”المحظورة”، تُقرّها أجهزة الأمن ووزارات الاقتصاد أو الزراعة. في تلك القوائم كان يمكن أن تجد ما يثير السخرية والأسى معًا:
المعكرونة والعجول والدفاتر المدرسية والأقلام كلها صُنّفت في فترات معينة كـ “سلع أمنية”. كان يُحظر إدخالها إلى غزة لأنها، وفق التصنيف الإسرائيلي، “ليست ضرورية لبقاء السكان على قيد الحياة”.
بهذا المنطق، تحوّل التعليم والطعام إلى تهديد أمني، وصار الكتاب كالقذيفة، والدفتر كالخطر الديموغرافي. كيف يمكن تفسير هذا سوى بأنه نظام سيطرة شامل يسعى لتفكيك المجتمع وتجريده من أدوات الحياة والفكر معًا؟
حتى بعد إعلان وقف إطلاق النار المؤقت، لم يتوقف التجويع. بل أُعيد إنتاجه بصيغة إدارية أكثر إحكامًا. تُدار العملية الآن بمشاركة “خبراء مدنيين وعسكريين” يحدّدون السعرات المسموح بها ونوعية الغذاء الممكن إدخاله، من أجل العقاب، كما كان سابقا ذريعة “منع استغلال المواد من قبل حماس”.
هذا التبرير يعيد إنتاج فكرة أن الجسد الفلسطيني يجب أن يُراقَب ويُحاصَر، وأن الشبع يجب أن يكون مشروطًا بالأمن الإسرائيلي. كل شيء في غزة مرهون بمزاج المؤسسة العسكرية، من الدواء إلى الدقيق، ومن الكهرباء إلى الدفاتر المدرسية.
المجاعة هنا ليست حادثًا طارئًا، بل سياسة مدروسة. فهي لا تُدار بمنع الخبز فحسب، بل بتحويله إلى وسيلة إذلال وسيطرة. تُمنح المواد الغذائية كـ “منّة”، ويُمنع تدفّقها كـ “حق”. وهكذا يصبح الطعام أداة تفاوض لا حقًّا إنسانيًا، وسلاحًا صامتًا يحقّق ما عجزت عنه القنابل: إخضاع الإنسان عبر حاجته اليومية.
حتى من ينجو من الجوع المباشر، يُصاب بجوع آخر — جوع في الكرامة، في القدرة على اختيار طعامه، في أن يطهو ما يريد لأطفاله دون إذن من جيش أجنبي. وهذا ما يجعل “مرحى للمعكرونة” أكثر من جملة ساخرة؛ إنها تلخيص لحرب إبادة تمتد إلى ما هو أبعد من القتل، إلى هندسة الحياة نفسها.
بعد عامين من الحرب، ما زال القطاع يعيش في قبضة المجاعة. ليس لأن المساعدات قليلة فقط، بل لأن الاحتلال حوّل تدفقها إلى أداة تفاوض، وحدّد إيقاعها بما يخدم استمرار الهيمنة. عشرات التقارير الأممية تحدثت عن “المجاعة الوشيكة”، لكن الحقيقة أن المجاعة لم تعد وشيكة، بل مستمرة، تُعاد صياغتها كل يوم بشكل جديد.
ما يجري في غزة ليس مجرد أزمة إنسانية، بل جريمة سياسية مدروسة. الاحتلال الذي فشل في كسر إرادة الناس بالقصف، يحاول كسرها بالتجويع. فالمجاعة ليست غياب الطعام، بل غياب العدالة والحقّ في الحياة. وما دامت إسرائيل تتحكم في لقمة الغزيين وسعرها وتوقيتها، فإن الحرب لم تنتهِ، بل تتخذ شكلًا آخر أبطأ، أعمق، وأكثر قسوة.