طوفان الأقصى يُهشم ما تبقى من هيبة إسرائيل!

أقلام – مصدر الإخبارية

طوفان الأقصى يُهشم ما تبقى من هيبة إسرائيل!، بقلم الكاتب الفلسطيني أحمد عبد الرحمن، وفيما يلي نص المقال كاملًا كما وصل موقعنا:

فشل العدو الصهيوني الذي يسيطر على أجواء غزة من خلال طائراته المسيّرة، وبعض عيونه المنتشرة في أكثر من مكان، ومن خلال اختراقه لشبكة الاتصالات السلكية والجوّالة، في التقاط معلومة واحدة تشير إلى سعي المقاومة للقيام بمثل هذا الهجوم الاستراتيجي.

مر أكثر من 5 ساعات تقريباً على بدء الهجوم الكاسح الذي شنته المقاومة الفلسطينية على مستعمرات غلاف قطاع غزة، وهذه المرة من فوق الأرض، ومن الجو، والبحر، تحت غطاء كثيف من الصواريخ والقذائف التي تجاوزت حتى كتابة هذه السطور 7000 صاروخ.

وفي الحقيقة، لم يكن أشد المتفائلين في الجانب الفلسطيني يتوقع حدوث مثل هذا العمل الاستثنائي، وفي الجانب الآخر، لم يكن أكثر المتشائمين في الجانب الصهيوني، سواء كانوا من المستوطنين، أو من دوائر المخابرات والجيش يعتقدون بأن شيئاً مشابهاً يمكن أن تشهده مستوطنات الغلاف.

وحتى نكون منصفين وواقعيين فإن حجم المفاجأة المدوّية التي استيقظ عليها سكان الجانب الغربي من الخط الزائل، وهم سكان قطاع غزة، لم تكن أقل درجة من مفاجأة سكان الجانب الشرقي منه “المستوطنين الصهاينة”، والذين لم يكن يدور في خلدهم، أو حتى في أسوأ كوابيسهم أن يروا من نوافذ بيوتهم التي اعتقدوا أنها آمنة مقاتلي المقاومة وهم يتجولون في شوارع مستوطناتهم، ويطرقون على الأبواب بكل قوة، بل ويسوقون العشرات منهم كما تقول التقارير الواردة حتى الآن إلى أراضي القطاع.

وفي اعتقادي، أن ما جرى اليوم يمكن أن يُؤرّخ له بأنه من الأحداث المفصلية الكبرى في تاريخ شعبنا الفلسطيني العظيم، بل وفي تاريخ أمتنا العربية والإسلامية. وهذا التأريخ لن يكون في شقّيه العسكري والعملياتي فقط، بل يمكن أن يتوسّع ليشمل جوانب أخرى من قبيل القدرة على اجتراح المستحيل، والرغبة في كسر حدود اللاممكن، والذهاب في اتجاه تحقيق إعجاز فشلت فيه قوى كبرى، وعجزت عنه دول عظمى.

وحتى لا تأخذنا المشاعر الجيّاشة التي تحيطنا من كل جانب عن تحليل ما جرى، والتداعيات التي يمكن أن تترتّب عليه، دعونا نشير إلى بعض الملاحظات الهامة، والتي يمكن أن تشكّل العناوين الفرعية لهذه الملحمة الكبرى، والتي أسمع وأرى جزءاً من تفاصيلها في أثناء كتابتي لهذا المقال.

أولاً: حملة من التمويه
بدا واضحاً خلال المرحلة السابقة حجم عملية التمويه الذي قامت به المقاومة خلال الأسبوعين الأخيرين تحديداً. إذ بدا واضحاً خلال هذين الأسبوعين حجم الرغبة الفلسطينية لا سيما من جانب حركة حماس في الرد على ما يجري في القدس من عدوان، إلى جانب الإجراءات الإسرائيلية التي هدفت إلى تشديد الحصار على قطاع غزة من خلال بعض التظاهرات على الحدود، والتواصل مع الوسطاء لرفع الحصار، وزيادة حجم المنحة المخصصة للموظفين والعائلات الفقيرة ومحطة الكهرباء.

وفي حقيقة الأمر، فإن ما كان يجري هو عملية تمويه مُحكمة، تم من خلالها توجيه كل الأنظار لا سيما الإسرائيلية منها نحو اهتمامات أخرى، ركّزت في معظمها على مواجهة التحدي الأمني في مدن الضفة، معتقدة أن بضعة ملايين من الدولارات، وعدة آلاف من العمال ستنهي المشكلة مع غزة، وسيعم الهدوء في المنطقة الجنوبية من جديد.

ثانياً: تخطيط عملياتي مُحكم
بالاستناد إلى بعض الصور والفيديوهات التي ظهرت حتى الآن، والتي يشير معظمها إلى تمكّن المقاومين من اقتحام عشرات المغتصبات الصهيونية، وإحكام قبضتهم عليها، في مقابل حالة من الانهيار سيطرت على أداء الجنود الصهاينة، ضمنهم وحدات نخبوية من لواء “عوز”، الذي يُنظر إليه إسرائيلياً بأنه أفضل لواء مقاتل في “الجيش” الإسرائيلي، إضافة إلى مقاتلين من وحدة “اليمّام” ذائعة الصيت، يظهر من كل ذلك أن المقاومة خططت لهذا اليوم ببراعة وإتقان منقطع النظير، إذ أخذت في الاعتبار حجم القوات الإسرائيلية المنتشرة على الحدود، إضافة إلى أفضل الطرق وأسهلها للمرور إلى الجانب الشرقي منها، إلى جانب اختيارها التوقيت المناسب للبدء في التحرك الميداني، خصوصاً أن الفترة الحالية تشهد أعياداً يهودية يكون فيها الجنود والمستوطنون في حالة استرخاء تامة، وهو ما أدى إلى وصول المقاتلين إلى قلب المستعمرات الصهيونية على عمق يزيد على 10 كلم بسهولة ويُسر، وقبل أن يستيقظ الجنود أو المستوطنون من نومهم.

ثالثاً: تغطية نارية كثيفة
كان من المهم لنجاح عملية التوغل البري أن تكون هناك تغطية نارية مناسبة، بحيث ينشغل العدو في النظر باتجاه السماء، محاولاً تفادي أثر الصواريخ والقذائف التي انهمرت بشكل غير مسبوق، وساعياً لتفعيل قبته الحديدية التي انهارت بشكل كبير.

وهذا ما سمح للمقاتلين بالتوغل البري من أكثر من مكان، وعبر أكثر من وسيلة، والوصول إلى مناطق بعيدة نسبياً عن حدود القطاع والسيطرة شبه الكاملة على العديد من المواقع والمستوطنات، وقتل عشرات الجنود والمستوطنين وأسرهم كما يشير الكثير من المصادر حتى الآن.

رابعاً: تعمية استخبارية كاملة
على الرغم من أن هذه العملية النوعية احتاجت عدداً كبيراً من المقاتلين، الذين تحركوا بآلياتهم رباعية الدفع، ودراجاتهم النارية، إضافة إلى من تسلل من البحر، أو هبط من السماء، وما يمكن أن يحتاجه ذلك من تدريبات مكثفة بالذخيرة الحيّة لمدة تتجاوز الأشهر وليس الأسابيع، رغم كل ذلك، فشل العدو الصهيوني الذي يسيطر على أجواء غزة من خلال طائراته المسيّرة، وبعض عيونه المنتشرة في أكثر من مكان، ومن خلال اختراقه لشبكة الاتصالات السلكية الرسمية (الهواتف الأرضية)، والجوّالة من خلال الهواتف المحمولة، ومعظم الشبكات اللاسلكية ومواقع الإنترنت، في التقاط معلومة واحدة تشير إلى سعي المقاومة للقيام بمثل هذا الهجوم الاستراتيجي. واستمر هذا الإخفاق الاستخباري حتى بعد ساعات من بدء الهجوم.

خامساً: حرمان “إسرائيل” من مصادر قوتها
بما أن المقاومة الفلسطينية تعمل بأسلوب “الحرب اللامتناظرة”، ويعد حرمان العدو من مصادر تفوّقه أحد أهم مبادئها، فقد سعت المقاومة لمنع العدو من استخدام قوته النارية الهائلة ضد مقاتليها سواء أثناء تنفيذ العمليات داخل العمق الإسرائيلي، أو أثناء الانسحاب إلى داخل أراضي القطاع. وعلى رأس تلك الإجراءات التي حرمت المقاومة العدو من استخدامها كان إجراء “حنبعل”، الذي يستخدمه العدو عند أسر أحد جنوده، إذ يقوم بعملية قصف عنيفة باتجاه المناطق التي يعتقد أن المقاومين انسحبوا تجاهها، كما حدث في مدينة رفح بعد أسر الجندي “هدار جولدن” في عدوان 2014.

في هذه المرة، ونتيجة العدد الكبير من الأسرى الصهاينة، ونتيجة الإرباك الحاصل داخل وحدات الجيش المنوط بها تنفيذ هذا الإجراء، والتي يتموضع معظمها في موقع كيسوفيم العسكري شرق دير البلح، ومواقع أخرى مقابل حدود مدينة غزة، لم يستطع العدو القيام بأي تحرّك مشابه، لأنه ببساطة سيقوم بقتل عدد كبير من جنوده ومستوطنيه، وهو ما سيفتح على الحكومة و”الجيش” أبواب جهنم من جانب الشارع الإسرائيلي.

ختاماً، نقول ونحن بانتظار أن ينجلي المزيد من الوقائع والمشاهد من غزوة “طوفان الأقصى”، إن ما جرى اليوم هو هزيمة استراتيجية ساحقة تلقتها “إسرائيل” في عقر دارها، وأن توابع وارتدادات هذه الهزيمة على مستقبل هذه “الدولة” ستكون هائلة.

بعد هذا اليوم لن تبقى سمعة “الجيش” الإسرائيلي كما اعتدنا عليها، “جيش” من فولاذ يقهر كل أعدائه، ويهزمهم بالضربة القاضية. من اليوم فصاعداً، يمكن النظر إلى هذه القوة الغاشمة بأنها وحش من غبار، يمكن بشيء من التخطيط، وبمزيد من الإرادة، أن تتم هزيمتها وقهرها.

اليوم، نحن أمام لحظة فارقة يمكن البناء عليها لو تضافرت الجهود، واتحدت الساحات، واجتمعت الجبهات. لو حدث ذلك فعلاً في هذه المرحلة الحاسمة، ستكون الأمة أمام نصر كبير لم يحدث له مثيل من قبل.

أقرأ أيضًا: كتب مصطفى إبراهيم: هجوم غير مسبوق وتداعياته خطيرة

في ذكرى انطلاقة الجهاد الإسلامي الـ36.. أي مستقبل؟ وأي تحديات؟

أقلام – مصدر الإخبارية

في ذكرى انطلاقة الجهاد الإسلامي الـ36.. أي مستقبل؟ وأي تحديات؟، بقلم الكاتب الفلسطيني أحمد عبد الرحمن، وفيما يلي نص المقال كاملًا كما وصل موقعنا:

منذ نشأة حركة الجهاد الإسلامي قبل 42 عاماً وأجندتها مُعلنة على رؤوس الأشهاد، وهي تدعو إلى التحالف مع كل قوى الأمة الحيّة التي تعارض وجود رأس حربة المشروع الاستعماري في المنطقة المسماة “إسرائيل”.

في أواسط سبعينيات القرن الماضي، بدأت فكرة تشكيل تنظيم فلسطيني مسلّح ذي خلفية إسلامية ينتهج مبدأ الكفاح والقتال في مواجهة الكيان الصهيوني تراود عقول بعض الشباب الفلسطينيين الدارسين في جمهورية مصر العربية.

كان على رأس تلك المجموعة من الطلبة شاب في مقتبل العمر لم يتجاوز العقد الثالث من عمره بعد، يُدعى فتحي إبراهيم الشقاقي، من مدينة رفح جنوب قطاع غزة، وكان يدرس في كلية الطب في جامعة الزقازيق.

بدا هذا الشاب في ذلك الوقت متقدّماً على الكثير من أقرانه على صعيد الفكر والنظرة إلى المستقبل، وبدا كذلك أنه يحمل رؤية إسلامية مختلفة عن تلك التي كانت سائدة في أوساط الإسلاميين حينذاك، ولا سيما في أوساط جماعات الإسلام السياسي، وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين التي كان ينتمي إليها.

بدأت الفكرة لدى الشقاقي تكبر يوماً بعد يوم، وأخذت تتحوّل بشكل تدريجي إلى نشاطات محدودة، من خلال نشرات صغيرة وجلسات قليلة العدد رافقها طرح لبعض الأفكار التي بدت في ذلك الوقت غريبة وغير منطقية، إلا أن سلاسة طرحها من قبل ذلك الشاب الذي كان أصدقاؤه يصفونه بأنه متّقد الذهن وشديد الذكاء ويملك قدرة كبيرة على الإقناع، جعلها تجد طريقها نحو قلوب وعقول مجموعة من رفاق الدراسة الذين كان بعضهم يأتي من أماكن بعيدة، حيث يدرسون في جامعات الصعيد والإسكندرية، إلى جامعة الزقازيق للاستماع إليه وهو يُبحر في عالم الفكر، ويُبدع في عالم السياسة، وينظر إلى القضية الفلسطينية من خلال منظور جديد، ويقدّم قراءة هادئة ومرنة للإسلام بمفهومه الواسع الذي يقبل الاختلاف ويستوعب الجميع، ويفنّد الكثير من الأكاذيب، ويوضح الكثير من الحقائق، ويضع الأمور التي تهم الأمة في نصابها، بعيداً من الأجندات الحزبية والسياسية والمذهبية.

في تلك الفترة من عمر الأمة، حدث تطور مهم ودراماتيكي قلب الأمور رأساً على عقب، وشكّل رافعة لكل قضايا المستضعفين في المنطقة والعالم، وتحوّل إلى أنموذج فريد من نوعه لكل من أراد مقارعة الظلم ومجابهة قوى الاحتلال.

هذا الحدث كان انتصار الثورة الإسلامية في إيران بقيادة الإمام الخميني على نظام الشاه المجرم في شباط/فبراير من العام 1979، وما رافق ذلك من تطوّرات وتحوّلات صبّت جميعها في مصلحة قضايا الأمة العادلة، وفي المقدمة منها القضية الفلسطينية.

فجّرت تلك الثورة شعوراً طاغياً بالأمل والتفاؤل عند الشاب فتحي الشقاقي ورفاقه، إذ رأوا فيها ما يخفف عنهم وحدتهم وقلّة عددهم وغربة أفكارهم وأطروحاتهم، ونظروا إليها بأنها يمكن أن تشكّل بديلاً حقيقياً لكثير من المبادئ البالية والأطروحات الهزيلة والأنظمة الفاسدة، وهو ما عبّر عنه الشقاقي من خلال كتابه الذي بدا غريباً وجريئاً آنذاك “الخميني.. الحل الإسلامي والبديل”، الذي اعتقل في إثره عدة أيام في السجون المصرية.

بعد عامين ونصف عام تقريباً من انتصار الثورة الإيرانية، وقع حدث مفصلي آخر، إذ تم اغتيال الرئيس المصري محمد أنور السادات في 6 تشرين أول/أكتوبر 1981، بعيد فترة وجيزة من عودة الشقاقي إلى قطاع غزة، بعدما أنهى دراسته الجامعية.

بعد عملية الاغتيال، تم اعتقال جزء كبير من أصدقاء الشقاقي ورفاقه الذين لم يُنهوا دراستهم بعد، رغم عدم تورطهم من قريب أو بعيد بتلك العملية، إذ تم ترحيلهم لاحقاً إلى قطاع غزة. حينها، التمّ شمل الأصدقاء من جديد، وعادت الفكرة إلى وهجها مرة أخرى.

وبعد مداولات ونقاشات مستفيضة، تم الاستقرار على تحويل الحلم إلى حقيقة، والفكرة إلى واقع، والمأمول إلى ملموس، إذ وُضعت في أواخر العام 1981 اللبنة الأولى لتأسيس حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، التي تمر علينا في هذه الأيام الذكرى الثانية والأربعون لتأسيسها على أيدي الشقاقي وإخوانه، والذكرى السادسة والثلاثون لانطلاقتها الجهادية التي تم التأريخ لها في ذكرى عملية الشجاعية البطولية في 6 تشرين الأول/أكتوبر 1987، التي كانت أحد الأسباب المباشرة لاندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى بعد ذلك بشهرين تقريباً.

إطلالة على التاريخ
منذ ذلك التاريخ الذي أُسّست فيه حركة الجهاد، وخلال سنوات طويلة، عاشت الحركة بثبات وصمود ورباطة جأش، رغم ما تعرّضت له من استفزازات واتهامات ومضايقات، ورغم ما تلقّته من ضربات من رأس الشر والإفساد في المنطقة “إسرائيل”، ورغم وحشة الطريق الذي سارته في كثير من الأحيان وحيدة، تلملم أشلاء قادتها ومجاهديها، وتعضّ على ألم الخذلان وقلّة النصير، ورغم فقرها وقلّة زادها وحصارها ومحاولة خنقها.

رغم كل ذلك وغيره الكثير مما لا يسمح الوقت بالتذكير به، استمرت الحركة في طريقها من دون أي تراجع أو انكفاء، تواجه الريح، وتتصدّى للتشويه، ولا ترقب من فوهات بندقيات رجالها الأشدّاء إلا مآذن القدس العتيقة، ولا ترنو ببصرها رغم محاولات التعتيم وظلمة الطريق إلا إلى فجر الحرية والتحرير، غير آبهة بتضحيات هائلة وطعنات غادرة، مرددة قول أمينها العام الأول ومؤسسها الشهيد فتحي الشقاقي: “حارس العمر الأجل”، ومستلهمة الشعار الخالد لأمينها العام الثاني الدكتور رمضان شلح رحمه الله: “والله لو وضعوا كل شموس الأرض في يميننا، وكل أقمارها في يسارنا، على أن نتنازل عن شبر واحد من فلسطين أو ذرة تراب من القدس فلن نقبل”.

في ثنايا هذا التاريخ المجيد لحركة الجهاد الإسلامي، يمكن لنا أن نرى حجم الجهد والتعب الذي قدّمته الحركة وما زالت، إذ كان لها شرف تفجير انتفاضة الحجارة، وإن كان البعض ما زال يحاجج في ذلك، وكان لها شرف تفجير ثورة السكاكين، وإن كان البعض ما زال يُنكر ذلك، وكان لها شرف تنفيذ أول عملية استشهادية في فلسطين، وإن كان البعض يحاول أن يتجاوز عن ذلك.

وكان لها شرف رفع شعار الواجب رغم الإمكان وتحقيقه فعلاً مقاوماً على الأرض، على الرغم من تشكيك البعض في ذلك، وكان لها شرف إعادة الروح إلى العمل المقاوم في الضفة المحتلة بعد سبات طويل استمر أكثر من 15 عاماً، رغم إنكار البعض ذلك، وكان لها الكثير والكثير من البطولات والإنجازات التي لا يتسع المجال لذكرها، والتي وضعتها منذ النشأة وحتى الآن على رأس قائمة المستهدفين بالقتل والاغتيال والحصار والتشويه.

أجندة الجهاد الإسلامي
خلال هذه المسيرة الطويلة من البذل والعطاء، كانت أجندة الجهاد واضحة كالشمس، سواء على المستوى الداخلي أو على صعيد علاقاتها في المنطقة والإقليم، فهي لم تتلوّن كما يفعل البعض، ولم تقفز من قارب باتجاه آخر عند شعورها بالمخاطر والأزمات، ولم تُسقط شعارات وترفع أخرى بحسب ما تقتضيه مصلحة الحركة، بل ظلّت ثابتة متمسكة بمبادئها من دون خوف أو وجل، رغم ما دفعته من أثمان، وما زالت أمينة على مصالح شعبها وأمتها، وحريصة على أن تبقى يدها نظيفة من المال الحرام، ومن دم إخوة الدين والوطن. عدوّها واحد، وقتاله مقدّم على كل ما سواه. لا تلتفت إلى الصغائر، ولا تنتظر من أحد صدقة أو إحساناً.

منذ نشأة حركة الجهاد الإسلامي قبل 42 عاماً وأجندتها مُعلنة على رؤوس الأشهاد، وهي تدعو بكل وضوح إلى التحالف مع كل قوى الأمة الحيّة التي تعارض وجود رأس حربة المشروع الاستعماري في المنطقة المسماة “إسرائيل”. لذلك، رفعت شعار مركزية القضية الفلسطينية، وهي تدعو كذلك إلى وحدة الأمة على قاعدة جمع مفردات القوة في الأمة، حتى تستطيع مواجهة تكتل قوى الشر والعدوان الذي يقف على رأسه “الشيطان الأكبر” أميركا.

أجندة الجهاد كانت وما زالت ترتكز على الدعوة لمواجهة العدو في كل أماكن وجوده، وبكل الوسائل الممكنة، والتواصل مع كل المكوّنات التي يمكن أن تساعد في الوصول إلى هذا الهدف، بصرف النظر عن اللغة والطائفة والعِرق واللون.

وقد حرصت حركة الجهاد على مدار تاريخها الطويل وقيادتها المتعاقبة على بناء علاقات داخلية وخارجية واضحة وشفّافة، إذ لم يحدث أنها سمحت لأي حليف أو شريك، إقليمياً كان أو محلّياً، ومهما كانت قوة العلاقة معه بالتدخّل في قرارها أو فرض أجنداته عليها أو التأثير في توجهاتها وعلاقاتها.

ورغم أن البعض اعتقد في لحظة ما، سواء بحسن نيّة أو بغير ذلك، أن تحالف الحركة مع قوى إقليمية معينة وتلقّي الدعم منها بعدما تخلّى عنها معظم العرب والمسلمين هو انصياع لأجندة خارجية واستسلام لمشيئة إقليمية، فقد أظهرت السنوات الأخيرة أن موقف الجهاد كان صائباً، وأن الحركة كانت تنظر إلى المستقبل بعيون مفتوحة وبقلب طاهر ونظيف.

ثبات رغم التغيّرات
على الرغم من التأثيرات الهائلة التي يمكن أن تُحدثها أي عملية تغيير على مستوى القيادة في هيكلية الدول أو الجماعات وعملها، وهو الأمر الذي عانته حركة الجهاد الإسلامي، وتحديداً على صعيد الأمانة العامة، فإن هذا التغيير الذي جاء في فترات حسّاسة وحاسمة من عمرها لم يؤدِّ إلى سقوطها أو تفكّكها، سواء على مستوى الهيكل التنظيمي أو فيما يخص علاقاتها وتحالفاتها أو على صعيد التعامل مع القضايا المختلفة.

وبعد استشهاد الأمين العام المؤسس الدكتور فتحي الشقاقي في تشرين الأول/أكتوبر 1995، وتولي خلفه الدكتور رمضان شلح (رحمه الله) منصب الأمانة العامة، لم تعانِ الحركة، كما توقّع البعض حينها، تحولاً استراتيجياً في مواقفها من عدد من القضايا، سواء على المستوى الداخلي أو على المستوى الإقليمي، ناهيك بحالة الاشتباك مع العدو الصهيوني، ولم تُعِد تموضعها السياسي أو الميداني، كما اعتقد آخرون.

ويبدو لي أن البعض في تلك الفترة، ولا سيما من أصحاب النيات الحسنة، اختلط عليهم الأمر ما بين الشكل والمضمون، إذ إنهم اهتموا بالشكل والأسلوب وبعض المفردات التي استخدمها كل من الدكتور الشقاقي وخلفه الدكتور رمضان، وتغاضوا عن الفكرة والمبدأ والمضمون، الذي كان كله منسجماً إلى أبعد الحدود.

هذه الحال تكرّرت بعد تولّي الأمين العام الحالي الأستاذ زياد النخالة الأمانة العامة قبل 4 سنوات ونصف سنة تقريباً، إذ مضى على الطريق نفسه، وحافظ على الإرث التاريخي للحركة كما هو من دون نقصان، بل ربما توسّعت الحركة في عهده نتيجة الكثير من التطورات في ساحات أخرى غير الساحة الفلسطينية، وباتت خلال السنوات الثلاث الأخيرة تحديداً أكثر نضوجاً ووضوحاً وقوةً، وهو ما أهّلها لتقود مرحلة صعبة وحاسمة من تاريخ الصراع مع المحتل الصهيوني.

ويمكن لنا أن نقول بكل حياد وشفافية إن القائد النخالة لم يبتدع سياسة مختلفة عن سابقيه، كما يدّعي البعض، ولم يقامر بمصلحة شعبه وأهله تنفيذاً لأجندات خارجية، كما يزعم البعض الآخر، بل إنه تحمّل أمانة وتركة ثقيلة في مرحلة صعبة وحساسة من تاريخ الصراع في فلسطين والمنطقة، احتاج فيها إلى كثير من الحنكة والذكاء، ورباطة الجأش، والصبر على الأذى، حتى يتمكّن من قيادة حركته وشعبه إلى بر الأمان.

تحدّيات وعوائق
بما أن حركة الجهاد الإسلامي منذ نشأتها وحتى يومنا هذا اختارت المضي في طريق الجهاد والمقاومة من دون النظر إلى ما يمكن أن ينتج منه من أثمان باهظة وتضحيات هائلة عاشت بعض تفاصيلها في السنوات الأربع الأخيرة تحديداً، إذ تم اغتيال قادتها التاريخيين في قطاع غزة، وتشديد القبضة الأمنية على ناشطيها وكوادرها السياسيين والعسكريين في عموم الضفة المحتلة، وصولاً إلى استهداف كوادرها في سوريا وغيرها من دول المنطقة، والكثير من التحدّيات الأخرى على صعد مختلفة لا نجد الوقت مناسباً للإشارة إليها أو الكشف عنها، فإنها بالرغم من كل ذلك تواصل المسير من دون كلل أو ملل، مؤمنة بأن المطلوب منها هو العمل فقط، وليس التكفّل بالنتائج، إذ إن النتائج تبقى في يد الله وحده.

وبالتالي، فإن استمرارها على هذا الدرب الذي قد يبدو موحشاً في فترات كثيرة يضع أمامها الكثير من التحديات والعوائق التي يجب عليها تجاوزها وعدم الاستسلام لها أو التوقّف عندها، والحركة لديها تجربة غنية تؤهلها للقيام بهذا الأمر بنجاح، لا سيما أنها تملك الخبرة المطلوبة والإمكانيات المعقولة والإيمان المطلق بأن أصحاب الحق لا يتعبون، ولا يتراجعون، ولا ينكسرون.

أولى تلك التحدّيات التي تواجهها حركة الجهاد هي البناء الداخلي، إذ إن البناء الداخلي للحركات والتنظيمات يعد أخطر تحدٍّ يمكن، في حال ترهّله أو ضعفه، أن يؤثر في جسمها، لا سيما في ظل تعرّض هذا البناء لكثير من الضغوطات الهائلة الناتجة من فقدان القادة وانخفاض الدعم المالي وزيادة الأعباء والتغيّرات على مستوى البيئة والمجتمع.

وفي اعتقادي، إن الحركة رغم ما تعرضت له من ضربات، ورغم ما عانته من أزمات، خصوصاً على المستوى المالي، ما زالت تملك كل القدرة على مواجهة هذا التحدّي وتجاوز آثاره بأقل قدر من الخسائر.

وقد كانت التجربة الانتخابية التي خاضتها الحركة قبل أشهر لاختيار أعضاء مكتبها السياسي وأمينها العام، في ظل الحملات الإسرائيلية العنيفة التي استهدفتها، خير دليل على أنها تملك من القدرة التنظيمية والخبرة والحنكة السياسية ما تستطيع من خلاله تحدّي الكثير من العوائق وتجاوز الكثير من العراقيل.

التحدّي الثاني الذي لا يقل أهمية عن سابقه هو المواجهة مع العدو الصهيوني وما يترتّب عليها من نتائج وتداعيات. لقد ركّز العدو معظم جهوده الاستخبارية والعسكرية خلال السنتين الأخيرتين تحديداً على حركة الجهاد، لأنه أدرك قبل غيره أنها مسؤولة عن إشعال ساحات الضفة المحتلة من جديد، وأنها لا ترضى بالضيم، ولا تسكت على العدوان، وأنها جاهزة على الدوام، وبصرف النظر عن الكثير من الظروف المحيطة، للذهاب نحو المواجهة معه والتصدّي لمخططاته، مهما كلف ذلك من ثمن.

لذلك، قام العدو بشن العديد من الحملات العسكرية ضد الحركة، سواء في طول وعرض الضفة الغربية؛ ساحة الصراع الأساسي الآن أو في قطاع غزة، حيث تموضع القوة العسكرية الرئيسية التي تملكها، والتي تلوّح من خلالها في وجه العدو كلما حاول التغوّل على شعبها أو الاعتداء على مقدساتها.

وبالتالي، فإن الحركة أمام تحدٍ صعب ومكلف ويحتاج إلى الكثير من الخطط والدراسات والنظرة إلى المستقبل، ولا سيما أن المواجهة مع العدو لم تعد كما كانت في السابق، إذ إنها أصبحت أكثر عنفاً، وأوسع مدى، ويمكن أن تنتج منها تداعيات مؤثرة وحاسمة.

هذه المواجهة فرضت على الحركة تحدياً ثالثاً، ووضعها أمام التزام حاسم ومصيري، إذ إنها أفرزت واقعاً جديداً لا أكاد أذكر أنها مرّت به خلال سنوات طوال من عمرها، إذ تم اغتيال عدد كبير من قادتها العسكريين الذين كان بعضهم يشغل مهام حيوية وحسّاسة على صعيد المواجهة مع العدو، سواء في أثناء المعارك المختلفة التي جرت مع المقاومة في قطاع غزة، أو من خلال الإشراف وتوجيه سير العمل المقاوم الذي تقوم بها كتائب سرايا القدس في الضفة المحتلة.

وبناء عليه، ونتيجة فقدان الحركة قادة كباراً من مؤسسي جناحها العسكري، لا سيما في معركتي “وحدة الساحات” و”ثأر الأحرار” أو في أواخر عام 2019، حين تم اغتيال أحد أبرز قادتها الشهيد بهاء أبو العطا أو خلال المواجهات الكثيرة التي خاضتها مع الاحتلال في السنوات الأخيرة، فإنها تواجه تحدي إعادة هيكلة جناحها العسكري الذي بات يتحمّل أكبر عبء على صعيد المواجهة مع قوات الاحتلال إلى جانب باقي فصائل المقاومة الوطنية والإسلامية.

ليس هذا فحسب، بل عليها أيضاً القيام بكل ذلك على صعوبته في ظل استمرار المواجهة، وتواصل العدوان، وارتفاع منسوب التهديدات التي تتعرّض لها كل يوم في عدد من الساحات، والتي تستهدف كل مفاصلها، وفي مقدمتها قادة الصف الأول.

التحدّي الرابع الذي ينبغي للجهاد الإسلامي مواجهته هو تحالفاتها المحلية والإقليمية، التي اتسمت، كما أشرنا سابقاً، بالوضوح والشفافية وتميّزت عن غيرها بالمواقف المبدئية التي لا تخضع لتبادل المصالح أو المنافع.

وفي اعتقادي، إن تحالفات الحركة على المستوى الداخلي كانت، وما زالت، متوازنة وناضجة إلى أبعد الحدود، على الرغم من مرورها ببعض الفتور والتوتّر مع بعض الفصائل في أوقات معينة، نتيجة ظروف قاهرة وتباينات طارئة، إلا أنها لطالما عادت إلى طريقها القويم بالسرعة القصوى، متجاوزة بعض الخلافات، ومتناسية بعض الأخطاء والهفوات.

والتحدّي هنا ليس نتاج خلاف حركة الجهاد مع هذا الفصيل أو ذاك، إنما نتيجة وجود تباينات كبيرة بين تلك الفصائل، لا سيما أكبر حركتين فتح وحماس، وهذا ما يجعل الجهاد، وهي التي بذلت جهوداً جبارة في سبيل تقريب وجهات النظر بين الجانبين، تمشي وسط حقل من الألغام، إذ إن المطلوب منها هو الحفاظ على علاقات واضحة ومرنة تجاه طرفين متناقضين في كثير من الملفات، وهو الأمر الذي أثبتت التجربة أنه عمل صعب ومعقّد، ويحتاج إلى الكثير من طول النفس والحنكة والذكاء.

أما على مستوى المنطقة والإقليم، فتبدو علاقات الحركة منسجمة مع خطّها العام الذي يرفع شعاراً واضحاً لا لبس فيه، ويشير إلى أن محددات اقتراب الحركة أو ابتعادها من هذا الطرف أو ذاك يأتي نتيجة موقفه من القضية الفلسطينية من جهة، وموقفه من العدو الصهيوني من جهة أخرى.

إن الحركة تقترب من أي طرف، بصرف النظر عن حجمه ووزنه، بقدر اقترابه من قضية الشعب الفلسطيني العادلة، وتبتعد عن كل الأطراف التي تنأى بنفسها عن هذه القضية المحقّة وتدير ظهرها لها، كما يفعل الكثيرون.

وبما أن الحركة تدير علاقاتها الإقليمية على هذا الأساس، فهي لا تجد حرجاً في الاقتراب من دول حاول البعض إظهارها بأنها صاحبة مشاريع مذهبية وطائفية، كالجمهورية الإسلامية في إيران، وهي التي ثبت للجميع بأنها صاحبة أكبر مساهمة في دعم المقاومة الفلسطينية بمختلف فصائلها وتحويلها من مقاومة متواضعة على مستوى الإمكانيات والخبرات إلى قوة مهنية وصلبة ومهابة الجانب.

في المقابل، لا تجد غضاضة في الابتعاد عن كثير من الدول التي لم تكن يوماً سوى خنجر مسموم في ظهر الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، ولم تقدم له سوى المزيد من اليأس والإحباط والخذلان.

ختاماً، نحن نعتقد أن مسيرة حركة الجهاد العبقة بدماء شهدائها الأبرار، وبشموخ أسراها البواسل في سجون الاحتلال، وبإصرار مقاتليها الأبطال في غزة وجنين ونابلس وطولكرم وطوباس وعقبة جبر وكل جنبات الوطن، ستصل في نهاية المشوار إلى ما ترنو إليه، غير عابئة بجراحات تُدمي جسدها، ولا بعقبات تعترض طريقها، وهي مسيرة لن تتوقف إلا على أبواب المسجد الأقصى، ترفع شارات العزة، وتلوّح برايات الحرية، وتردّد نشيد الانتصار.

أقرأ أيضًا: الوحدات والتشكيلات العسكرية الإسرائيلية بقلم أحمد عبد الرحمن

التحركات الأميركية عند الحدود السورية – العراقية.. أي أهداف وتداعيات؟

أقلام – مصدر الإخبارية

التحركات الأميركية عند الحدود السورية – العراقية.. أي أهداف وتداعيات؟، بقلم الكاتب الفلسطيني أحمد عبد الرحمن، وفيما يلي نص المقال كاملًا كما وصل موقعنا:

على رغم ان كثيرين من الخبراء والمتابعين ما زالوا يعتقدون أن الوجود الأميركي في المنطقة هو وجود رمزي يهدف إلى المحافظة على المصالح الأميركية فحسب، وعلى رغم أن آخرين ينظرون إلى أن عدد الجنود الأميركيين الموجودين في المنطقة بصورة دائمة، لا يعطي أميركا أي فرصة في القيام بأعمال عسكرية واسعة، وأنه عبارة عن وجود موقّت وطارئ، ولا توجد رغبة لدى متخذي القرار في واشنطن في أن يصبح طويل الأمد ومُستداماً، فإن حقيقة الأمر تبدو غير ذلك تماماً، إذ إن الرغبة الأميركية في البقاء تبدو واضحة للعيان، وإن كانت بأقل عدد من الجنود، ولا سيما في ظل وجود حلفاء إقليميين ومحليين في إمكانهم القيام بالدور نفسه الذي تقوم به القوات الأميركية.

هذه الرغبة أكدها كثير من التصريحات الأميركية في الاسابيع الأخيرة، والتي كان آخرها ما قاله رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة الجنرال مارك ميلي خلال زيارته الأردن في الأول من أيلول/سبتمبر الحالي، بحيث قال “إن منطقة الشرق الأوسط مهمة جداً للولايات المتحدة، ولا يمكن تصوّر تخلي الولايات المتحدة عن الشرق الأوسط أبداً”.

بالإضافة إلى ذلك، فإنه يبدو أن الولايات المتحدة لن تكتفيَ بالبقاء في المنطقة فحسب، بل هي ذاهبة أيضاً في اتجاه إحداث تحولات استراتيجية على مستوى الإقليم، وهذا أيضاً واضح من خلال توسيع علاقاتها بأطرافٍ وأعراقٍ شتّى، ولا سيما في المناطق الساخنة، كالشرق والشمال الشرقي من سوريا، وغربي العراق، والسودان، وغير ذلك من دول المنطقة. وكل ذلك يصب، كما يبدو، في خدمة مشاريع التقسيم التي تعمل عليها واشنطن بمساعدة الكيان الصهيوني، وبعض الدول العربية، ولا سيما الخليجية منها، والتي تتولّى تمويل كثير من المشاريع تحت عناوين متعددة، وهي تصب في الاتجاه نفسه.

إلى جانب التصريحات والمواقف المُعلنة، يمكن لنا ان نلاحظ وجود عدد من الإجراءات الميدانية، التي تشي بأن هناك تطوراً ما قادماً، ولا سيما في المنطقة الحدودية بين العراق وسوريا. في تلك المنطقة، بالغة الأهمية بالنسبة إلى كثير من الأطراف الإقليميين، كونها تمثّل شرياناً برياً حيوياً لدول قريبة منها، وأخرى بعيدة عنها، تبدو الامور معقّدة بطريقة فريدة، إذ إن اللاعبين، الذين يحاولون الاستثمار فيها، كُثُر، بالإضافة إلى المتربّصين وأصحاب المصالح الفئوية والمناطقية، والذين يحاولون اللعب على كل الحبال، علّهم يحصلون على مبتغاهم ومرادهم، بأقل جهد ممكن.

وكان لافتاً، خلال الأشهر الأخيرة، حجم التحركات الأميركية بالقرب من الشريط الحدودي بين سوريا والعراق، ولا سيما في المنطقة الحدودية الواقعة بين مثلث التنف جنوبي شرقي سوريا، حيث الوجود الأميركي الأبرز، وصولاً إلى حدود الحسكة، حيث سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية”، “قسد”.

في هذه المنطقة المترامية الأطراف، والتي تمتد أكثر من 250 كلم، ويقع عند أحد طرفيها معبر القائم العراقي، ويقابله عند الطرف السوري الآخر معبر البو كمال، تبدو الأمور مرشّحة لتحوّلات دراماتيكية، وخصوصاً في ظل التحرّكات الأميركية المشبوهة، والتي تأخذ أشكالا متعددة، وتستخدم من خلالها واشنطن مروحة واسعة من الخيارات التكتيكية الميدانية، وأخرى سياسية.

تحرّكات مريبة ومشبوهة
بحسب كثير من المصادر العراقية والسورية، وأخرى تابعة لدول إقليمية وزانة، فإن القوات العسكرية الأميركية، المنتشرة في أكثر من مكان في سوريا والعراق، بدأت تنفيذ تحركات ميدانية غير تقليدية، إذ قامت بإرسال أرتال عسكرية كبيرة من قاعدة عين الأسد في صحراء الأنبار العراقية في اتجاه قاعدة التنف الواقعة في المثلث الحدودي بين سوريا والعراق والأردن، والتي تضم القوات الأميركية الأكبر في الأراضي السورية، بالإضافة إلى وجود عدة مجموعات مسلحة داخلها أو بالقرب منها، وهي تأتمر بأوامر القوات الأميركية في سوريا.

وبدا واضحاً أن وصول هذه الأرتال لم يكن بداعي تبديل القوات الموجودة بقوات أخرى، كما يحدث في بعض الاوقات، بحيث إنه لم يُلحظ خروج قوات من تلك التي توجد في القاعدة في اتجاه الأراضي العراقية، وإنما كانت حركة القوات في اتجاه واحد، هو الأراضي السورية.

بالإضافة إلى ذلك، قامت القوات الأميركية الموجودة في القواعد العسكرية في ريف دير الزور والحسكة بنصب بطاريات مدفعية طويلة المدى، من طراز “هيمارس”، يبلغ مداها نحو 70 كلم، وتتميّز بدقة إصابة عالية جداً، وأثبتت نجاعة ملحوظة في الحرب الروسية الأوكرانية. بالإضافة إلى ذلك، تم استحداث قاعدتين أميركيتين جديدتين، واحدة في منطقة السويدية في ريف الرقة الغربي، والأخرى عند مدخل الرقة الجنوبي.

ليس هذا فحسب، بل إن مجموعة من المصادر العراقية تشير إلى تحركات أميركية أوسع كثيراً من ذي قبل عند الحدود بين سوريا والعراق من الناحية العراقية، وخصوصا في المناطق القريبة من معبر القائم الحدودي، والذي يُعَدّ الشريان البري الوحيد الذي يمكن استخدامه للتجارة بين البلدين من دون تدخل أميركي أو تركي أو كردي. ونفت تلك المصادر أن يكون ما يجرى عبارة عن مناورات، أو إعادة انتشار للقوات الأميركية في صحراء الأنبار.

إذ إنه لم يسبق لهذه القوات القيام بما يشبه هذه التحركات، أو ما يوازيها خلال الأعوام الماضية، بالإضافة إلى أن المنطقة الحدودية بين الجانبين السوري والعراقي تشهد حالة من الهدوء، في ظل سيطرة الجيش السوري على معبر البو كمال والمناطق المجاورة له، ولا توجد أي اشتباكات أو عمليات قتالية من أي نوع قد تتطلّب مثل هذا النوع من التحرّكات.

إلى جانب كل ذلك، بدت واضحةً كثافةُ الطلعات الجوية للطيران الأميركي المسيّر، والذي يقوم منذ عدة أشهر بتنفيذ طلعات شبه يومية تستمر ساعات طويلة فوق المنطقة الحدودية، وفي محاذاتها، وبالقرب من مناطق سيطرة الجيش السوري، ولا سيما في دير الزور وريفها.

وبناءً عليه، يرجّح معظم المراقبين والمتخصّصين أن يكون الهدف الأميركي أبعد من ذلك كثيراً، وهو يتعلّق بسعيه لتحقيق أهداف قد تبدو، من وجهة نظر البعض، استراتيجية، وتحمل طابعاً حيوياً ومؤثّراً في جغرافيا المنطقة.

أهداف أميركية مُحتملة
نظراً إلى أهمية المنطقة بالنسبة إلى كثير من الأطراف، وبحيث أنها تُعَدّ مجالاً استراتيجياً وحيوياً لعدة جهات في الإقليم، ولا سيما لدول محور المقاومة، وفي المقدمة منها الجمهورية الإسلامية في إيران، التي تسعى لفتح طرق برية آمنة ومُستدامة، من أجل إيصال تجارتها إلى شواطئ المتوسط، انطلاقاً من أراضيها، ومروراً بالأراضي العراقية والسورية، وصولاً إلى البحر، بالإضافة إلى استخدام هذا الطريق كما تقول مجموعة من المصادر لإيصال السلاح إلى الحليف السوري، وإلى حزب الله في لبنان، وهذا هو الهدف الأهم، كما تقول مصادر أميركية وإسرائيلية، من وراء فتح هذا الطريق.

وبالتالي، يمكن أن تسعى الولايات المتحدة الأميركية للضغط من خلال تحركاتها العسكرية، من أجل تحقيق جملة من الأهداف في إطار مواجهتها المفتوحة مع إيران تحديداً، وإن لم تصل إلى المواجهة المباشرة بعدُ، ومع محور المقاومة بصورة عامة، ولا سيما أن جزءاً من هذه الأهداف ينسجم تماماً مع المصلحة الإسرائيلية، التي تَعُدّ أن زيادة حجم الأسلحة، التي تصل إلى حزب الله، تشكّل خطراً داهماً على أمنها. وبالتالي، يمكن الاعتقاد أن هناك جملة من الأهداف تسعى أميركا لتحقيقها، او تحقيق جزء منها، على أقل تقدير، ومنها:

1- مواجهة الاستنزاف بالردع:

لوحظ في العامين الاخيرين تحديداً زيادة حجم الهجمات الصاروخية، وتلك التي تُستخدم فيها الطائرات المسيّرة التي تستهدف القواعد العسكرية الأميركية المنتشرة في منطقة شرقي الفرات، ولا سيما في منطقة التنف، بالإضافة إلى قيام مجموعات مقاتلة محسوبة على محور المقاومة بمحاولة شن عدد من الهجمات على مواقع أميركية أخرى للقوات المكلّفة حمايةَ حقول النفط والغاز، المسيطَر عليها أميركياً، وخصوصاً تلك الموجودة في حقل العمر، أكبر حقول النفط السورية، والواقع شرقي مدينة الميادين في محافظة دير الزور، أو القاعدة المجاورة لمعمل غاز كونيكو في الريف الشمالي لدير الزور، والتي تضم مهبطاً للطائرات المروحية، ومزودة ببطاريات صواريخ دفاع جوي من طراز باتريوت. وبالتالي، بات الأميركي يشعر بأنه يواجه مجموعة من الهجمات يمكن أن ترتفع وتيرتها في المستقبل، على نحو يحوّلها إلى حرب استنزاف، تستهدف قواتِه المحدودة نسبياً، بالنسبة إلى العدد، بحيث إنه، بحسب مصادر متعددة، لا يزيد عدد الجنود الأميركيين المنتشرين في الأراضي السورية على 3000 جندي.

بناءً عليه، يمكن ان يكون الهدف الأميركي هو إرسال رسالة ردع إلى كلٍّ من إيران وحلفائها، تدفعهم إلى إيقاف هجماتهم المزعجة، وتمنعهم من زيادة حجمها ووتيرتها.

2- دعم الموقف التفاوضي الأميركي:

بحسب بعض التسريبات، التي ورد جزء منها في الصحافة الأميركية، فإن هناك مفاوضات تجري بوساطة عُمانية بين كلٍّ من إيران وسوريا من جهة، وقوات الاحتلال الأميركي من جهة أخرى، تسعى للوصول إلى اتفاق يُخفّض منسوب التوترات في المنطقة، ويساهم في تهيئة الأجواء الملائمة لفكفكة بعض الملفات العالقة، وفي المقدمة منها الملف السوري. ولأن الوجود الأميركي، كما التركي في سوريا، يُعَدّ حجر عثرة في طريق الوصول إلى حل يُنهي الحرب السورية بكل تداعياتها، ويُحافظ على وحدة الأراضي السورية في وجه مخططات التقسيم المتعددة والمتشابكة، فإنه مطلوب، إيرانياً وسورياً، خروج القوات الأميركية من الشرق السوري، ورفع يدها عن آبار النفط والغاز بصورة نهائية. وبالتالي، يبدو أن أميركا تحاول، من وراء تحركاتها العسكرية، الضغط على الإيرانيين والسوريين، من أجل تحقيق ما تسعى له من مصالح، ولحصول على إنجاز أكبر إذا قررت الخروج من سوريا.

3- قطع الطريق البرّي

هذا الاحتمال، بالغ الخطورة، يمكن أن يأخذ المنطقة إلى حرب طاحنة، إذ إن إغلاق الحدود البرية بين العراق وسوريا سيشكّل صاعق تفجير حاسما لحرب قاسية قد تتحوّل، في وقت ما، إلى مواجهة مباشرة بين الجانبين الأميركي والإيراني. فإغلاق الحدود، ولا سيما معبر البو كمال الحدودي، يعني قطع التواصل البري بين إيران وحلفائها في سوريا ولبنان، وهو ما سيؤثر في تجارتها من جهة، وفي إمدادات السلاح من جهة اخرى. والشق الثاني تحديدا دفعت إيران من اجله ثمناً باهظاً، إذ قدّمت مئات الشهداء من مقاتليها، الذين قضوا في سبيل تأمين هذا الطريق، سواء في الجانب العراقي، أو الجانب السوري.

وما يدفع كثيرين إلى اعتقاد، مفاده أن هذا هو الهدف الحقيقي من وراء التحركات الأميركية، هو الزيارة التي قام بها قائد قوة القدس في الحرس الثوري الإيراني، اللواء إسماعيل قآاني، قبل فترة وجيزة، للعراق، والتي جاءت، بحسب مراقبين، لمعرفة إمكان حدوث توافقات أميركية عراقية بشأن قضية إغلاق الحدود، وللاطمئنان على بقاء الموقف العراقي المعلَن في هذا الجانب كما هو من دون أي تغيير أو تبديل.

عوامل مساعدة
بحيث إن الأمور في المنطقة الحدودية بين العراق وسوريا معقَّدة، بصورة واضحة، وبسبب وجود لاعبين أقوياء كُثر فيها، فإن مسألة تغيير طبيعة الوضع القائم، ولا سيما على مستوى السيطرة الميدانية، لن تكون سهلة، ودونها كثير من العقبات والصعوبات، وخصوصا للجانب الأميركي، الذي لا يملك كثيراً من القوات والإمكانات، التي يمكن أن تحسم المسألة عسكرياً في حال قرر ذلك.

لذلك، فهو يقوم منذ فترة ببعض الإجراءات المساعدة، والتي يمكن أن تكون بمثابة مخرج من هذه المعضلة، ويمكن لها أن تشكّل رافداً مهماً لأي تحرك عسكري قادم، أو توجّه نحو فرض وقائع جديدة على الأرض. ومن هذه الإجراءات، قيامه بنقل كمية كبيرة من العتاد العسكري من قواعده في قطر إلى قاعدة “موفق السلطي” في شمالي الأردن.

وكشفت مصادر أميركية رسمية قراراً أميركياً يقضي بإغلاق قاعدة السيلية الرئيسة في قطر، إلى جانب قاعدة السيلية الجنوبية، بالإضافة إلى موقع “فالكون”، الذي يُعَدّ نقطة إمداد متقدّمة بالسلاح والذخائر للقوات الأميركية في منطقة الشرق الأوسط، ولا سيما على صعيد الدبابات والآليات المدرعة. وجرى، بحسب المصادر نفسها، نقل كل العتاد العسكري الموجود في القاعدتين المذكورتين، بالإضافة إلى موقع “فالكون”، إلى القاعدة الأردنية المُشار إليها أعلاه، والتي لا تبعد عن الحدود السورية سوى 51 كلم تقريباً.

بالإضافة إلى ذلك، وصلت إلى القاعدة الأردنية طائرات حربية مقاتلة من الجيل الخامس، من طراز “أف 22 رابتور”، وطائرات مروحية هجومية، وتمّت أيضاً زيادة مدى المدرج الرئيس للقاعدة، بحيث يصبح صالحاً لهبوط الطائرات المسيّرة وإقلاعها، والتي يحتاج بعضها إلى مدرّج طويل نسبياً.

إلى جانب هذه الاستعدادات العسكرية، يلاحَظ أيضاً اهتمام أميركي واضح بزيادة مستوى العلاقة ببعض القبائل العربية السنّية في شرقي الفرات، وبدا أن هناك محاولة لرفع مستوى التنسيق معها، وإعطائها أدواراً جديدة للسيطرة على جزء من جغرافيا المنطقة، حتى على حساب الحليف التقليدي القديم، متمثّلاً بالأكراد.

وهذا الأمر تحديداً يرى متخصّصون أن الأميركي يسعى من ورائه لإنشاء قوة عربية سنيّة مسلحة وقوية، يمكن لها أن تتولى لاحقاً السيطرة على الحدود السورية العراقية من الجانب السوري، كبديل للقوات الحكومية، على أن تتلقّى اوامرها من القوات الأميركية، التي لا تملك العدد الكافي من القوات للقيام بهذا الدور من جهة، ولا تريد التورّط أكثر في المستنقع السوري، من جهة أخرى.

صعوبات وتعقيدات
ولأن هناك فارقاً كبيراً بين الرغبة والقدرة، فإن تمكّن أميركا من القيام بهذا المخطّط الخطير، في حال صحّت التوقعات بشأن ذلك، لن يكون سهلاً على الإطلاق، إذ إن هناك كثيراً من الأطراف، التي تتناقض مصالحها تماماً مع الموقف الأميركي، ولن يكون مقبولاً لديها، في أي حال من الأحوال، تمرير هذا المخطط، مهما كلفها ذلك من ثمن.

أول هذه الأطراف هو الجانب الإيراني، الذي تواجد قوات عسكرية تابعة له بصورة مباشرة، أو حليفة وقريبة منه، في مناطق كثيرة من البادية السورية، ولا سيما في أرياف دير الزور والحسكة، بحيث يقدّر بعض المصادر وجود أكثر من 15 ألف مقاتل من المجموعات الحليفة لإيران قرب دير الزور، على سبيل المثال، بالإضافة إلى آلاف آخرين قرب ريف الحسكة ومدينة الميادين وريف الرقة وحلب الشرقية، وصولاً إلى طريق خناصر وريف السلمية وريف حمص الشرقي.

وهؤلاء جميعاً سيشكّلون عقبة أساسية أمام أي تحركات أميركية محتملة، ولا سيما وهم يعتمدون بصورة شبه كلّية على معبر البو كمال وبعض المعابر غير الرسمية الأخرى من أجل التنقّل بين ضفتي الحدود، ويتلقّون، كما تقول المصادر الأميركية، إمدادات لوجستية متعددة من خلاله.

الطرف الثاني القوي هو القوات الروسية، والتي تحظى بوجود شرعي ـ قانوني في الأراضي السورية، على خلاف القوات الأميركية، التي، بحسب القانون الدولي، هي قوات احتلال. فروسيا، منذ أن استعان بها حليفها السوري، تؤدّي دوراً حيوياً في مواجهة الحرب التي شُنّت على الدولة السورية، ونجحت، كما الحال بالنسبة إلى حليفها الإيراني، في فرض وقائع ميدانية جديدة، منعت سيطرة المجموعات التكفيرية متعددة الولاءات والمصالح على الأرض السورية، وتحويلها إلى دولة فاشلة، تسودها لغة الغاب، كما حدث في دول اخرى.

وبالتالي، لن يقبل الروسي، وهو الذي دفع أثماناً باهظة أيضاً، إحداثَ تحولات استراتيجية لمصلحة غريمه الأميركي، ولا سيما أنه يخوض ضدّه مواجهة غير مباشرة من خلال الحرب الأوكرانية.

إلى جانب الموقفين الإيراني والروسي، هناك موقف الدولة السورية، التي قدّمت آلاف الشهداء من أجل استعادة الشريط الحدودي مع العراق من أيدي الإرهابيين، ومنعت، إلى جانب حلفائها، قوى الشر من فرض حصار خانق على الشعب السوري، الذي يعاني العقوبات الأميركية الظالمة والمجحفة من خلال قانون قيصر.

الخلاصة
من المنظور الاستراتيجي لمستقبل المنطقة، لا يمكن فصل التحركات الأميركية عند الحدود السورية العراقية، ومحاولة إحداث تغييرات جيواستراتيجية، كما يقول البعض، عن ملفات كثيرة يتم العمل عليها، وإن عبر طرائق وادوات متعددة، بحيث يُلاحَظ أن أحداثاً كثيرة تجري تتعلق بساحات متعددة في الإقليم، مرتبطة بعضها ببعض، بصورة أو بأخرى، وكلّها تصبّ، كما يبدو، في مصلحة استقرار المشروع الاستعماري في المنطقة، وفي القلب منه رأس حربته المتقدمة، الكيان الصهيوني.

فما يجري في لبنان من اقتتال دموي داخل المخيمات الفلسطينية، وما يتم بناؤه من مدن سكنية وصناعية في مدينة العريش عند حدود قطاع غزة الجنوبية، بالإضافة إلى فتح ملف حقول الغاز قبالة الشواطئ الغزّية، والحرب الطاحنة في السودان بين الأخوة والأشقاء، ومحاولة إسقاط الدولة المصرية ودول أخرى، اقتصادياً، وربما سياسياً، وعدم التوصّل حتى الآن إلى حل للأزمة اليمنية، وكثير من الملفات الأخرى العالقة والساخنة.

كل ذلك يشير إلى حقيقة واضحة، يحاول البعض إخفاءها وحجبها، وهي تشير إلى أن الأميركي ما زال يحتفظ بكثير من خيوط اللعبة في الإقليم، وأنه ما زال لديه كثير من الأدوات التي يستخدمها لإبقاء المنطقة في حالة من عدم الاستقرار، وربما إدخالها في دوّامة جديدة من الاضطرابات والتحدّيات، على نحو يؤدي في المحصّلة إلى تبرير تموضعه فيها، عسكريّاً وسياسيّاً، وإلى المحافظة أيضاً على مصالح ” الدولة العبرية”، حليفه الاستراتيجي والحيوي والمهم.

أقرأ أيضًا: “إسرائيل” وخيار الذهاب نحو السور الواقي 2.. بقلم أحمد عبد الرحمن

في ذكرى نفق الحرية نكتب من جديد.. فجرنا سيبزغ عمّا قريب!

أقلام-مصدر الإخبارية

كتب أحمد عبد الرحمن كان يبدو صباحاً عادياً، ككل صباحات فلسطين، اصطف فيه العمّال الفلسطينيون الساعون لجمع قُوت عيالهم قرب حاجز بيت حانون، “إيرز”، شمال قطاع غزة، في انتظار وسيلة النقل التي ستوصلهم إلى اماكن عملهم، لم يكونوا يعلمون في ذلك الوقت بأن حقداً أسود سيكون قادماً إليهم ليسفك دمهم، ويخطف أرواحهم البريئة، التي لم تكن تحمل للعالم إلّا كل خير.

في ذلك الصباح الدامي من شهر كانون الأول(ديسمبر) من عام 1987، قام جندي إسرائيلي مجرم يقود شاحنة بدهس مجموعة من العمال الفلسطينيين، الأمر الذي أدّى إلى استشهاد خمسة منهم، وإصابة آخرين.

بعد أيام على استشهاد العمّال الخمسة، كتب الدكتور الشهيد فتحي الشقاقي قصيدة رثاء، عبّر فيها عن حجم الألم الذي أصاب نفوس الفلسطينيين، الذين عمّ الحزن كل حاراتهم وشوارعهم، وأصبح الشهداء المظلومون أبناءً لكل الشعب، وليس فقط لعوائلهم المكلومة والحزينة.

كتب الشقاقي حينها: “كانوا خمسة.. في يد كل منهم منجل.. في يسرى كل منهم قفّة.. كانوا يا أصحابي خمسة.. وقفوا في صفٍّ مكسور.. في أعينهم نامت مدن وبحور.. كانوا خمسة.. في يمنى كل منهم منجل.. في يسرى كل منهم قفّة.. تركوا الدرّاق الأخضر.. قالوا يوماً أو يومين ولا أكثر.. يا عمال بلادي هرمت غابات الزعتر.. وانسكب الزيت وغصن الزيتون تكسّر.. يا قلب الأرض تحجّر.. لا تُزهر أبداً لا تُزهر.. إلا غضباً إلا بركاناً يتفجّر”.

أيام قليلة وانفجر البركان الذي بشّر به الشقاقي الشهيد، إذ اندلعت، على إثر هذه الجريمة النكراء، ما اصطلح على تسميته لاحقاً بـ “انتفاضة الحجارة”، والتي عُدَّت محطة مهمة ومفصلية في تاريخ العلاقة بين الشعب الفلسطيني من جهة، والمحتل الإسرائيلي من جهة أخرى، وشكّلت فاصلاً بين مرحلة كان فيها المستوطن الصهيوني يتجوّل في شوارع غزة كأنه في وسط “تل أبيب”، ومرحلة لاحقة أدت، فيما بعد، نتيجة تفاعلات جيوسياسية فارقة، إلى خروج المحتل مندحراً من أراضي القطاع، في سابقة تاريخية أسست حقبة جديدة من تاريخ نضال هذا الشعب البطل.

اقرأ/ي أيضا: على خلفية عملية نفق الحرية.. عزل مسؤول مصلحة السجون

بعد 34 عاماً تقريباً على مجزرة العمّال، وما نتج منها من انتفاضة شعبية عارمة، أسّست، كما أسلفنا، مرحلة من الصراع المفتوح بين الشعب الفلسطيني، في كل شرائحه، و”دولة” الاحتلال المسلّح بكل ادوات القتل والإجرام، من أخمص قدميه حتى أعلى رأسه، وأسفرت فيما بعد عن هروب المحتل من قطاع غزة، وهو يجر أذيال الخيبة والهزيمة؛ بعد هذه الأعوام الطوال، كان الشعب الفلسطيني على موعد مع إنجاز جديد، حطّم فيه ستة من الأسرى الأبطال أسطورة الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، ووجّهوا إليها ضربة قاتلة لم تستطع التعافي منها حتى اليوم، وكتبوا أسماءهم بحروف من نور في لوحة الشرف التي لن يطمسها تخاذل البعض، ولن تشوّهها خيانة البعض الآخر.

رسموا بأظفارهم الدامية خريطة فلسطين في باطن الأرض، وعلى فوّهة النفق، وعلى امتداد سهول بيسان، وفي شوارع الناصرة والناعورة، وصولاً إلى جنين الحبيبة، حيث مهوى الفؤاد وطمأنينة القلب.

اليوم، ونحن نعيش الذكرى الثانية للتحرر الكبير من سجن جلبوع، عبر نفق الحرية والانعتاق من الأسر، وفي ظل ما تعيشه الحركة الأسيرة من أوضاع قاسية بفعل سياسات الاحتلال الظالم، ولا سيما في ظل القرارات المجحفة التي أصدرها وزير الأمن القومي المتطرّف، إيتمار بن غفير، والتي تُنذر بانتفاضة شاملة داخل السجون والمعتقلات، يمكن أن يمتد أوارها إلى كل المدن والمخيمات الفلسطينية، وفي ظل التوتّر الذي يحيط بالمشهد الفلسطيني، ولا سيما مع تهديدات قادة الاحتلال باغتيال قادة المقاومة وتصفيتهم؛ في ظل كل ذلك نجد أنفسنا مضّطرين، اضطرارَ المحب والعاشق، لا اضطرارَ المُكره والحاقد، إلى أن نكتب من جديد عن أبطال معركة الحرية الستة، الذين اجترحوا المستحيل، وحققوا الإعجاز، وهدموا، بإصرارهم ومعاولهم البسيطة، جدار السجن والعزل والحرمان.

نكتب من جديد عن محمود، ومحمد، وزكريا، ويعقوب، وأيهم، ونضال، علّنا نوفيهم جزءاً من حقهم، الذي يحاول البعض طمسه، ونسيانه، وتحويله إلى مجرد ذكرى مرّت وانتهت من دون أي مفاعيل، أو نتائج.

وبعيداً عن العاطفة الجيّاشة التي تملأ قلوبنا تجاه الأبطال الستة، وبغض النظر عن الأيام الجميلة التي عشناها، فترةَ انعتاقهم من السجن، وخروجهم إلى الحرية، فإن النظرة المحايدة إلى هذا الفعل المعجِز تضعنا أمام معطيات مهمة، ونتائج مفصلية، يمكن لنا، من دون أيّ تحيّز لهذا الطرف أو ذاك، ان نضعها في خانة الأحداث التاريخية، التي أسست مرحلة جديدة من مراحل نضال الشعب الفلسطيني، والتي يمكن لها أن تسفر في فترات مقبلة، وبعد البناء عليها، عن نتائج جيواستراتيجية تشبه كثيراً تلك التي نتجت من انتفاضة الحجارة، وما تلاها من أحداث، وصولاً إلى الاندحار الصهيوني من قطاع غزة.

إن عملية الهروب المبدعة من سجن جلبوع، والتي جاءت في فترة زمنية عمّ فيها الهدوء القاتل جغرافيا الضفة المحتلة، في مدنها ومخيماتها وقراها، بفعل القبضة الأمنية المزدوجة، التي فرضت نفسها بشدة على حركة العمل المقاوم هناك، بالإضافة إلى انصراف معظم المواطنين إلى أشغالهم وأعمالهم، التي تم استخدامها في كثير من الأحيان أداةً لابتزازهم والضغط عليهم، أدّت إلى تغيير كثير من المفاهيم، وأفضت إلى تطورات باتت تلقي ظلالها على كل المشهد الفلسطيني، ولا سيما على صعيد المواجهة مع المحتل، والخروج من حالة اليأس والانكسار، اللذين كانا سائدين آنذاك، في اتجاه فعل مقاوم يكاد يشعل الأرض تحت أقدام الغزاة، ويفرض معادلات حقيقية على الأرض وفي الميدان، بعيداً عن النظريات العقيمة، والخطابات الجوفاء.

ويمكن لنا أن نشير في هذا الخصوص بالذات إلى عدة معطيات مرتبطة، بطريقة أو بأخرى، بنتائج عملية “نفق الحرية “، وتُعَد أحد إفرازاتها الطبيعية، سواء عن طريق الإلهام، أو عن طريق التأثير المباشر.

قوات الاحتياط في الجيش الإسرائيلي.. برميل بارود قابل للانفجار

أقلام – مصدر الإخبارية

قوات الاحتياط في الجيش الإسرائيلي.. برميل بارود قابل للانفجار، بقلم الكاتب في الشؤون العسكرية والسياسية أحمد عبد الرحمن، وفيما يلي نص المقال كاملًا كما وصل موقعنا:

شهد شهر نيسان/أبريل من هذا العام نسبة إقبال متدنّية للغاية على صعيد التحاق جنود الاحتياط بوحداتهم القتالية في “الجيش” الإسرائيلي، وبلغت النسبة أقل من 7%، في مقابل 90% في الأوقات العادية.

كان لافتاً منذ بداية العام الحالي حجم الاحتجاجات الشعبية غير المسبوقة ضد ما سُمي بخطة “الإصلاح القضائي” في “إسرائيل”، التي يسعى من خلالها رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو وائتلافه الحاكم إلى مزيد من السيطرة على الجهاز القضائي، وإلى تعزيز نفوذهم على معظم الهيئات التشريعية والتنفيذية في “الدولة”.

وكان لافتاً أيضاً حجم المشاركة في تلك الاحتجاجات، ولا سيما من منتسبي وحدات الاحتياط في “الجيش” الإسرائيلي، التي هدد مئات من جنودها وضباطها ممن يخدمون في سلاح الجو وأجهزة الاستخبارات والوحدات الخاصة بالامتناع عن الالتحاق بوحداتهم القتالية في حال تنفيذ نتنياهو خطته المثيرة للجدل.

وبحسب صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية، فقد شهد شهر نيسان/أبريل من هذا العام نسبة إقبال متدنّية للغاية على صعيد التحاق جنود الاحتياط بوحداتهم القتالية، وبلغت النسبة، بحسب الصحيفة العبرية، أقل من 7%، في مقابل 90% في الأوقات العادية.

ونحن هنا لسنا بصدد مناقشة أسباب تلك الاحتجاجات المشار إليها آنفاً، ولا نسعى لقراءة التداعيات المتوقّعة التي يمكن أن تنتج منها، وخصوصاً في ظل استمرارها حتى يومنا هذا، ولكننا سنقوم بإلقاء الضوء على قوات الاحتياط في “الجيش” الإسرائيلي، التي تُعتبر عموده الفقري، والتي يُعتمد عليها في أوقات الطوارئ من حروب وأزمات، ويتم الاعتماد على جزء منها بشكل دائم خلال السنوات الأخيرة.

إضافةً إلى ذلك، من دون هذه القوات، يفقد “الجيش” في “إسرائيل” قوامه الأساسي الذي تتكوّن منه معظم الوحدات المقاتلة التي يناط بها تنفيذ أغلب المهام القتالية والاستخبارية واللوجستية خلال فترات الحرب والطوارئ.

نظرة عامة
يتم النظر إلى مؤسسة “الجيش” في كيان الاحتلال بشيء من “القداسة”، إذ يُعتبر أكبر وأهم مؤسسة فيه، بسبب نفوذه القوي في السياسة والاقتصاد والثقافة وباقي مناحي الحياة، وهو المجال الوحيد الذي لا يجوز الاختلاف فيه أو عليه، ويتوجّب على جميع الإسرائيليين، بغض النظر عن عرقهم ولونهم وجنسهم، أن يدعموه ويساندوه، وأن يبذلوا كل ما باستطاعتهم ليبقى قوياً ومتماسكاً، فمن دون هذا “الجيش” ستنهار “إسرائيل”، وستصبح عرضة لأن يتناهشها أعداؤها من كل اتجاه.

ومن المهم أن نلفت الانتباه هنا إلى أن الخدمة العسكرية في “إسرائيل” إجبارية لمن هم فوق سن 18 عاماً، إذ يتوجّب على الذكور أداء 3 سنوات من الخدمة النظامية، فيما تؤدي الإناث الخدمة لمدة سنتين فقط.

وينظر الكثير من الشباب الإسرائيلي إلى هذه الخدمة بصفتها “واجباً أخلاقياً” تجاه “الوطن”، فيما يراها آخرون ضرورية لبناء علاقات اجتماعية بنّاءة قد تساهم في تأمين مستقبل مهني أفضل.

ولا يتم في العادة منح إعفاءات من هذه الخدمة إلا للضرورة القصوى. هذا الأمر تحديداً يُثار حوله جدل كبير في الأوساط الإسرائيلية، ويتم النظر إلى من يحاولون الحصول على هذا الإعفاء بأنهم جبناء وخونة، بل يتحوّلون في كثير من الأوقات في حال لم يغادروا البلاد إلى منبوذين اجتماعياً. وفي بعض الأحيان، يتم سجنهم في حال تبين أن الذرائع التي ساقوها للحصول على الإعفاء كانت كاذبة وغير حقيقية.

بعد الانتهاء من الخدمة الإلزامية، يتحوّل الجنود تلقائيّاً إلى قوات الاحتياط في “الجيش” الإسرائيلي الذي يبلغ قوامه نحو 750 ألف جندي، منهم 560 ألفاً من جنود الاحتياط، يُنظر إليهم بأن ذوو قيمة خاصة في صفوفه، نظراً إلى المهارات الفائقة التي يكتسبونها خلال خدمتهم الإلزامية أو التي يحصّلونها في فترات استدعائهم المختلفة في أوقات الطوارئ أو الحروب، وخصوصاً أولئك الذين يخدمون في وحدات نوعية وحسّاسة، مثل الوحدات الخاصة وأجهزة الاستخبارات وسلاح الجو.

الاحتياط وعقيدة الأمن القومي
عندما تم إقرار مبادئ نظرية الأمن القومي للكيان الصهيوني في عهد ديفيد بن غوريون مطلع خمسينيات القرن الماضي، تم وضع تصوّر يفيد بأنّ “إسرائيل” بحاجة إلى ما سُمّي حينها بـ”جيش المواطن”، وخصوصاً أنها تعيش في جغرافيا معقّدة ومحيط رافض لوجودها، ولا تملك عمقاً أمنياً واستراتيجياً يمكن أن يحميها من المخاطر المتعددة التي تحيط بها من كل اتجاه، إضافةً إلى عدد “السكان” المحدود قياساً بجيرانها من الدول العربية والإسلامية.

وقد ترجمت “إسرائيل” هذا الشعار من خلال نظرية “التجنيد الشامل” التي تمت الإشارة إليها في بعض النشرات بعبارة “الأمة تحت السلاح”، وهو ما سمح ببقاء كل الإسرائيليين ضمن الخدمة الإلزامية، ومن ثم الانتقال بعد ذلك إلى الخدمة ضمن صفوف قوات الاحتياط حتى عمر متقدم.

وبحسب العديد من الدراسات الصادرة عن مراكز البحث في الكيان الصهيوني، فإن عقيدة الأمن القومي الإسرائيلية قامت على العديد من الفرضيات التي حاولت الإجابة عن الكثير من الأسئلة التي واجهت القادة السياسيين والعسكريين في “إسرائيل”.

إحدى هذه الفرضيات، وأهمها في تلك الفترة، كانت تشير إلى أن “إسرائيل” ستواجه صعوبات جمّة في محاولة مجاراتها الأعداد الكبيرة من القوى البشرية ذات الصبغة العسكرية في البلدان العربية المحيطة بها، والتي تشكّل تهديداً وجودياً لها، وبالتالي يجب وضع حلول مناسبة لمواجهة تلك الأزمة، بما يمنع تفكك “الدولة” أو انهيارها أو تحوّلها إلى ساحة للقتال المستدام الذي سيؤدي في النهاية إلى سقوطها بفعل النقص الواضح في العامل البشري الذي يمثّل خزان الإمداد للقوات المقاتلة.

وبناء عليه، تم إقرار النظرية المشار إليها أعلاه “أمة تحت السلاح”، بحيث يتحوّل كلّ الشعب إلى مقاتلين عند الضرورة من دون الحاجة إلى تجنيد جديد قد لا تسمح به الظروف المحيطة. هذا الأمر تم النظر إليه حينها بأنه سيساهم في تحقيق الأهداف القومية لـ”إسرائيل”، المتمثلة في الدفاع عن مصالحها و”الحفاظ على أراضيها” والذهاب باتجاه تعزيز هذا الأراضي عبر احتلال مساحات كبيرة من أراضي دول الجوار.

وبناء عليه، ومن أجل تحقيق هذا الهدف، تم العمل على نقل أكبر عدد ممكن من اليهود من بلاد الشتات إلى “إسرائيل”، وقيام لجان مختصة بجهود حثيثة لدمجهم داخل أطر المجتمع الإسرائيلي، من دون النظر إلى الاختلافات العميقة بينهم وبين المستوطنين الأوائل على مستوى الثقافة واللغة واللون والطائفة والعادات الاجتماعية، إضافةً إلى اعتماد المؤسسات التعليمية في الكيان الصهيوني على التعليم المدني الذي سعى لتجاوز تأثيرات التنوّع الشديد بين مستوطني “الدولة” والمهاجرين إليها من شتى بقاع الأرض.

قوات الاحتياط في “الجيش” الإسرائيلي
تماشياً مع نظرية “أمة تحت السلاح” المُشار إليها أعلاه، على جميع الرجال والنساء في “إسرائيل” التجنّد في صفوف “الجيش” وأداء الخدمة العسكرية النظامية، باستثناء بعض الأقليّات، كالعرب واليهود المتدينين.

وبعد انتهاء هذه الخدمة، ينتقل الجنود ليصبحوا ضمن قوات الاحتياط التي يتم استدعاؤها عند الحاجة، ويمكن لنا أن نلحظ أن “الجيش” في “إسرائيل” يتكوّن من 3 أطر تنظيمية رئيسية تحافظ على استقراره وتساهم في أدائه مهامه بالطريقة المثالية.

أولى هذه الأطر التي يقع على عاتقها التصدي لجملة من التهديدات التي تواجهها “الدولة” في ما يُعرف بـ”المستوى الطبيعي” للمخاطر الذي لا تخوض فيه الدولة حرباً عسكرية أو مرحلة الحرب المنخفضة المستوى، هو الجيش النظامي الذي يخدم فيه نحو 180 ألف جندي يعملون في كل التخصصات، ويستمرون في الخدمة لمدة 3 سنوات متواصلة للذكور، ومدة سنتين للإناث.

أما ثاني هذه الأطر، فهو قوات الاحتياط التي يبلغ قوامها، بحسب آخر إحصائية، نحو 560 ألف جندي من كلا الجنسين -تمثّل النساء نسبة 18% من قوات الاحتياط- الذين يخدمون في وحدات قتالية وخدمية ولوجستية حتى سن 51 عاماً، عندما يتم استدعاؤهم لذلك.

وبحسب بعض الدراسات، فإن أكثر من 65% من الوحدات القتالية التي تنفذ المهام العملياتية لـ”الجيش” تكون من وحدات الاحتياط التي يتم استدعاؤها للخدمة، بحسب القانون الإسرائيلي، مرة واحدة في السنة، لمدة 26 يوماً للجنود، و24 للضباط، ما عدا أوقات الطوارئ التي تُستدعى فيها القوات بشكل فوري بحسب الحاجة، ومن دون النظر إلى الفترة الزمنية التي يمكن أن تستغرقها الحالة الطارئة.

يُشار إلى أن الوحدات القتالية الاحتياطية تركز جهودها في كل الأوقات على المحافظة على قدرات الجنود ومهاراتهم القتالية في أوقات ابتعادهم عن الخدمة، حتى يكونوا لائقين جسدياً ومعنوياً للمشاركة في أي نشاط قتالي قد يُدعون إليه في لحظة معينة، علماً أن معظم جنود الاحتياط الذين يتجاوزون 35 عاماً يتم تحويلهم من الوحدات التي ترابط في خطوط الجبهات إلى وحدات الدعم اللوجستي، ما عدا أولئك الذين يتمتّعون بقدرات خاصة ويملكون خبرات واسعة قد تكون مفيدة في التعامل مع الأزمات والمخاطر التي تواجهها القوات في ميادين القتال.

الإطار الثالث الذي يتكوّن منه “جيش” الاحتلال الإسرائيلي هو القوات المحترفة أو الخاصة، التي تُعنى بتنفيذ المهام الحسّاسة والمعقّدة، سواء داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة أو خارجها.

بنية قوات الاحتياط في “الجيش” الصهيوني
تكاد بنية قوات الاحتياط في “الجيش” الإسرائيلي تكون مختلفة عن مثيلاتها في معظم دول العالم، إذ إنَّ هذه البنية تتشكّل من الغالبية العظمى من مستوطني “إسرائيل” الذين يُستخدمون في أوقات كثيرة لتنفيذ مهام عسكرية على أساس نظامي، ويُعتبرون في أوقات الحرب الكتلة الرئيسية التي تقوم بالجهد الأساسي للعمليات القتالية، ويتفوّقون في نسبة المشاركة في الجهد القتالي على نظرائهم من الجنود الذين يخضعون للخدمة النظامية الإلزامية.

ويمكن أن نتعرّف إلى الاختلاف المشار إليه آنفاً بين قوات الاحتياط في “الجيش” الإسرائيلي وقوات الاحتياط الأخرى في دول كبيرة على مستوى العالم من خلال إجراء مقارنة سريعة لنعرف حجم الفرق بين البنيتين.

وقد توصلنا إلى نتيجة مفادها أن كل شيء في “إسرائيل” يختلف عن مثيله في باقي العالم، بسبب الأوضاع غير الطبيعية التي تعيشها هذه “الدولة” الهجينة التي تعاني عدم استقرار على الكثير من المستويات، رغم قوتها العسكرية والاقتصادية الكبيرة، وهذا ما يجعلها في حالة تأهّب واستنفار في كل الأوقات.

ولو نظرنا مثلاً إلى قوات الاحتياط في الولايات المتحدة الأميركية، التي تُعتبر أكبر قوة عسكرية في العالم، لوجدنا أن مساهمة قوات الاحتياط في دعم العمليات القتالية الرئيسية لا تتجاوز نسبة 33%، فيما يساهم الحرس الوطني بنسبة 24%، وتتحمّل القوات النظامية النسبة الباقية التي تصل إلى نحو 43%.

أما في كندا، فتعدّ خدمة جنود الاحتياط تطوّعية لمن أراد ذلك، ولا يسمح القانون بإجبار الجنود على أداء أي عمل قتالي أو لوجستي، حتى في أوقات الطوارئ، ولا توجد كذلك أوقات معينة يمكن أن يُستدعى فيها جنود الاحتياط للقيام بتدريبات معينة، ولو على سبيل استعادة لياقتهم البدنية أو مراجعة بعض المعلومات الخاصة بمهامهم العسكرية التي كانت منوطة بهم في أوقات خدمتهم الإلزامية.

هذا الأمر يختلف تماماً عندما يتعلّق بقوات الاحتياط في “الجيش” الإسرائيلي، التي تتحمل أكبر عبء من مجموع المهام القتالية، كما أشرنا سابقاً، سواء في أوقات الطوارئ أو أثناء خدمتها السنوية ضمن الوحدات النظامية، وهي، كما يصفها غادي آيزنكوت رئيس أركان “الجيش” الإسرائيلي السابق، بيضة القبّان التي تحافظ على استقرار القوات المسلحة في الكيان الصهيوني، و”جيش” الاحتلال لا يمكنه أداء مهامه من دون الاستعانة بخدماتها.

انقلاب الصورة
لا بد من الإقرار بأن الدور العسكري في حياة المستوطنين الإسرائيليين الذين يتميزون من خلاله عن معظم سكان العالم خلق شريحة كبيرة وواسعة من الجنود المتمرّسين والخبراء، وهو ما سمح بتكوين مجموعة مهمة من الوحدات القتالية المتميزة وذات الكفاءة العالية، لا سيما تلك التي يشكّل جنود الاحتياط قوامها الأساسي، والتي تمثّل الغالبية العظمى من القوة العسكرية التابعة لهيئة أركان “الجيش” الإسرائيلي، كما أشرنا سابقاً.

ولكنَّ هذا الدور بدأ يخبو خلال السنوات الأخيرة، وهو ما ألقى بظلال قاتمة على كفاءة القوات الإسرائيلية وقدرتها، وأدى في كثير من الأحيان إلى إخفاقات أثرت بشكل مباشر في سمعة هذه القوات، ودقّت ناقوس الخطر لدى القيادة العسكرية الإسرائيلية التي تنظر بخطورة بالغة إلى هذا التراجع الخطر.

في الجزء المقبل، سنناقش أسباب هذا التراجع على صعيد استقرار أهمّ كتلة في “الجيش” الإسرائيلي، وهي “قوات الاحتياط”، والجهود التي تحاول القيام بها الجهات المختصة لتجاوز هذا الفشل والإخفاق، مع نظرة مستقبلية تتعلّق بالتأثيرات المحتملة للانقسام الحاد الذي يضرب المجتمع الإسرائيلي في هذه القوات.

أقرأ أيضًا: إسرائيل وخيار الذهاب نحو السور الواقي 2.. بقلم أحمد عبد الرحمن

“الحرب اللامتناظرة”.. كيف تمكّنت المقاومة من تغيير المعادلة العسكرية

أقلام-مصدر الإخبارية

كتب أحمد الرحمن، كنا قد أشرنا في الجزء السابق من هذا المقال إلى فشل الكيان الإسرائيلي في ابتكار حلول تمكّنه من مواجهة طرق العمل الجديدة التي استخدمتها المقاومة في مواجهة قواته العسكرية، والتي يندرج العديد منها ضمن مبادئ “الحرب اللامتناظرة”.

ورغم التعديلات الكثيرة التي حاول العدو الاعتماد عليها لمجابهة تلك “الحرب”، والتي تضمّنت إعادة الاعتبار إلى الذراع البرية لـ”الجيش” الإسرائيلي، وتطوير منظومات الدفاع الجوي، وإعطاء مساحة أكبر لسلاح الجو، والترتيبات على مستوى الجبهة الداخلية، إضافة إلى إحداث ما وُصف في حينه بالثورة على صعيد عمل أجهزة الاستخبارات، وغير ذلك من خطوات كان يُعتقد بأنها ستكون فعّالة وذات نتائج مبهرة، فإن كل ذلك لم يجدِ نفعاً أمام تطوّر عمل المقاومة، وأمام ما باتت تستخدمه من تكتيكات وخطط قلّصت بشكل كبير حجم الفجوة بين إمكانياتها المتواضعة وإمكانيات العدو الهائلة.

ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الفوارق في الإمكانيات انخفضت بشكل كبير خلال السنوات العشر الأخيرة، ولا سيما على صعيد امتلاك فصائل المقاومة في فلسطين والإقليم أسلحة لم تكن متوافرة من قبل، سواء على صعيد القوة الصاروخية أو الطائرات المسيّرة، إضافة إلى تطوّر خبراتها القتالية بشكل واضح وجلي، وحيازتها خططاً عملياتية حققت لها في المواجهات الأخيرة كثيراً من الإنجازات، وخصوصاً على صعيد قوات النخبة ووحدات الدروع والمدفعية.

وبناء عليه، أصبحت كل المعارك التي يخوضها الكيان الصهيوني في المنطقة، لا سيما في فلسطين ولبنان على وجه الخصوص، تحمل الكثير من المفاجآت غير السارة لـ”الدولة العبرية”، التي لم يعد بإمكانها حسم تلك المعارك خلال أيام معدودة، كما كان يحدث سابقاً، رغم أنها كانت في معظم الحالات تبادر إلى الهجوم، على أمل إحداث صدمة لدى الطرف الآخر، إلا أنَّ ذلك لم يجدِ نفعاً، نتيجة الكثير من العوامل التي أدخلتها المقاومة إلى طرق عملها، ونتيجة المرونة التي أصبحت تتمتع بها، سواء على صعيد البنية التنظيمية التي تمكَّنت بشكل مذهل من تجاوز كل الصدمات، كما حدث في أيار/مايو الماضي في عملية “ثأر الأحرار”، أو على صعيد تطوير الخطط القتالية لمواجهة الإمكانيات الهائلة التي يملكها “جيش” العدو.

“الحرب اللامتناظرة” في نسختها الفلسطينية
يمكن التأصيل لبداية ظهور مبادئ “الحرب اللامتناظرة” على كفاح الشعب الفلسطيني ونضاله منذ انطلاق انتفاضة الأقصى عام 2000، إذ إن تلك الانتفاضة التي جاءت بعد 7 سنوات تقريباً من اتفاق أوسلو وما أحدثه من شرخ واسع في صفوف الشعب الفلسطيني، أدت إلى مغادرة جزء كبير ومهم منه نحو خيار ما عُرف حينها بمسيرة “السلام والتعايش” مع الاحتلال.

جاءت الانتفاضة، ومن خلال العديد من الأدوات التي استُخدمت فيها، لتُحدث تغييراً هائلاً على صعيد حالة الاشتباك بين الشعب الفلسطيني والمحتل الذي ضرب بعرض الحائط كل الاتفاقيات وأدار ظهره لكل المعاهدات، واستطاعت أن تفرض نفسها بقوة على مسيرة الحركة الوطنية الفلسطينية، محدثةً تفاعلاً عميقاً على صعيد الصراع بين الشعب والمحتل، ومتجاوزة ذلك النوع من المواجهة التقليدية التي تخضع لقانون الغلبة للأقوى، ومستخدمة العديد من الوسائل التي لم تكن حاضرة من قبل، مثل العوامل الحضارية والثقافية والمعنوية، بالتوازي مع عوامل أخرى من قبيل القوة الاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية التي بدأت تتسلح بها منذ تلك الفترة، وإن كان بشكل محدود.

ولعل أهم سلاح امتلكته المقاومة الفلسطينية في ذلك الوقت، والذي يتطابق من حيث الأداء والنتائج مع مبادئ “الحرب اللامتناظرة”، هو العمليات الاستشهادية التي ألقت بظلال قاتمة على منظومة الأمن القومي الإسرائيلي، وأصابت عنجهية قادة الكيان وصلفهم بنوع من الصدمة، لما أحدثته من خسائر هائلة على الصعيد البشري والمادي، وهو الأمر الذي لم يكن معتاداً في تلك الفترة، مع أن “إسرائيل” جرّبت مثله في منتصف التسعينيات، ولكن ليس بالوتيرة نفسها.

تضاف إلى ذلك الخسائر المعنوية القاسية التي ضربت النسيج المجتمعي الصهيوني، وأثّرت بشكل واضح في تماسك الجبهة الداخلية للعدو، التي فقدت جزءاً كبيراً من ثقتها بقيادتها العسكرية والسياسية.

هذا الأمر دفع رئيس الأركان الإسرائيلي الأسبق الجنرال موشي يعلون إلى وصف المجتمع الإسرائيلي في تلك الفترة بأنه مجتمع ثري ومدلّل وغير مستعد للكفاح والتضحية، وأن عدم استعداد المواطنين الصهاينة للتضحية بأرواحهم من أجل حماية “الوطن” يجعل “إسرائيل” تشبه بيت العنكبوت الذي يبدو قوياً ومتماسكاً من الخارج، ولكنه يتفكك ويسقط حين يلمسه أحدهم عن قرب.

إلى جانب العمليات الاستشهادية، تميزت انتفاضة الأقصى أيضاً بأنها لم تصبح أسيرة للطابع الشعبي من النضال فحسب، بل انتقلت إلى ممارسة الكفاح المسلح على نطاق واسع أيضاً، وهو الأمر الذي تحوّل إلى ما يشبه حرب الاستنزاف التي أدمت جسد “الدولة العبرية”، إذ تميزت بانتهاج تكتيك القنص والعبوات الناسفة والكمائن واقتحام المستوطنات ومعسكرات “الجيش” الصهيوني.

وقد وصلت إلى تصفية رموز سياسية من المستوى الأول، مثل وزير السياحة المتطرف رحبعام زئيفي، وكذلك استهداف المستوطنين ووسائل النقل الصهيونية في فلسطين 48 و67 على السواء، ولا سيما على الطرق الالتفافية، وهذا ما جرّد العدو من مكاسبه الميدانية التي حصل عليها بفعل اتفاق أوسلو، إذ تحوّلت المستوطنات إلى عبء أمني على الكيان الصهيوني بعدما وُجدت لتكون خط الدفاع الأول عنه.

بعد هذا التغيّر المذهل في أداء المقاومة الفلسطينية بعيد انطلاق انتفاضة الأقصى، والذي استمر 6 سنوات تقريباً، عادت الأوضاع، ونتيجة عوامل كثيرة لا مجال لذكرها الآن، نحو الهدوء، ولا سيما في مدن الضفة، وهو ما سمح بانتقال الثقل الأساسي للمقاومة الفلسطينية نحو قطاع غزة الذي بدأ مرحلة جديدة من الإعداد والتجهيز، مستعيناً بوسائل مستحدثة بدت للبعض من دون جدوى في تلك الفترة، وكان في مقدمتها سلاح الصواريخ، الذي تحوّل في سنوات قصيرة إلى أهم سلاح ردع تملكه المقاومة في غزة.

وقد أصبح هذا السلاح بفعل الخبرات والدعم الكبيرين اللذين حصلت عليهما المقاومة من الجمهورية الإسلامية في إيران وحزب الله وسوريا عاملاً مشتركاً في جميع المعارك التي حدثت بعد ذلك، بداية من 2008 وحتى معركة “ثأر الأحرار” قبل شهرين تقريباً.

ورغم أن هذا النوع من الأسلحة يُستخدم في الحروب التقليدية وحرب العصابات، ففي غزة، وبسبب طبيعة الحروب التي جرت فيها، واعتماداً على تكتيكات قتالية لم يعهدها العدو من قبل، وعلى حجم التأثير الهائل الذي تركه على الجبهة الداخلية الصهيونية، يمكن النظر إليه بأنه ينسجم تماماً مع تكتيكات “الحرب اللامتناظرة”، ويخدم بصورة أو بأخرى المبادئ التي نصّت عليها، ولا سيما على صعيد الابتعاد قدر الإمكان عن الحرب الكلاسيكية التي يتفوّق فيها العدو، إضافة إلى تأثيره الطاغي، كما أشرنا آنفاً، في الجبهة الداخلية الإسرائيلية التي يُعتبر الحفاظ على أمنها واستقرارها هدفاً مستداماً لـ”الجيش” الإسرائيلي.

اقرأ/ي أيضا: صلاح البردويل: المقاومة هي رأس الحرب وما يحصل مقدمة لانفجار شامل

إضافة إلى ذلك، إن أحد أهم الأسلحة الجديدة التي أدخلتها المقاومة ضمن خططها الهجومية، والذي لا يقل أهمية عن سلاح الصواريخ، كان سلاح الأنفاق الذي شكّل خلال عدوان 2014 تحديداً مفاجأة من العيار الثقيل، والذي حققت من خلاله المقاومة إنجازات رائعة ما زالت مفاعيلها سارية حتى الآن، وتتمثل في ملف الجنود الصهاينة الذين تم أسرهم في تلك الحرب.

هذا السلاح الذي بذلت “إسرائيل” جهوداً مضنية للقضاء عليه، وأنفقت ملايين الدولارات لبناء الحواجز والجدر للحد من مفاعيله، بدا في لحظة ما بأنه معجزة اجترحتها المقاومة في غزة، وتغلبت من خلالها على كثير من التعقيدات الفنية والتقنية التي كانت تقف حائلاً من دون إتمام هذا المشروع، وخروجه من حيّز النظريات والخطط والخرائط إلى مجال أوسع وأرحب مكّن المقاتلين من اقتحام مواقع العدو المحصنة، وقتل وأسر العديد من الجنود الصهاينة الذين ظهروا عبر مقاطع مصورة وهم يصرخون ويستنجدون.

ورغم انتقال الثقل المقاوم إلى قطاع غزة خلال سنوات الهدوء التي شملت مدن الضفة الغربية، ما عدا بعض العمليات بين الفينة والأخرى، فإن الزخم عاد من جديد إلى تلك المدن خلال العامين الأخيرين، لا سيما بعد تشكيل كتيبة جنين التابعة لسرايا القدس في أيلول/سبتمبر 2021، وما تبع ذلك من تشكيل كتائب أخرى في نابلس وطولكرم وطوباس، إضافةً إلى بروز حالات مقاومة، مثل “عرين الأسود” وغيرها.

هذا الأمر نقل ساحة الضفة إلى مرحلة جديدة سمتها الأساسية مواجهة المحتل في كل المحاور، وشن الهجمات المتنقلة في كثير من الأماكن، ومهاجمة المستوطنات والمدن المحتلة الكبيرة، مثل “تل أبيب” والخضيرة وبئر السبع، بعمليات نوعية وجريئة، في تطبيق واضح لنظرية “الحرب اللامتناظرة” التي بدت معالمها واضحة في معظم العمليات، وكانت أكثر وضوحاً في معركة “بأس جنين” قبل أسبوعين، التي سجلت فيها كتيبة جنين وفصائل المقاومة نصراً صريحاً على قوات الاحتلال التي كانت تتفوق عليها في العتاد والعدد.

حزب الله والحرب اللامتناظرة
بما أن آخر حرب خاضها الكيان الصهيوني على الجبهة الشمالية كانت في تموز/يوليو 2006، فنحن مضطرّون إلى فتح صفحاتها من جديد لنقرأ من خلالها طريقة عمل المقاومة الإسلامية في لبنان “حزب الله”، التي تعد أوضح نموذج لجنوح فصائل المقاومة في المنطقة إلى العمل ضمن مبادئ “الحرب اللامتناظرة”.

ورغم أن الهجوم الإسرائيلي في تلك المعركة لم يعتمد، كما العادة، على عامل المفاجأة أو الصدمة، وجاء رد فعل على عملية اختطاف الجنديين إيهود غولدفاسر وإلداد ريغف قرب قرية عيتا الشعب في الجنوب اللبناني، فإنَّ تعامل حزب الله مع المعركة كان يشير بوضوح إلى أنه تجهّز لها منذ مدة طويلة، وأنه استثمر في مبادئ “الحرب اللامتناظرة” بدرجة كبيرة، معتمداً في ذلك على إمكانياته العسكرية المتوسطة حينها، وعلى العقيدة القتالية العالية لمقاتليه، إضافة إلى مراهنته على ضعف الجبهة الداخلية للعدو من جهة، وندرة المعلومات الاستخبارية لديه من جهة أخرى.

ويمكننا القول هنا إنَّ تلك الحرب تركت أثراً سلبياً بالغاً في صفوف الإسرائيليين ما زالت تداعياته ماثلة حتى الآن، وشكّلت بطريقة أو بأخرى عامل ردع حاسم يمنع “جيش” الاحتلال من ارتكاب حماقة جديدة في تلك الجبهة خوفاً من التأثيرات الكارثية التي قد تلحق به.

وقد أقرّ عدد من مراكز الأبحاث الإسرائيلية التي ناقشت موضوع حرب تموز بأنه كشف عيوباً كثيرة مسّت بصلب عقيدة الأمن في “الدولة العبرية”، وأظهرت أن حصانة المجتمع الاستيطاني الصهيوني كانت هشّة للغاية، وأن البنية التحتية في الدولة كانت دون المستوى، إضافةً إلى ضعف القدرة التنفيذية لمعظم أذرع “الجيش”، ولا سيما سلاح البر، وصولاً إلى فقدان القيادة السياسية والعسكرية مبدأ القيادة والسيطرة في فترات طويلة وحاسمة من زمن المعركة.

من جانب آخر، ركّزت مجموعة أخرى من الأبحاث على عوامل قوة حزب الله، من قبيل ما أُطلق عليه “الصمود الأيديولوجي” وقدرة التحمّل العالية، سواء للمقاتلين أو الحاضنة الشعبية، والأهم من ذلك، بحسب مراكز البحث الإسرائيلية، أن تلك الحرب قد أعادت إلى الواجهة، وخصوصاً لدى الشعوب العربية والإسلامية، فكرة أن “إسرائيل” قابلة للهزيمة والانكسار، وأن هناك مروحة واسعة من الإمكانيات غير التقليدية، سواء على المستوى العسكري أو المعنوي، والتي تتوسّع لتشمل وسائل أخرى لها علاقة بالجوانب الثقافية والاجتماعية وتماسك المجتمع وغيرها، ويمكن لها أن تساهم في تحقيق النصر على “إسرائيل”، لا سيما إذا تم استخدامها ضمن خطط وبرامج مرنة تساهم في تحييد القوة العسكرية الصهيونية وتُفقدها الكثير من مزاياها التي تتمتع بها.

ويمكن لنا أن نلحظ العديد من النقاط المهمة في طريقة عمل حزب الله أثناء تلك المعركة، والتي حاول من خلالها مراكمة قائمة طويلة من الإنجازات التكتيكية والعملياتية التي أدت في النهاية إلى خروجه منتصراً على أكبر قوة عسكرية في الشرق الأوسط.

وسنشير فيما يلي إلى بعض تلك التكتيكات التي اعتمد عليها حزب الله والتداعيات التي نشأت عنها:

1- الاستفادة من الجغرافيا: استغل حزب الله المساحة الجغرافية الضيقة التي تفصل بين مدن الجنوب اللبناني وقراه، حيث أماكن وجود منظوماته الصاروخية القصيرة المدى، ومراكز تجمع المستوطنين الصهاينة في المنطقة الشمالية لفلسطين المحتلة، وقام بتحويل صواريخه التي يبلغ مداها 40 كلم إلى صواريخ ذات مفاعيل استراتيجية، إذ إن افتقاد الجبهة الداخلية الإسرائيلية العمق الاستراتيجي الآمن، وعدم نشوء منطقة فاصلة أو عازلة بين المدن القريبة من خط الجبهة ومدن الوسط بالحد الأدنى، أدى إلى تحوّل صواريخ تكتيكية ومنخفضة التأثير في مساحات القتال الواسعة إلى صواريخ ذات نتائج هائلة، فيما قامت الصواريخ متوسطة المدى باستكمال باقي المهمة، إذ استهدفت مدناً أبعد مدى وأكثر أهمية، مثل حيفا والخضيرة والعفولة وغيرها.

2- إخفاء مسرح العمليات: بذل حزب الله جهوداً جبارة لعدم تمكين العدو الصهيوني من تحديد مسرح العمليات الأساسي الذي يمكن أن يوجه إليه قوته النارية الهائلة، سواء عبر سلاح الجو الذي كان يسيطر بشكل شبه كامل على الأجواء أو من خلال المدفعية الثقيلة من عيار 155 ملم، التي يُعرف عنها الدقة في الرماية وحجم الضرر الكبير الذي تُحدثه في صفوف الطرف الآخر.

لذلك، اعتمد الحزب بشكل كبير على إطلاق الصواريخ من أماكن متعددة، معظمها تحت الأرض، بحيث يتم إطلاق الصواريخ من خلال راجمات متعددة الفوهات في ثوانٍ معدودة من دون تحديد مكانها في معظم الحالات أو من خلال القتال بوضعية الحركة الذي كانت تقوم به قوات النخبة في الحزب، التي كانت تتصدى لمحاولات التقدم من أكثر من اتجاه، معتمدة على المغارات الجبلية والأنفاق، وفي بعض الأحيان من خلال بيوت خالية من سكانها، وكانت تتموضع في أماكن كاشفة لخط سير قوات المشاة الإسرائيلية، ولا سيما قوات النخبة، التي تلقت وحدات “ماجلان وإيجوز والمظليين” فيها صفعة قاسية في المعركة الشهيرة في بلدة مارون الراس.

3- الأسلحة المضادة للدروع: اعتمد حزب الله في مواجهة الدبابات والمدرعات الإسرائيلية على الصواريخ المضادة للدروع التي كان معظمها من صناعة روسية، مثل صواريخ الكورنيت والفاقوت، وتمكّن من خلال مجموعاته المضادة للدروع المنتشرة في التضاريس الصعبة لقرى الجنوب اللبناني من إيقاع فخر الصناعة الإسرائيلية “ميركافاه 4” وغيرها من الآليات في عشرات الكمائن التي تمكنوا من خلالها من اصطياد تلك الدبابات كأنها في ميدان رماية، وكانت أشهر تلك العمليات ما أُطلق عليها “مقبرة الدبابات” في وادي الحجير، حين خسرت “إسرائيل” نحو 40 دبابة وجرافة، وقتل أكثر من 20 جندياً، وأصيب العشرات.

4- كثافة إطلاق الصواريخ: نجح حزب الله من خلال وحداته الصاروخية في تهديد مركز الثقل الإسرائيلي، المتمثّل في المستوطنات الصهيونية التي افتقدت كثيراً من الخدمات أثناء الحرب، وهو بهذا الفعل الميداني استطاع إيجاد فجوة بين المستوطنين وقيادتهم السياسية والعسكرية، لا سيما بعد فشل تلك القيادة في توفير الأمن لهم، إضافةً إلى فشلها في توفير ما يلزم من غذاء ودواء لكثير من المستوطنات التي كانت تحت نيران الحزب.

5- الصواريخ المضادّة للسفن: رغم أن حرب تموز شهدت العديد من المفاجآت التي أصابت “الجيش” الإسرائيلي في مقتل، فإن أهمها على الإطلاق كان استهداف البارجة “ساعر – 5” قبالة سواحل مدينة صور، إذ تم النظر إلى تلك الحادثة بكثير من الانبهار، لكونها كانت الأولى من نوعها، إضافة إلى أنها جرت من دون أن يكون هناك توقع مسبق لإمكانية حدوثها.

وقد حاولت “إسرائيل” التكتم على الأمر في بداية الحدث ونفي التصريحات التي أطلقها الأمين العام لحزب الله على الهواء مباشرة، ولكنها اضطرت في النهاية إلى الاعتراف بالعملية، ملحقة ذلك بإجراء عملياتي تمثّل في سحب معظم سفنها من قبالة الشواطئ اللبنانية.

6- الحرب الإعلامية والسيكولوجية: تميّز حزب الله في حرب تموز بقدرة إعلامية وأخرى سيكولوجية قلّ نظيرها، واستطاع أن يقدّم لمناصريه وحاضنته الشعبية مادة إعلامية لا تخلو من رسائل نفسية، سواء كانت مرئية أو مقروءة، ساهمت في صمودهم ورفع روحهم المعنوية، فيما قدّم للجانب الآخر المتمثّل في المستوطنين الصهاينة والجنود الذين كانوا يقاتلون في الميدان رسائل من نوع آخر خلقت لديهم انطباعاً قاتماً عن مصيرهم ومستقبلهم غير الآمن في ظل قيادة بدت في غاية الغباء وقلة الخبرة.

وقد قاد الأمين العام للحزب شخصياً حملة الضغط الإعلامي والسيكولوجي على الجبهة الداخلية للعدو، ووجّه على نحو شبه دائم رسائل متلفزة إلى الجمهور الإسرائيلي، تركت، بحسب وسائل إعلام العدو، نتائج لافتة ومهمة للغاية، وكانت تحظى بمتابعة حثيثة من كل الصهاينة الذين كانوا يعتقدون بأنها صادقة أكثر من رسائل قادتهم السياسيين والعسكريين وتصريحاتهم.

إضافةً إلى كل ما تقدّم حول تجربة حزب الله على صعيد “الحرب اللامتناظرة” التي ركّزنا فيها على مجريات حرب تموز تحديداً، لكونها الصورة الأشمل والأوضح التي يمكن من خلالها قراءة المشهد والتعرّف إلى حيثياته، يمكن لنا أن نضيف حدثاً جديداً لم يمر عليه سوى عام واحد تقريباً، واعتبر في حينه حدثاً بارزاً جداً، هو إطلاق حزب الله 3 طائرات مسيّرة قرب حقل غاز كاريش إبّان الأزمة التي كادت تذهب بالمنطقة إلى حرب إقليمية واسعة.

وقد تمكّن الحزب من خلال طائرات صغيرة وغير مسلّحة من استجرار ردود فعل دولية، ولا سيما أميركية، أدت في نهاية المطاف إلى الوصول إلى اتفاق يرضي جميع الأطراف، ويحافظ على ثروة لبنان من النفط والغاز، التي كانت سابقاً مستباحة من الجانب الإسرائيلي.

هذا الأمر يعطينا صورة لا تقبل التأويل عن ضرورة اختيار الأدوات المناسبة لخوض المواجهة مع هذا العدو، إضافة إلى اختيار الوقت المناسب أيضاً، وتوجيه الضغط إلى نقاط ضعفه مباشرة، لنحصل على التأثير الأمثل، وكل هذا من صميم مبادئ “الحرب اللامتناظرة”.

الخاتمة
باستطاعتنا القول في النهاية إن المقاومة الفلسطينية واللبنانية أوجدت لنفسها مكاناً في “المنطقة الميتة” لإمكانيات “الجيش” الإسرائيلي وقدراته، وتمكنت بنسبة كبيرة من تجاوز عقدة فارق القوة لمصلحته، التي كان يستطيع من خلالها حسم كل المعارك سابقاً.

ولكن أسلوب القتال الجديد الذي اعتمدت من خلاله المقاومة على مفهوم “الحرب اللامتناظرة”، واستخدمت في بعض الأحيان، ولو بشكل جزئي، بعض مبادئ “الحرب الهجينة” التي تجمع بين مبادئ الحربين التقليدية واللامتناظرة، ساهم بشكل واضح في تعديل نتائج الحرب وجعلها تميل أكثر إلى جانب قوى المقاومة.

إن الاعتماد على مفاهيم من قبيل “القتال المتناثر” و”التجزئة الديناميكية” لمسرح العمليات أدى إلى فقدان العدو جزءاً كبيراً من تأثير القوة التي يملكها، ولا سيما أن المقاومة عملت وفق مبدأ الاختفاء الإيجابي من ميدان المعركة، وقاتلت بنفس طويل من زاوية إلى أخرى. هذا كله جعل العدو يفقد صبره في ظل رغبته في خوض المعارك السريعة والحاسمة.

ولأنَّ هذا الاحتلال يستخلص العبر من المواجهات السابقة، ويحاول أن يُكيّف خططه القتالية مع كل المستجدّات التي تطرأ في الميدان، فإن على المقاومة في كلّ أماكن وجودها تحديث خططها وتكتيكاتها، وتطوير إمكانياتها وقدراتها، وتفعيل جملة من الأفكار الحديثة التي لم يتم العمل وفقها من قبل، وابتكار وسائل وأساليب غير مُتوقعة قد تساهم في مزيد من التراجع والانكفاء للمشروع الصهيوني برمته، بما يؤدي في نهاية المطاف إلى تحقيق النصر الحاسم والمؤكد.

“الحرب اللامتناظرة”.. “إسرائيل” في مواجهة نوع جديد من الحروب

أقلام-مصدر الإخبارية

كتب المحلل السياسي أحمد عبد الرحمن، بما أن الحكومات المتعاقبة في “إسرائيل” كانت تحاول على الدوام استلهام التجربة الأميركية في كثير من المجالات، لا سيما تلك التي تتعلّق بالأمن القومي، والدفاع عن مصالح “الوطن” في وجه الكثير من المخاطر التي تتهدده، فقد شرعت بعد تفجّر “انتفاضة الأقصى” في العام 2000، في إعادة النظر في كثير من مبادئ عقيدتها القتالية، في محاولة منها لمواجهة ذلك النمط الجديد من العمليات المصنّفة ضمن مبادئ “الحرب اللامتناظرة “.

هذا النمط كان عبارة عن سلسلة من الهجمات الاستشهادية التي ضربت عمق المدن الإسرائيلية، موقعة خسائر بشرية ومادية هائلة، إضافة إلى هجمات مسلحة استهدفت قواتها المنتشرة في طول الأراضي الفلسطينية المحتلة وعرضها، يُضاف إليها صواريخ قصيرة المدى ضربت عديد المدن القريبة من قطاع غزة تحديداً، وكذلك المستوطنات المقامة على مساحات شاسعة من أراضي القطاع قبل عملية الانسحاب في العام 2005. وقد بذلت المؤسسة الأمنية الإسرائيلية جهوداً مضنية في ذلك الوقت من أجل تكييف تلك العقيدة التي بدت في تلك الفترة عاجزة عن مواجهة المخاطر المستجدّة، لتتمكن من مجابهة جملة من الأساليب والأدوات التي لم تعهدها من قبل.

ورغم أن الكيان الصهيوني حاول بعد أحداث الحادي عشر من أيلول(سبتمبر) 2001، تقديم نفسه للإدارة الأميركية بأنه حليف يمكن الوثوق به في الحرب على “الإرهاب”، في ظل انطلاق العمليات العسكرية الأميركية في أفغانستان، وأنه يملك كل المقوّمات التي تجعله طرفاً أساسياً في تلك الحرب إلى جوار حليفه الأميركي، فإن فشله في مواجهة النمط الجديد من العمليات المشار إليها آنفاً، والتي ضربت عمقه الأمني في السنوات الخمس الأولى من الألفية الجديدة تحديداً، قد كشف المستور، وأظهر بما لا يدع مجالاً للشك أن هذا الكيان عاجز عن حماية جبهته الداخلية، وأنه لا يملك تلك الخبرة التي يتحدّث عنها، وليس لديه حلول يمكن أن تكون مفيدة في وضع حد للضربات التي وصلت إلى قلب المدن الصهيونية، وبالتالي لا يمكن له وهو بهذا العجز، وفي ظل تلك الإخفاقات أن يساعد حليفه الأميركي في مواجهة المخاطر الكثيرة التي تعترضه.

هذا الإخفاق الصهيوني تكرر في أحداث لاحقة، لا سيما في عدوان تموز(يوليو) 2006 على لبنان، وفي عدوانه على قطاع غزة في العام 2008-2009، حيث ثبُت مرة أخرى أن الادعاء الإسرائيلي بامتلاك القدرة على مواجهة ذلك النوع الجديد من الحروب كان بلا معنى، وأنه رغم الغطاء السياسي غير المسبوق، والدعم العسكري الهائل، والوقت الذي مُنح له لحسم المعركة، وتحقيق الانتصار في حرب لبنان تحديداً، فإنه لم ينجح في ذلك، وهذا ما دفعه بعد انتهاء الحرب إلى تشكيل لجان تحقيق؛ لتقييم أوجه القصور والفشل، ووضع الحلول المناسبة لعدم الظهور بهذا العجز مرة أخرى، ولقراءة الأسلوب الجديد الذي استخدمته المقاومتان اللبنانية والفلسطينية في ذلك الوقت واستيعابه، والذي أفقد العدو الصهيوني جزءاً مهماً من قوته، ومنعه من استثمار تفوّقه العسكري بالطريقة المثلى، على خلاف ما كان يحدث سابقاً في الحروب التقليدية التي كان “الجيش” الإسرائيلي يحسمها في أيام معدودة في حروبه ضد الجيوش العربية.

النظرة الإسرائيلية إلى الحرب اللامتناظرة:
لا تختلف النظرة الإسرائيلية إلى الحرب اللامتناظرة عن تلك التي صاغتها كبرى الهيئات العسكرية والاستراتيجية الأميركية، وقد أشرنا في مقدّمة هذا المقال إلى محاولة “إسرائيل” محاكاة التجربة الأميركية في هذا المجال، وإظهار نفسها في صورة التلميذ النجيب الذي يحذو حذو معلّمه، ويسير على خطاه بكل مهارة وإتقان. ولذلك، قدّمت مراكز البحث الإسرائيلية تعريفات مشابهة بدرجة كبيرة لتلك التي طرحتها نظيرتها الأميركية، على الرغم من وجود اختلاف واضح في المصطلحات والتعريفات، فإن الأسس والمبادئ بقيت كما هي.

ويربط التعريف الإسرائيلي الحرب اللامتناظرة بجملة من المبادئ الأخرى، مثل ما سمّاه صراع القيم، والثورة التكنولوجية الهائلة، وصراع الثقافات والحضارات.

أحد التعريفات الإسرائيلية يشير إلى أن الحرب تصبح أكثر تعقيداً وشراسة عندما تقع بين “الجيش” الإسرائيلي وبين مجموعات تحمل ثقافة مختلفة كالثقافة العربية على سبيل المثال، إذ إن هذه المجموعات، حسب التعريف الإسرائيلي، تنظر إلى الحرب على أنها أوسع وأشمل من مجرد مواجهة مسلّحة، تُخاض في مسرح عمليات محدود، وتستغرق مدة زمنية محددة، بل إن الحرب من وجهة نظر أصحاب الثقافات العربية والإسلامية، وجزء كبير من ثقافات الصين وأميركا الجنوبية، عبارة عن صراع حضارات، يشمل كل أنصار الطرفين المتحاربين، ولا يقتصر فقط على القوات في الميدان، ويجمع بين القتال بالسلاح وبين الدبلوماسية، ولا يتقيّد بتواريخ محددة، أو بميدان معيّن. إضافة إلى ذلك، فإن التفوّق العسكري والتكنولوجي لـ”الجيش” الإسرائيلي يدفع أعداءه على الابتعاد قدر الإمكان عن خوض حرب تقليدية معه، تكون القدرات والإمكانيات العسكرية فيها حاسمة، بل يعتمدون على حروب طويلة زمنياً، تشبه إلى حدٍ بعيد حرب العصابات، لكنها تختلف عنها في الوسائل والأدوات، وميدان القتال، والمدة الزمنية التي تستغرقها، إضافة إلى اشتمال تلك الحرب على كل النواحي الأخرى غير العسكرية، مثل استهداف الجبهة الداخلية الصهيونية، والنواحي الاقتصادية، وصولاً إلى الشأن الداخلي للدولة المتعلّق بالسياسة الداخلية، والخلافات بين الأحزاب وغير ذلك.

وفي تعريفات أخرى للحرب اللامتناظرة، ترى بعض المراكز الإسرائيلية أن ضعف “العدو- المقاومة”، وقلة إمكانياته العسكرية، وافتقاده إلى الأدوات المناسبة لخوض مواجهة تقليدية في مواجهة “الجيش” الإسرائيلي، ليس شرطاً لدفعه إلى الاستسلام أو رفع الراية البيضاء، بل إنه يعوّض ذلك النقص من خلال القدرة على الصمود، وخلق وضع لا يمكن للطرف الإسرائيلي تحمّله أو التكيّف معه، لا سيما في ظل عدم تمكّن ذلك الطرف (الإسرائيلي) من حسم المعركة، أو تسجيل نقاط انتصار واضحة يمكن أن تقرّبه من حسم المعركة، وأن مجرد صمود قوى المقاومة، وعدم انهيارها نتيجة ما قد تتكبّده من خسائر مادية وبشرية، هو بحدّ ذاته إنجاز يمكن البناء عليه على المدى الطويل، والمراكمة عليه وصولاً إلى مرحلة يمكن فيها مهاجمة “إسرائيل” من أكثر من جهة، عندما تسمح ظروف المعركة بذلك. وبالتالي، يمكن لنا أن نكتشف أن النظرة الإسرائيلية إلى الحرب اللامتناظرة تشبه كثيراً النظرة الأميركية، ولكنها بالرغم من ذلك الشبه لم تستطع إيجاد أو طرح حلول عملية للتعامل مع تلك الحرب كما فعل الأميركيون، وهذا ما ظهر جليّاً في الميدان في أكثر من معركة كما أشرنا سابقاً. وبناءً عليه، أخذت “إسرائيل” في البحث عن بدائل أخرى، تجنّبها خوض غمار هذا النوع من الحروب، وتزيح عن كاهلها عبء تلقّي ضربات قاسية تستهدف خاصرتها الرخوة، وعمقها الأمني الهش.

البحث عن حلول:
بعد فشل “الجيش” الإسرائيلي في تحقيق نصر حاسم، في معارك العقد الأول من الألفية الثانية، يُرضي غرور قادته، ويمكّنهم من الظهور بمظهر المنتصر، ويعطيهم القدرة على رفع سقف الآمال أمام مناصريهم بمستقبل آمن لـ”دولة” الكيان، حيث حلّ الشعور بالإحباط والفشل في كثير من المؤسسات الأمنية والعسكرية، الأمر الذي دفع اللواء احتياط “إسحاق هريئيل” إلى وصف “الجيش” الإسرائيلي بأنه “جيش” فارغ، فيما قال عنه رئيس محكمة الاستئناف اللواء “يشاي بار” إنه “جيش” متوسط المستوى، ولا يتفوّق على خصومه إلا بقليل من المميزات المحدودة، وأنه عندما يدخل إلى يوم الحسم سيظهر مثل الشيك من دون رصيد.

في ظل هذا الوضع الذي انتابه الكثير من الشكوك بقدرة “جيش” الاحتلال على مواجهة حرب مختلفة عن سابقاتها، وفي ظل اعتماد أعداء “إسرائيل”، لا سيما في لبنان وفلسطين، على أسلوب “الحرب اللامتناظرة “، فقد أخذت الدوائر المختصة في “الدولة” العبرية بالبحث عن حلول مناسبة، تستطيع من خلالها مواجهة المتغيّر الجديد، بما يمكن أن يضمن لها تحقيق النصر، أو على أقل تقدير المحافظة على قدرة الردع في وجه أعدائها الذين باتوا أكثر جرأة، وأصبحوا يتقدمون بخطوات واثقة نحو تهديد منظومة الأمن الإسرائيلية بشكل أكثر جدّية، وبمستوى لم يكن معهوداً من قبل.

وبناءً عليه، فقد توصّلت مراكز البحث الاستراتيجية في الكيان الصهيوني إلى صيغة يمكن الاعتماد عليها لمواجهة أسلوب الحرب اللامتناظرة، اعتمدت بطريقة أو بأخرى على مواجهة ما سمّته “حالة معقّدة جداً، ومركّبة بطريقة غير معتادة”، وهذه الحالة تشمل كل المستويات من عسكرية وسياسية واجتماعية واقتصادية وفكرية، وهي غير مقتصرة كما كان يحدث سابقاً على معارك عسكرية تدور في ميادين القتال، وإنما هي معركة متعددة المستويات، تدور في كثير من الأماكن، مثل المدن والقرى والبيوت، وفي المؤسسات والبنوك ودور النشر، وفي دور السينما والملاهي ورياض الأطفال، وأن نتيجة تلك المعركة التي تُخاض على هذا المستوى الواسع أهم بكثير من تلك التي تُخاض في ميدان القتال.

اقرأ/ي أيضا: مكتب نتنياهو يعلن اختطاف إسرائيلية في العراق

وقد أوصى الخبراء الاستراتيجيون الصهاينة بإعادة النظر في المفاهيم الفلسفية للحرب بكل أبعادها، ووضعوا جملة من المبادئ التي يجب على القادة في “دولة” الاحتلال التنبّه لها، والعمل وفق قواعدها، وكان من أهمها:

1/إعادة الاعتبار لسلاح البر: أوصى الخبراء الصهاينة بضرورة إعادة الاعتبار للذراع البرية لـ”الجيش” الإسرائيلي، والتي نالت نصيب الأسد من جملة الانتقادات التي واجهها “الجيش” نتيجة إخفاقه في حسم المعارك التي خاضها خلال السنوات الأخيرة، وقد دعت تلك التوصيات إلى إعادة هيكلة فرق “الجيش” البرية، بما يؤدي إلى مزيد من التوافق والانسجام في أداء المهام الميدانية، وبما يساعد أيضاً في تقليل عدد الخسائر البشرية، إضافة إلى تحديث مجموعة الأدوات التي يستخدمها من آليات عسكرية، وأجهزة مراقبة واتصال.

2/ تعزيز دور سلاح الجو: ركزت التوصيات على ضرورة تعزيز دور سلاح الجو الإسرائيلي، وإعطائه مساحة أوسع من مجموع المهام القتالية التي يتم تنفيذها أثناء المعركة، مع التنبّه إلى مسألة تحديث الأسطول الجوي، لا سيما على صعيد الطائرات الحربية التي تملك مرونة أكبر في أداء المناورات في الجو، ولديها وسائل تكنولوجية حديثة تستطيع من خلالها إصابة الأهداف بدقة، إضافة إلى زيادة الاعتماد على سلاح الجو المسيّر.

3/ تطوير منظومات الدفاع الجوي : في ظل تطور إمكانيات المقاومتين الفلسطينية واللبنانية، تحديداً على صعيد سلاح الصواريخ، التي باتت تشكل خطراً على بعض المدن الصهيونية في ذلك الوقت، وبناءً على تقدير موقف مستقبلي بأن تلك الصواريخ ستتطور، وستصبح أكثر قدرة على إحداث الدمار، وأبعد مدى بما يشمل معظم المدن المحتلة، فقد أوصى المختصون بتحديث منظومات الدفاع الجوي الإسرائيلية، بما يمكنها من مواجهة التهديدات الجديّة التي أصبحت تشكلها صواريخ المقاومة، لا سيما أن تلك التهديدات كانت ترتفع شيئاً فشيئاً مع مرور الزمن، وزيادة الخبرة لدى المقاومين سواء على صعيد التصنيع، أو طرق التوجيه والإطلاق.

4/حصر الحرب في مدة زمنية محدودة: بما أن الطرف الآخر (المقاومة) يفضّل خوض حرب طويلة تشبه في مضمونها حروب الاستنزاف، معتمداً في ذلك على خزّان بشري لا ينضب، وعقيدة قتالية لا تدفعه إلى الملل أو اليأس، فإنه يتوجّب على القادة الصهاينة بذل كل الجهود الممكنة لعدم خوض حرب من هذا النوع، ومحاولة حصر المواجهة العسكرية في مدة زمنية قصيرة نسبياً.

5/ التحلّي بالصّبر وطول النفس: يجب على القادة العسكريين الإسرائيليين بمستوياتهم القيادية كافة، وخصوصاً أولئك الذين يقودون الوحدات القتالية في الميدان، أن يتحلّوا بطول النفس والصبر إلى أبعد الحدود، لأن الصراع الذي يُدار من جانب الطرف الآخر (المقاومة) يعتمد على تكتيك يسعى إلى إدامة المعركة، حتى لو كانت منخفضة المستوى.

6/ الابتعاد عن وضع الخطط المعقّدة: ينبغي للقادة العسكريين الابتعاد عن وضع خطط وحلول تزيد من صعوبة المعركة وتعقيداتها، لا سيما على صعيد تنفيذ عمليات واسعة تتطلّب احتلالاً كاملاً للمناطق التي يوجد فيها المقاومون، ما يفرض على القوات الإسرائيلية البقاء في تلك المناطق لفترات طويلة، وهو ما يجعلها عرضة للاستهداف المتكرر، إضافة إلى تحمّلها المسؤولية القانونية عن المدنيين الموجودين في تلك المناطق، وهذا الأمر تحديداً يمكن أن يتحوّل إلى مأزق مستدام لا ترغب “إسرائيل” في التورّط فيه.

7/ المعارك المتوسّطة بفواصل زمنية: أفضل السيناريوهات التي يمكن أن تخدم السياسة الإسرائيلية وتحقق لها جزءاً من أهدافها التكتيكية، وتبعدها وإن بنسبة معينة عن خوض حرب طويلة، هي العمليات العسكرية متوسطة المستوى، والتي يمكن أن تفصل بين كل عملية وأخرى عدة سنوات، وهو ما أصبح يُطلق عليه في الأوساط العسكرية الصهيونية “معركة بين الحروب”، وهذا الأمر يجب أن يتم بعد دراسة مستفيضة للأهداف التي تريد “دولة” الكيان تحقيقها من وراء تلك المعركة، بالإضافة إلى تحديد عاملي الزمان والمكان، والتنبّه إلى الظروف المحلية والإقليمية التي يمكن أن تؤثّر في نجاح العملية. إضافة إلى كل ما سبق، يجب أن تكون كلمة الافتتاح في تلك العملية في يد “الجيش” الإسرائيلي، إذ يجب عليه أن يبادر إلى المعركة من خلال ضربة مفاجئة، تستهدف مراكز الثقل لدى المقاومة.

8/ الجبهة الداخلية: يتوجّب على القادة العسكريين الصهاينة الانتباه إلى الجبهة الداخلية الإسرائيلية، ومحاولة وضع حلول عملية لجملة من التداعيات التي يمكن أن تواجهها نتيجة تلك المعركة، خصوصاً في ظل تطوّر إمكانيات فصائل المقاومة، التي أصبح بإمكانها استهداف العمق الإسرائيلي بالصواريخ والقذائف، وهذا الأمر يمكن أن يعرّض الجبهة الداخلية الإسرائيلية لضغوط كبيرة، ربما تؤثر في حماستهم تجاه العمليات التي يخوضها “جيشهم” بين الفينة والأخرى، وهو ما يفرض على القادة الصهاينة تنفيذ مهمة مزدوجة، تركّز في شقها الأول على تأمين المدن والمنشآت الحساسة من خلال المنظومات المضادة للصواريخ، وفي شقها الثاني على إدارة معركة إعلامية تستهدف في الأساس الجبهة الداخلية، وتشيع لديها إحساساً بالأمان من ناحية، ومن ناحية أخرى تحثّها وتشجّعها على مواصلة دعم خيارات قيادتها العسكرية والسياسية وتأييدها.

9/المنظومة الدولية: بما أن المعركة العسكرية يمكن أن ينتج منها خسائر في صفوف المدنيين في الطرف الآخر، وهو الأمر الذي قد يعرّض “إسرائيل” لانتقادات دولية واسعة، يجب على القادة الإسرائيليين إدارة معركة إعلامية وسياسية واسعة، يُستخدم فيها كل أنواع الكذب والتضليل، وقلب الحقائق، وتزييف المعلومات، وهذا الأمر بحاجة إلى وسائل إعلام محترفة، وناطقين عسكريين وسياسيين ذوي خبرة كبيرة، إضافة إلى إيجاد نوع من التكتّلات الدبلوماسية الدولية داخل المؤسسات الأممية، وتلك المعنية بحقوق الإنسان، لمنع صدور قرارات إدانة يمكن أن تؤثر في العمليات العسكرية الإسرائيلية.

ترجمة المبادئ في الميدان:
في ضوء ما سبق من مبادئ، والتي تحوّلت فيما بعد إلى توصيات مُلزمة تشمل أعلى الهيئات في “الجيش” الإسرائيلي، خصوصاً بعد عدوان 2014 على قطاع غزة، والذي تلقّى فيه “جيش” العدو ضربات مؤلمة، هزّت بصورة لم يسبق لها مثيل صورته السابقة، التي كانت تظهره في صورة “البطل الذي لا يُقهر”، فقد تم اعتماد جملة من التعديلات على آلية عمل “الجيش” الإسرائيلي، سنشير إلى بعضها للأهمية:

1/ ذراع البر: بما أن القوات البرية في “الجيش” الإسرائيلي، والتي تمثّل العصب فيه، ويُعتمد عليها في تنفيذ معظم المهام القتالية الرئيسية، وبناء على إخفاقاتها الكبيرة في الحروب الأخيرة، بداية من تموز/يوليو 2006 في لبنان، مروراً بحرب غزة الأولى 2008-2009، والثانية عام 2012، وصولاً إلى الحرب الثالثة 2014، فقد تم إدخال العديد من التعديلات على عمل “جيش” العدو، من خلال رفع قدراته التكتيكية والعملانية، إضافة إلى إمداده بأحدث الوسائل التكنولوجية، مع التركيز في بعض الوحدات التي تكون في مقدمة “الجيش”، على رفع مستوى الحماية للجنود، لتقليل حجم الخسائر البشرية، والتي ينظر إليها المجتمع الصهيوني بأنها أحد أهم محددات نجاح المعركة من عدمه.

2/ منظومات الدفاع الجوي: في كل حروب “إسرائيل” السابقة، التي خاضتها ضد الدول العربية، لم يتم تهديد الجبهة الداخلية الإسرائيلية بأي شكل من الأشكال، وانحصرت تلك المعارك في أراضي “العدو”، بعيداً من المدن الصهيونية، التهديد الوحيد كان إبان حرب الخليج الثانية عندما أطلق الجيش العراقي عشرات الصواريخ في اتجاه تلك المدن، وهو الأمر الذي عُدّ تجاوزاً للخط الأحمر الذي كانت ترسمه “إسرائيل” لكل خصومها في المنطقة، ولكن بعد الحروب الأربع المُشار إليها آنفاً، والتي تعرضت فيها الجبهة الداخلية الصهيونية لسيل من الصواريخ بأنواعها المختلفة، والتي غطّت معظم المدن المحتلة من الشمال وحتى الجنوب، فقد تم إقرار خطة لتعزيز عمل منظومات الدفاع الجوي الإسرائيلية، سواء من ناحية العدد، أو من ناحية القدرة العملياتية للتصدي لصواريخ المقاومة، إذ تم نشر العشرات من منظومات القبة الحديدية، التي تعترض الصواريخ ضمن مدى 70 كلم، والتي كانت قد دخلت الخدمة منتصف عام 2011 ولكن بأعداد محدودة، إضافة إلى منظومات أخرى من طراز مقلاع داوود، وحيتس، وباتريوت، وباراك.

3/ سلاح الجو: رغم أن “إسرائيل” كانت تعتمد دوماً على سلاح الجو في حسم معاركها مع الدول العربية، فإن فعالية هذا السلاح قد انخفضت كثيراً في المعارك مع فصائل المقاومة، لا سيما في لبنان وفلسطين، ولم تستطع حسم أي معركة بالاعتماد على طائراتها الحديثة، التي ألقت آلاف الأطنان من القنابل الثقيلة على المدن اللبنانية والفلسطينية، وبناء عليه فقد بدأت “إسرائيل” في تركيز جهودها على تحديث طائرات سلاحها الجوي، وتزويدها بتقنيّات أكثر قدرة على تحديد الأهداف وتدميرها، إضافة إلى حصولها على طائرات أكثر قوة، مثل طائرات الشبح “F-35 ” أميركية الصنع، والتي استخدمتها لاحقاً خلال معركة “سيف القدس” أيار/مايو 2021. إضافة إلى كل ذلك، فقد منحت دوراً أكبر للطائرات المسيّرة بمختلف أنواعها، والتي نفّذت خلال السنوات الثلاث عشرة الماضية مئات العمليات التي استهدفت من خلالها ناشطي المقاومة، لا سيما في قطاع غزة، وصولاً إلى استخدام الطائرات المسيّرة الانتحارية خلال العامين الأخيرين.

4/ أجهزة الاستخبارات: قامت الهيئات المختصة التي أفرزتها لجان التحقيق المختلفة بإحداث تغييرات وُصفت في حينه بالكبرى على مستوى أجهزة الاستخبارات الصهيونية، وقد نال كل من شعبة الاستخبارات العسكرية “أمان”، وجهاز الشاباك، نصيب الأسد من تلك التغييرات. “أمان” المنوط بها تقديم المعلومات الاستخبارية عن دول الجوار، وعن قوى المقاومة في الإقليم، وتقديم تقدير موقف يُبنى عليه قرار شن عملية عسكرية من عدمه، فشلت في تقديم معلومات حقيقية تتعلق بقوة حزب الله في لبنان قبيل حرب تموز/يوليو 2006، وهو الأمر الذي أدى إلى فشل العملية، إضافة إلى الخسائر الجسيمة التي وقعت في صفوف “الجيش” الإسرائيلي. أما الشاباك فقد فشل بدوره في تقديم معلومات وافية تساهم في حسم المعارك التي شنتها “إسرائيل” ضد قطاع غزة، لا سيما في أعوام 2008 و2012 و2014.

5/الجبهة الداخلية: على مستوى الجبهة الداخلية الإسرائيلية، فقد جرى ما يمكن وصفه بثورة، حيث تم تطوير مهام قائد الجبهة الداخلية بشكل واضح وجلي، إذ لم يعد مسؤولاً فقط عن إخلاء المناطق المستهدفة أو المباني المهدّمة من المدنيين في وقت الحاجة، ولا عن إطلاق صافرات الإنذار، وتوجيه السكان لحماية أنفسهم من الأسلحة التقليدية وغير التقليدية، إنما أُضيف إلى مهامه المسؤولية عن ما أُطلق عليه “المناعة الاجتماعية “، وهي التي كان من المقرر تنفيذها قبل ذلك من هيئات مدنية. إضافة إلى ذلك، فقد تم تشكيل القوة الرئيسية التابعة لقيادة الجبهة الداخلية، والتي تضم 24 كتيبة إغاثة وإنقاذ، و12 كتيبة مختصة بمعالجة الأسلحة الكيميائية والبيولوجية، و14مشفى، و10 كتائب لحفظ النظام، وهي جميعها تقع في 18 منطقة، إذ تمثّل كل منطقة منها منطقة لوائية موسعة. كما تم تقسيم المدن الكبرى إلى مربعات أمنية، وتم تعيين مئات الضبّاط كضباط اتصال في أوقات الطوارئ لمختلف المناطق، إضافة إلى تقسيم “الكيان الصهيوني إلى 27 منطقة إنذار مقارنة مع 10 مناطق قبل ذلك.

6/ تطويع المنظومة الدولية: في إطار إعادة التكيّف مع فلسفة الحرب اللامتناظرة وقواعدها، و في ضوء اعتبار الكيان الصهيوني التهديد السياسي والقانوني جزءاً من المعركة العسكرية، ابتكرت الجهات المعنية بالعلاقات الخارجية، وتلك التي تمثّل “الدولة” العبرية في المؤسسات الأممية، لا سيما المعنية منها بحقوق الإنسان، مفهوماً جديداً أطلقت عليه مصطلح “الحرب العادلة “، وذلك من أجل وضع عقائد وقواعد أخلاقية جديدة في الحرب المنوي الخروج إليها، تتيح للكيان التفلّت من القانون الدولي بصيغته المعروفة، واعتبار ما يجري من خروقات للقانون الدولي الإنساني، وقوانين حماية المدنيين زمن الحرب، بأنه أمر طبيعي تفرضه طبيعة المعركة غير النظامية.

الخاتمة: رغم كل ما سبق من تعديلات إسرائيلية خاصة بمواكبة مفهوم الحرب اللامتناظرة، والتي حاول العدو من خلالها ابتكار وسائل، واستخدام أدوات تناسب مضمون تلك الحرب، وتتصدى لها في كثير من المجالات، فإن النتائج التي اتضحت خلال السنوات من 2015، وحتى وقتنا الحالي، بما تضمنته من معارك قاسية على غرار “سيف القدس” و”وحدة الساحات” وصولاً إلى “بأس الأحرار”، وبما نشاهده منذ أكثر من عامين في الضفة المحتلة، لا سيما في المدن الشمالية منها، وما يجري هذه الأيام في مخيم جنين،، قد أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك أن الحلول الإسرائيلية لم تؤتِ أُكلها، ولم تنجح في مواكبة ومجابهة الأساليب التي باتت تنتهجها فصائل المقاومة حتى في فترات الهدوء، التي تشهد مواجهة أمنية صامتة، وقد أقرّ كثير من وسائل الإعلام الإسرائيلية وعديد من الجنرالات السابقين بهذا الإخفاق، وعدّوه فشلاً استراتيجياً يُنذر بمزيد من التراجع على مستوى قدرة الردع الإسرائيلية، ويمهّد الطريق أمام مزيد من النجاحات لفصائل المقاومة في فلسطين والإقليم.

تلك النجاحات سنتحدث عنها في الجزء الثالث والأخير من هذا المقال، وسنحاول التأصيل لمراحل بلورة قوى المقاومة لخطط المواجهة مع الكيان الصهيوني اعتماداً على مفهوم “الحرب اللامتناظرة”.

الحرب اللامتناظرة.. وتداعياتها على مجريات المعركة في الإقليم

أقلام – مصدر الإخبارية

الحرب اللامتناظرة.. وتداعياتها على مجريات المعركة في الإقليم، بقلم الكاتب في الشؤون العسكرية والسياسية أحمد عبد الرحمن، وفيما يلي نص المقال كاملًا:

سنحاول في هذه الإطلالة إلقاء الضوء على نظرية “الحرب اللامتناظرة “، والتعرّف إلى أدواتها وأساليبها، وإمكانية الاستفادة قدر الإمكان منها في مواجهة التحدّيات القائمة أمام قوى المقاومة.

يبدو مصطلح “الحرب اللامتناظرة “، أو كما يسمّيه البعض “الحرب اللامتماثلة “، غريباً لدى كثير من الناس، وقلّما تجد من يستخدم هذا المصطلح حتى من الخبراء والمعنيين. وفي الحقيقة قد يكون هذا الأمر مبرراً بسبب تعوّد آذاننا على سماع مصطلحات أخرى من قبيل الحرب النظامية، أو التقليدية، أو الكلاسيكية، وحرب العصابات، وفي بعض الأحيان نسمع عن الحرب السيبرانية، والاستخبارية ألخ….

وربما يعتقد البعض أن هذا المصطلح جديد وحديث، ولم يبلغ سن الرشد بعد، إلا أن حقيقة الأمر غير ذلك تماماً، إذ إنه تم طرح هذا المفهوم، أو المصطلح، منذ نهاية الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي، وصيغت مبادئه في ذلك الوقت من كبريات الهيئات العسكرية والاستراتيجية العالمية، وفي مقدمتها المؤسسات الأميركية، التي تتم الإشارة إليها في كثير من الدراسات على أنها صاحبة السبق في صوغ هذا المفهوم.

ويمكن لنا أن نشير إلى أن السنوات الأخيرة من القرن العشرين، قد شهدت بداية دخول مصطلح ” الحرب اللامتناظرة ” إلى القواميس العسكرية العالمية، لا سيما في مجال التخطيط الدفاعي الاستراتيجي، إذ خلص القادة العسكريون الأميركيون في ذلك الوقت إلى نتيجة مفادها أن سقوط الاتحاد السوفياتي، وغيابه عن الساحة العالمية كقوة عسكرية وسياسية واقتصادية كبرى وفاعلة، قد سمح بظهور مخاطر وتحدّيات جديّة يمكن لها أن تهدّد الأمن القومي الأميركي، وأنه يتوجب على المخططين الاستراتيجيين الأميركيين وضع خطة للتصدّي لتلك التهديدات، والتي يمكن لها أن تتوسّع لتشمل كل الدول على مستوى العالم، خصوصاً تلك التي يجمعها تحالف استراتيجي مع الولايات المتحدة، وتشارك بشكل أو بآخر في تنفيذ السياسة الأميركية التي تتسم بالعدوانية في معظم الأوقات ضد باقي مكوّنات المنظومة الدولية، لا سيّما تلك التي لا تُعدّ حليفة للكاوبوي الأميركي.

وقد ركّزت نظرية “الحرب اللامتناظرة” التي تم صوغها بمفاهيم جديدة، تختلف بشكل واضح عن تلك المعتمدة في نظريات الحروب الأخرى، والتي تُبنى عليها استراتيجيات المواجهة، وتكتيكات القتال، إذ رأت أن المواجهة العسكرية المباشرة ضمن مبدأ “الحرب الكلاسيكية ” بين قوى كبرى تملك إمكانيات عسكرية وتكنولوجية هائلة، وبين أخرى صغرى تفتقد إلى كثير من تلك المقوّمات والقدرات، لم تعد متاحة بشكل كبير، وأن هناك قناعة تزداد وضوحاً لدى القوى الصغرى تشير إلى رغبتها في خوض مواجهة من طراز جديد، لا تعتمد على الإمكانيات العسكرية التقليدية، من مدافع ودبابات وطائرات وغيرها، والتي تسمح للعدو بتحقيق نصر سريع وحاسم، وإنما على قدرات وأساليب تقلل من حجم التفاوت في القدرات، وتحدّ قدر الإمكان من تأثير ذلك التفوّق على مجريات المعركة ونتائجها.

هذا المفهوم الجديد ينطبق في كثير من الأحيان على المواجهة الدائرة في الإقليم، بين قوى المقاومة وفصائلها على اختلاف مسمّياتها من جهة، وبين العدو الصهيوني وحليفه الأميركي من جهة ثانية، وهو يتّضح أكثر في الصراع الدائر على الساحة الفلسطينية، التي تشهد تطورات ميدانية مهمة خلال الفترة الأخيرة.

وبالتالي، نحن سنحاول في هذه الإطلالة إلقاء الضوء على نظرية “الحرب اللامتناظرة “، والتعرّف إلى أدواتها وأساليبها، وإمكانية الاستفادة قدر الإمكان منها في مواجهة التحدّيات القائمة أمام قوى المقاومة.

تعريف “الحرب اللامتناظرة “:
بما أن الولايات المتحدة الأميركية هي صاحبة السبق في اعتماد مفهوم “الحرب اللامتناظرة “، وهي أول من وضع استراتيجية قومية لمواجهة تلك الحرب التي اعتقدت أنها ستشكّل خطراً كبيراً على أمنها القومي، وعلى انتشار قواتها في كثير من جغرافيا العالم الواسعة، فيجب علينا أن ننظر إلى التعريف الأميركي لهذه الحرب، والذي اعتمد على قراءة مستفيضة ومعمّقة لمجمل التطورات التي بدأت في الظهور في تلك الفترة، وكذلك على نظرة استشرافية للمستقبل، بناء على معطيات وأسباب بدت للخبراء الأميركيين في ذلك الوقت أنها قادمة لا محالة.

فبعد انتهاء حرب الخليج الثانية “عاصفة الصحراء ” في شباط/فبراير1991، أصدرت هيئة التقديرات في وزارة الحرب الأميركية “البنتاغون”، التي كان يشرف عليها في ذلك الوقت الجنرال “روبرت إيفاني”، قائد كلية الحرب التابعة للبنتاغون، تقدير موقف بشأن الأخطار التي يمكن أن تواجهها أميركا نتيجة تموضع قواتها في العديد من دول العالم، سواء أكان ذلك التموضع باتفاق مع بعض الدول، أو من خلال القوة العسكرية كما جرى في العراق وأفغانستان على سبيل المثال، وقد خلُص ذلك التقدير إلى أن أعداء أميركا لن يستطيعوا في المستقبل مهاجمتها من خلال استخدام أسلوب الحرب التقليدية، معتمدين في ذلك على الطائرات والدبابات وغير ذلك من الوسائل التي تتفوق فيها القوات الأميركية على كل دول العالم، ولا عن طريق حرب العصابات، التي بات للأميركيين خبرة كبيرة في مواجهتها، ولا حتى باستخدام الوسائل التكنولوجية الحديثة، إذ لا تقارن إمكانيات أي طرف على مستوى العالم بتلك التي يملكها الجانب الأميركي، وبالتالي يتوجّب على من يريد مواجهة أميركا أن يكتشف وسائل جديدة، تمكّنه من تهديد مصالحها وقواتها، وعلى هذا الطرف أن يتأكد أن هذه الوسائل، تستطيع أن تحقّق له نجاحات ملحوظة، ينفذ بواسطتها إلى مواطن ضعف المؤسسات الأميركية، وقواتها المنتشرة حول العالم.

وبناءً على تقدير الموقف هذا، أطلق الجنرال “هنري شلتون”، رئيس هيئة أركان القوات المشتركة الأميركية السابق، صفة “الحرب اللامتناظرة “، أو “اللامتماثلة ” على جملة التحدّيات والمخاطر التي خلص إليها تقدير الموقف المشار إليه سابقاً، إذ قدّم تعريفاً واضحاً لتلك الحرب نص على التالي : ” إن “الحرب اللامتناظرة “تعني محاولة طرف ما يُعادي الولايات المتحدة الأميركية، أن يلتف من حول قوتها، ويستغل نقاط ضعفها، معتمداً في ذلك على وسائل تختلف بطريقة كاملة عن تلك المستخدمة في ذلك النوع من العمليات التي يمكن توقّعها، وهذا يعني أن يستخدم طاقة الحرب النفسية وما يصاحبها من شحنات الصدمة والعجز، لكي ينتزع من يدنا زمام المبادرة وحرية الحركة والإرادة، وبأسلوب يعتمد على وسائل مستحدثة، وتكتيكات غير تقليدية، وأسلحة وتكنولوجيا جرى التوصّل إليها بالتفكير في غير المتوقع وغير المعقول، ثم تطبيقه على كل مستويات الحرب، من الاستراتيجية إلى التخطيط، إلى العمليات في الساحات المختلفة، مع إمكانية اللجوء أيضاً إلى بدائل لا تخطر على البال منطقياً، ولا نتصور استخدامها عملياً “.

هذا التعريف الأميركي “للحرب اللامتناظرة “، يلتقي بطريقة أو بأخرى مع تعريف صيني لهذا النوع من الحروب، وإن كان يختلف معه في بعض المصطلحات والمسميّات، إذ إن النظرة الصينية لهذا النوع من الحروب والتي أطلق عليها اسم ” الحرب غير المقيّدة ” تتضمن إشارة واضحة إلى ضرورة مواجهة الدول القوية، والجيوش ذات الإمكانيات الكبيرة، من خلال ما أطلقوا عليه استراتيجية “الاقتراب غير المباشر “، وهو ما يعني الابتعاد قدر الإمكان عن خوض مواجهة مباشرة مع قوات أكثر عدة وعتاداً، والاعتماد على أساليب ووسائل مختلفة، تُفقد العدو توازنه، وتمنعه من استخدام إمكانياته لتحقيق الانتصار، وتُوقع في صفوفه خسائر كبيرة، سواء على المستوى المادي أو المعنوي، مع عدم إغفال شن هجمات على الخواصر الضعيفة والمكشوفة لتلك القوات، في أماكن غير متوقعة، ويمكن أن تكون بعيدة عن ساحة المواجهة الرئيسية، التي ينصب عليها التركيز والجهد الأساسي.

في ضوء ما سبق من تعريفات لمفهوم “الحرب اللامتناظرة”، تم الاتفاق في معظم الهيئات العسكرية العالمية، وفي مراكز البحث والتخطيط الاستراتيجي على جملة من الخصائص التي تتميّز بها تلك الحرب، والتي تختلف عن الحرب التقليدية من حيث الأهداف والوسائل والأدوات، أو من حيث مسرح العمليات، والفترة الزمنية التي يمكن أن تستغرقها الحرب.

“الحرب اللامتناظرة “.. خصائص ومميّزات:

يمكن لنا أن نلحظ وجود الكثير من الخصائص التي تميز “الحرب اللامتناظرة” عن الحرب التقليدية أو الكلاسيكية، هذه الخصائص ترسم بشكل أو بآخر صورة تلك الحرب، وفي بعض الأحيان تؤثر في نتيجتها والتداعيات الناشئة عنها، وسنشير في ما يلي لجزء من أهم تلك الخصائص:

1- في “الحرب اللامتناظرة ” لا يوجد ميدان قتال واضح، أو ما يُطلق عليه في التعريفات العسكرية “مسرح العمليات “، إذ إن القوات المتحاربة لا تتواجه بشكل مباشر، ولا تعتمد تكتيكات الحرب المعروفة من خطط دفاعية أو هجومية، ولا تقوم بتنفيذ مناورات عسكرية تقليدية تعتمد على المباغتة، أو الالتفاف خلف خطوط العدو.

2- لا يوجد في “الحرب اللامتناظرة ” ما يُطلق عليه عمليات “رد الفعل “، كنتيجة لعمل ما قام به الطرف الآخر، إذ إن كل عمليات هذه الحرب هي منفصلة بذاتها، وتعتمد على توافر الظروف المناسبة للقيام بذلك العمل، وكذلك على توافر إمكانيات معينة تمكّن صاحبها من القيام بعمل نوعي ومؤثر، وهذه الظروف والإمكانيات تجعل من شبه المستحيل على الطرف الذي تلقّى الضربة أن يقوم برد فعل مباشر وسريع.

3- في هذا النوع من الحروب لا يتقيّد المتحاربون بأساليب وأدوات كتلك المتعارف عليها في الحرب التقليدية، إذ يمكن لجهة ما تريد تنفيذ هجوم معين أن تبتكر أسلوباً مستحدثاً لم يتم استخدامه سابقاً، سواء على صعيد الأدوات، أو على صعيد التكتيك القتالي، وهذا الأمر يفرض على الجهات التي تريد خوض هذا الشكل من الحروب أن تفكّر خارج الصندوق، وأن تبتكر جملة من الوسائل والتكتيكات التي لا يتوقعها العدو، وأن تجعل من مهمة التنبؤ بما يمكن أن تُقدم عليه من عمليات، وما يمكن أن تستخدمه من وسائل مهمة شاقة ومعقّدة للغاية بالنسبة إلى الطرف الآخر.

4- ليس هناك تكافؤ لا من قريب أو بعيد على مستوى السلاح المستخدم في “الحرب اللامتناظرة “، إذ إن السلاح في حرب كهذه يختلف في درجة قوته، وفي تأثيره بشكل كبير، إذ يمكن لنا أن نجد أحد طرفي الحرب يملك الطائرات والدبابات والصواريخ الباليستية، فيما الطرف الآخر لا يملك سوى بنادق وألغام قديمة وسيارات متهالكة ومستوى اتصالات متدن.

5- من المثير في الأمر أن التفاوت في نوعية السلاح المشار إليه في البند السابق، لا يترك أثراً مباشراً وحاسماً على نتيجة المعركة بين كلا الجانبين المتحاربين، والتأثير الأساسي في هذه الحرب يخضع لعوامل أخرى تعتمد على طريقة القتال، والمكان والزمان اللذين يستخدم فيهما ذلك السلاح. فمثلاً يمكن لبندقية لا يتجاوز مداها الفعّال 500 متر، أن تحقق ما لا يحققه المدفع أو الصاروخ الذي يصل مداه إلى مئات الكيلومترات، ويمكن كذلك لعبوة ناسفة تزن ” 40كلغ “، أن تترك نتائج وتداعيات أكبر بكثير من تلك التي تتركها قنابل وصواريخ تزن أكثر من ” 2000 كلغ”.

6- يتوجّب على الطرف الذي يرغب في خوض نمط “الحرب اللامتناظرة ” أن يملك إرادة قوية تمكنه من مواجهة كل الآثار والنتائج المترتّبة على هذا النوع من الحروب، وهي في كثير من الأحيان تكون نتائج صعبة وقاسية، إضافة إلى ضرورة تمتّع قوّاته بانضباطية عالية، وتنظيم مميز على مستوى كل الوحدات واللجان، بحيث تساهم هذه الانضباطية والنظام في تعويض جزء من النقص الناتج من قلّة الإمكانيات والقدرات العسكرية.

7- في “الحرب اللامتناظرة ” يجب أن يكون لدى الطرف الأقل إمكانيات تقليدية تحديداً حالة من الصبر ليس لها حدود، إذ تساعده تلك الحالة في متابعة عدوه ومراقبته لفترة طويلة، ما يمكّنه من التعرّف إلى نقاط ضعفه، وخواصره الرخوة، والأهداف التي يمكن أن يضربها بأقل الإمكانيات المتاحة، ويحقق من خلالها نتائج مبهرة ومميزة. مع ضرورة الإشارة هنا إلى اختيار الوقت المناسب لتوجيه تلك الضربة، بحيث تشكّل عامل مفاجأة للعدو، وهو الأمر الذي يمكن أن يزيد في حجم الخسائر.

8- على خلاف الحروب التقليدية التي يمكن أن تستغرق فترة زمنية محددة، سواء كانت قصيرة أو متوسطة، يتم بعدها حسم المعركة، وتحديد نتائجها، فإن “الحرب اللامتناظرة ” تحتاج إلى فترة طويلة جداً من الوقت، وهذا مردّه أن الطرف القوي فيها لا يستطيع حسمها من خلال المواجهة المباشرة، أو من خلال الاعتماد على تفوّقه العسكري، وهو مضطر إلى مواجهة عدو غير واضح المعالم، ولا يعتمد على تقنيات كلاسيكية، وليس له موقع جغرافي محدد يمكن أن تتم مواجهته فيه والقضاء عليه.
9- مطلوب من الأطراف التي تخوض هذا النوع من الحروب لا سيما الطرف الضعيف، أن تتمتّع بهامش واسع من الحشد البشري، ومن التحركات السريعة والمفاجئة، وأن تكون مستعدّة في كل الأوقات لأعلى درجات المخاطرة، إذ إن الخسائر التي تسقط في كثير من العمليات بحاجة إلى أن تُعوّض بشكل فوري منعاً لعدم حدوث تفكك أو انهيار، إضافة إلى أن سرعة الحركة في مسرح العمليات المحتمل، الذي لا يقبل التموضع الدائم فيه، يمكّن القوات من حماية نفسها، واللجوء إلى أماكن أكثر أمناً تمنع العدو من استهدافها بالقصف الجوي أو المدفعي، أو من خلال الهجوم البري الواسع الذي يعتمد على تفوقه الكاسح.

10- يجب أن تتمتّع القوات التي تخوض هذا النوع من الحروب بروح معنوية عالية، لتعوّض بشكل أو بآخر فارق الإمكانيات التي تميل غالباً إلى الطرف الأقوى، إذ يمكن لهذه القوات أن تنفذ بنسبة نجاح عالية ما كان يُعتقد بأنه مستحيل، وأن تتجاوز من خلال الرغبة في القتال، والإصرار على استرداد الحقوق كل المعوّقات، وأن تحوّل المستحيل إلى ممكن، والصعب إلى سهل، وأن تُذيب بهمتها العالية، وروحها المعنوية المرتفعة، كل الفوارق على مستوى الإمكانيات العسكرية، والقدرات والخبرات القتالية.

11- بما أن الدول التي تخوض هذا النوع من المواجهة، ومنها الكيان الصهيوني، تعتمد على ما بات يُعرف بتقنيات الجيل الرابع من الحروب، والتي تستهدف في جزء منها النظام الذهني للطرف الآخر، والحاضنة الشعبية المؤيدة له، إضافة إلى استخدام سلاح المال والاقتصاد الذي يمكن أن يؤدي إلى نتائج حاسمة، فإنه يتوجّب على الطرف الآخر (قوى المقاومة) أن تعتمد بشكل كثيف على التعبئة العقائدية والدينية والوطنية، سواء لعناصرها ومقاتليها، أو لحاضنتها الشعبية التي ربما تكون أقل خبرة في هذا الجانب من الحروب، إضافة إلى انتباهها إلى خطط العدو والتي تحاول بث روح الفرقة والانقسام، وقطع الطريق عليها من خلال تعزيز حالة الوحدة والترابط، وبث روح الأمل في صفوف الجماهير في كل الأوقات، لا سيما عند خسارة جولة أو معركة.

12- إضافة إلى كل ما تقدم من خصائص تميز “الحرب اللامتناظرة ” عن مثيلاتها من أنواع الحروب الأخرى، يوجد هناك خاصية يمكن الإشارة إليها بشكل منفصل نظراً لأهميتها البالغة، وتشكيلها مرتكزاً أساسياً في استراتيجية “الحرب اللامتناظرة “. هذه الخاصية هي “حرب المعلومات “، وهي وإن كانت مهمة في كل أنواع الحروب، إلا أنها أكثر أهمية في حال اللجوء إلى مفهوم “الحرب اللامتناظرة، وقد ازدادت أهميتها بعد انتشار ما بات يُعرف على المستوى العالمي بـ “الثورة المعلوماتية، أو ما تتم الإشارة إليه في كثير من التعريفات بـ “المجال المعلوماتي العالمي الموحّد، والذي تمت الإشارة إليه من العديد من الخبراء والاستراتيجيين بأنه إحدى أخطر الوسائل التي يمكن أن تلحق الضرر باستقرار الدول والشعوب، وأنه يمكن له أن يوازي في خطورته “السلاح النووي ” إذا ما تم استخدامه بطريقة فعّالة وحديثة.

وتنقسم حرب المعلومات إلى ثلاثة مستويات رئيسية، يستهدف المستوى الأول منها الأفراد، الذين يمكن أن تتحول معلوماتهم الشخصية، وحساباتهم البنكية، وكل ما يتعلق بحياتهم الاجتماعية إلى ورقة ضغط تمارسها ضدهم أجهزة العدو، وتحاول من خلالها ابتزازهم، وإسقاطهم في وحل العمالة والجاسوسية.

أما المستوى الثاني فهو يتعلّق بالتجسس الصناعي والاقتصادي على الدول والمنظمات غير الحكومية، وهذا النوع من التجسّس وجمع المعلومات بطرق غير مشروعة قد يؤدي في مرحلة ما إلى خسائر اقتصادية هائلة، يمكن أن ينتج منها سقوط إمبراطوريات اقتصادية، وفي بعض الأحيان انهيار اقتصاد الدولة بشكل كامل.

المستوى الثالث من حرب المعلومات يستهدف أنظمة الحكم ومؤسسات الدولة الرسمية، وهو يتم عن طريق اختراق الحواسيب الحكومية المركزية، والسطو الإلكتروني على بيانات العاملين في أجهزة الدولة والجيش والدوائر الحسّاسة، إضافة إلى نشر الدعايات والإشاعات المغرضة، والتي يمكن أن تكون ذات تأثير سلبي للغاية على استقرار الدولة.

في الجزء القادم بإذن الله سنتحدث عن النظرة الإسرائيلية لنظرية “الحرب اللامتناظرة”، وكيفية تعاطي الكيان الصهيوني مع التغيرات الحاصلة في شكل المواجهة بينه وبين فصائل المقاومة، والحلول التي حاول وضعها لمواجهة تلك المعركة.

أقرأ أيضًا:إسرائيل وخيار الذهاب نحو السور الواقي 2.. بقلم أحمد عبد الرحمن

جنين تدمّر حصون النمر.. وتشتت صفوف اليمام والدوفدوفان!

أقلام – مصدر الإخبارية

جنين تدمّر حصون النمر.. وتشتت صفوف اليمام والدوفدوفان!، بقلم الكاتب في الشؤون العسكرية أحمد عبد الرحمن، وفيما يلي نص المقال كاملًا كما وصل موقعنا:

على الجانب الفلسطيني، فإن التطور الحاصل على مستوى القدرات الاستخبارية للمقاتلين والمقاومين بات لافتاً للنظر.

يُقال إن الكنعانيين هم أول من استوطن تلك البقعة الجميلة والساحرة من أرض فلسطين التاريخية، والتي تشكّل الرأس الجنوبي لمثلث سهل بن عامر الغنّاء، وأطلقوا عليها اسم “عين جانيم “، وتعني عين الجنان، بسبب بساتينها وحقولها الجميلة.

ويُقال أيضاً إن الرومان عندما احتلوا فلسطين في العام 63 قبل الميلاد أطلقوا عليها اسم “جانيم” للسبب نفسه الذي اعتمد عليه الكنعانيون أيضاً.

ويذكر بعض كتب التاريخ أن السيد المسيح عليه السلام قد مرّ بالقرب منها، أثناء رحلته من الناصرة في اتجاه القدس، وشفى بقدرة الله عشرة من المصابين بمرض الجذام على مشارف بلدة برقين غربي المدينة.

في القرن السابع الميلادي، وبعد نجاح العرب والمسلمين في طرد الغزاة البيزنطيين، اتخذ منها بعض القبائل العربية سكناً لهم، وأطلقوا عليها اسم “حينين”، الذي تحوّل لاحقاً إلى الاسم الذي باتت تُعرف به الآن وهو مدينة “جنين”.

وفي اعتقادي أنه ربما يكون هناك سبب آخر لهذه التسمية، وهو مشتق من مصطلح “الجنون”، وهذا مردّه أن أهل هذه المدينة والذين يمتازون بالصلابة وقوة الشكيمة، قد أصابوا كل الأعداء الذين احتلوها، وحاولوا فرض وصايتهم عليها بنوع من الجنون، الذي باتت مظاهره واضحة وجليّة في عصرنا الحالي على قوات الاحتلال الإسرائيلي، وعلى قيادتها العسكرية والسياسية، التي اعتقدت في ظل ما تملكه من إمكانيات عسكرية كبيرة أنها قادرة على فعل ما تريد، وقتما تريد، وفي أي مكان تريد.

هذا الجنون الذي أصاب القادة الصهاينة، وأدخلهم في نوبة من الصراخ والعويل نتيجة ما أصاب قوات نخبتهم في جنين صباح اليوم، بدا واضحاً في زجّهم بمئات الآليات العسكرية المصفّحة إلى داخل مساحة جغرافية صغيرة، وهذا الأمر يُعدّ خطأً عملياتياً جسيماً في مواجهات كهذه تُستخدم فيها العبوات الناسفة بكثافة، وبدا هذا الجنون أيضاً في استخدام “جيش” العدو طائرات مروحية هجومية من طراز “أباتشي” للمرة الأولى منذ 21 عاماً، والهدف من هذا الاستخدام، حسب التصريحات الإسرائيلية، كان تأمين انسحاب القوات والآليات التي تم استهدافها في كمين العبوات. بل وصل الأمر بالقادة الصهاينة إلى دراسة الاستعانة بطائرات حربية من طراز F-16 لتخليص جنودهم المحاصرين تحت رصاص وعبوات الأبطال في مدينة جنين.

جزء من هذا الجنون بدا كذلك في تبادل الاتهامات بين قوات “الجيش” التي وقع على عاتقها تنفيذ الهجوم في جنين اليوم، وبين أجهزة الاستخبارات التي فشلت كما يبدو في تقديم معلومات وافية عن إمكانيات المقاتلين في المدينة.

هذا التراشق لم يقتصر على هاتين الجهتين أيضاً، بل وصل إلى داخل الائتلاف المتطرف الحاكم في “إسرائيل”، والذي طالب جزء منه بالقيام فوراً بعملية عسكرية واسعة على غرار عملية “السور الواقي” في نيسان/أبريل 2002، فيما أطراف أخرى تحذر من الذهاب في اتجاه هذا السيناريو خوفاً من التداعيات الخطيرة التي يمكن أن ترتد على أمن الكيان الصهيوني، وإمكانية تفجّر مواجهة شاملة تشمل كل الأراضي الفلسطينية، واحتمال توسّعها في مرحلة ما لتصل إلى حرب إقليمية.

وبعيداً من الجنون الذي أصاب الصهاينة، فإن ما حدث صباح الاثنين في جنين، يمكن النظر إليه من عدة محاور، سواء على المستوى الميداني-العملياتي، أو على مستوى التداعيات التي يمكن أن نشاهدها خلال الأيام أو الأسابيع القادمة، وكلا المحورين يشيران من دون أدنى شك إلى أن التصعيد العسكري سيكون السمة الغالبة في المرحلة القادمة، لا سيما في شمال الضفة الغربية، وعلى وجه الخصوص مدينة جنين ومخيمها، وبدرجة ثانية مدينتي طولكرم ونابلس.

على المستوى الميداني – العملياتي، يمكن لنا أن نلحظ الكثير من المتغيرات، والتي لم تكن موجودة خلال العامين الماضيين، وخصوصاً منذ تشكيل كتيبة جنين التابعة لسرايا القدس، في أيلول/سبتمبر 2021، على يد الشهيد البطل جميل العموري وإخوانه.

أول هذه المتغيّرات هو التكتيك القتالي الذي باتت تنتهجه قوى المقاومة في جنين، والذي افتقد في مرحلة سابقة إلى الخبرة القتالية، بسبب حداثة سن المقاتلين، إضافة إلى عوامل أخرى لها علاقة بنوعية السلاح المستخدم، وحجم الحاضنة الشعبية التي لم تكن بالحجم المطلوب في ذلك الوقت.

في الأشهر الثلاثة الأخيرة تحديداً، ظهر واضحاً أن هذا التكتيك اختلف جملة وتفصيلاً، وأصبحت تكتيكات المقاومين تمتاز بكثير من الحرفية، والتي تشبه إلى حد بعيد تكتيكات “حرب العصابات”، إذ لم يعودوا يتحركون في المناطق المفتوحة التي كانت تسهّل على قناصي الاحتلال إصابتهم من أول طلقة، ولم يعودوا كذلك يتعجّلون الخروج لملاقاة قوات الاحتلال من دون خطّة مسبقة، وهذا ما كان يسبّب خسائر فادحة في صفوفهم، إضافة إلى زيادة حجم الحاضنة الشعبية لهؤلاء المقاتلين بشكل كبير جداً، وهذه الحاضنة رغم أنها من السكان المدنيين، فإنها تستطيع أن تقدم الكثير من الخدمات المهمة لحاملي السلاح، تبدأ من إمدادهم بالمعلومات الدقيقة عن أماكن تمركز قوات العدو وتحركاتها، وخصوصاً سلاح القناصة، ولا تنتهي بإمدادهم بالمؤن اللازمة لاستمرارهم في القتال، وتوفير أماكن آمنة لاستخدامها لأخذ قسط من الراحة.

المتغيّر الثاني يتعلق بالجانب المعلوماتي أو الاستخباري، وهذا الأمر ينقسم إلى جزأين، الأول يتعلّق بالجانب الصهيوني، والآخر بجانب المقاتلين والمقاومين الفلسطينيين. إذ بدا واضحاً في الآونة الأخيرة انخفاض حجم المعلومات الاستخبارية التي يملكها العدو الصهيوني، رغم ما بحوزته من وسائل تقنية وتكنولوجية هائلة في هذا المجال الحيوي والحسّاس، وقد ساعدته هذه الوسائل في ما مضى في تحديد أماكن تموضع المقاتلين بدقة، وهو ما سهّل عليه في كثير من المرات استهدافهم، سواء بالاعتقال أو الاغتيال، ويبدو أن الإجراءات المضادة التي بات يستخدمها المقاومون من قبيل عدم استخدام الأجهزة الخلوية الحديثة، أو الظهور مكشوفي الوجه في المهرجانات والمسيرات، إضافة إلى العمل الأمني الذي يقومون به ضد عملاء الاحتلال، لا سيما على صعيد الإجراءات الاحترازية، فقد بدا يُؤتي أُكله، وأصبحت قوات العدو تفتقد إلى كثير من المعلومات التي تساعدها في إتمام مهامها، بل والأهم من ذلك الخروج من تلك المهام من دون خسائر بشرية في صفوف جنودها.

على الجانب الفلسطيني، فإن التطور الحاصل على مستوى القدرات الاستخبارية للمقاتلين والمقاومين بات لافتاً للنظر، وهو ما تحدثت عنه الصحافة الإسرائيلية، لا سيما تلك القريبة من الأجهزة الأمنية أكثر من مرة، إذ كان المقاتلون في جنين يعتمدون في المرحلة الماضية على المعلومات العلنية، أي أن تحركاتهم الميدانية، وعمليات التصدّي للتوغلات الإسرائيلية كانت تعتمد فقط على معلومات يتم الحصول عليها من المصادر المفتوحة، مثل حديث المواطنين، أو الإذاعات ووسائل التواصل الاجتماعي وغيرها، وهذا الأمر كان يحمل في طيّاته مخاطر جسيمة، إذ إن الكثير من تلك المعلومات كان موجّهاً من جانب قوات العدو، ويحمل في طياته الكثير من عمليات تمويه أماكن القوات العسكرية، أو الأهداف الحقيقية من وراء العمليات الهجومية، لكن في الفترة الأخيرة، بات المقاتلون الفلسطينيون يملكون وسائل وأدوات تمكنهم من تحديد أهداف العمليات المختلفة بشكل مسبق، إضافة إلى إمكانية كشف مراكز تموضع الجنود الصهاينة، وأماكن تحركهم، والأهم من ذلك، تحديد خريطة مسرح العمليات المحتمل، بما يمكنهم من وضع خطة المواجهة بشكل مهني وفعّال.

المتغيّر الثالث الذي يمكن الإشارة إليه هنا، هو التطوّر الحاصل في إمكانيات المقاتلين، لا سيما على صعيد استخدام سلاح العبوات الناسفة، وهذا الأمر يُنظر إليه في المؤسستين الأمنية والعسكرية الصهيونيتين بشكل بالغ الخطورة، ولا سيما أن العدو يعتمد في كل عملياته على آليات مصفحة ضد الرصاص، ولكنها لن تصمد أمام قوة تفجيرية هائلة يمكن أن تنتج من العبوات الناسفة، مثل عبوة “التامر”(نسبة إلى الشهيد تامر النشرتي، مسؤول وحدة الهندسة في سرايا القدس)، التي تم استخدامها في مدينة جنين صباح اليوم. وفي اعتقادي أن الفترة القادمة، ونتيجة تزايد خبرات المقاومين، في هذا المجال الحسّاس على وجه الخصوص، يمكن لنا أن نشهد مزيداً من عمليات الاستهداف للآليات الإسرائيلية بهذا السلاح الفتّاك، وهو ما يمكن أن يسفر عن خسائر جسيمة في صفوف القوات الصهيونية.

على صعيد التداعيات المحتملة لما جرى في جنين، والذي أطلقت عليه “كتيبة جنين” في “سرايا القدس” اسم معركة “بأس الأحرار”، وبعدما تعرضت له قوات العدو الخاصة من كمين محكم استهدف قواتها وآلياتها المصفحة، وأسقط أكثر من سبعة جرحى، حسب اعتراف العدو، إضافة إلى إعطاب الكثير من الآليات الأخرى، فيبدو أننا سنكون أمام تداعيات مهمة، قد تأخذ المشهد الفلسطيني نحو مزيد من التصعيد مع قوات الاحتلال، سواء على مستوى مدن الضفة المحتلة، وخصوصاً الشمالية منها، أو على صعيد المواجهة الشاملة التي يمكن أن تمتد لتشمل كل الأراضي الفلسطينية بما فيها قطاع غزة.

وحسب ردود الفعل الإسرائيلية حتى كتابة هذا المقال، حيث ما تزال العملية العسكرية جارية في جنين، ولم تتضح مفاعيلها الميدانية والسياسية بعد، فإنه من المتوقع أن تلجأ “إسرائيل”، وبعد الفضيحة التي مُنيت بها قواتها النخبوية في جنين، إلى رفع نسق العمليات الهجومية في مدن الضفة، لا سيما في جنين وضواحيها، إضافة إلى إمكانية تفعيل سلاح الاغتيال من الجو عبر طائرات الاستطلاع، أو المروحيّات، أو الطائرات المسيّرة الانتحارية. مع إمكانية أن تشمل عمليات الاغتيال مناطق أخرى كقطاع غزة، على غرار عملية اغتيال الشهيد طارق عز الدين في أيار/مايو الماضي، والذي كانت تتهمه قوات الاحتلال بقيادة كتائب المقاومة التابعة لـ”سرايا القدس” في الضفة، وإمدادها بالمال والسلاح.

إضافة إلى ذلك، قد تذهب “إسرائيل ” نحو عملية موسّعة تُستخدم فيها الدبابات والطائرات بشكل كبير، على غرار عملية “السور الواقي” في العام 2002، لحسم مسألة المجموعات المقاتلة بشكل نهائي، ولفرض سيطرة أمنية وعسكرية على المناطق الساخنة التي شكّلت لها معضلة حقيقية خلال العامين الماضيين.

وبصرف النظر عن القرار الإسرائيلي المتوقع، رداً على ما جرى في جنين، وبعيداً من التداعيات التي يمكن أن تترتّب على تلك القرارات، سواء على المشهد الفلسطيني، أو الإقليمي، فإن ما قبل عملية “بأس الأحرار” لن يكون بالتأكيد كما بعدها، وأن التطورات القادمة ستكون ذات مفاعيل استراتيجية على مجمل الأوضاع في المنطقة، وليس فقط في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

ختاماً، يمكن لنا أن نقول إن جنين، بشعبها الطيّب والمعطاء، وبمقاتليها الأشدّاء العِظام، وبكتائبها وسراياها البطلة، التي طوّعت الصخر، وألانت الحديد، واجترحت المستحيل، ستبقى شعلة مضيئة في ليل هذه الأمة البهيم، وأن التضحيات الجِسام، والدماء النازفة، ستكتب السطر الأخير في قصيدة الصبر والعطاء، والتضحية والفداء، الذي سيعلن فيه شعبنا انتصاره على الأعداء والغرباء، ويقولون متى هو: قل عسى أن يكون قريباً.

أقرأ أيضًا: إسرائيل وخيار الذهاب نحو السور الواقي 2

إسرائيل وخيار الذهاب نحو السور الواقي 2

أقلام – مصدر الإخبارية

إسرائيل وخيار الذهاب نحو السور الواقي 2، بقلم الكاتب الفلسطيني أحمد عبد الرحمن، وفيما يلي نص المقال كاملًا كما وصل موقعنا:

يمكن أن يجد نتنياهو نفسه مضطراً إلى إصدار الأوامر لـ”جيشه” بشن عملية عسكرية كبيرة وواسعة في مدن الضفة الغربية، على الرغم من أن هذا “الجيش” يعاني مشكلات عديدة وإخفاقات كثيرة.

يرى بعض المتابعين والمراقبين لارتفاع وتيرة العمليات الإسرائيلية في عموم مدن الضفة الغربية المحتلة أن السبب الأساسي هو فرض واقع أمني جديد يحدّ من حركة المقاتلين الفلسطينيين ويمنعهم من الخروج من مناطقهم وحواضنهم الشعبية لتنفيذ عمليات هجومية داخل المستوطنات المنتشرة على جغرافيا واسعة من أراضي الضفة أو الطرق الالتفافية الموصلة إليها.

ويرى البعض الآخر أن الهدف الإسرائيلي أكبر من ذلك بكثير، إذ إن تحقيق الهدف المشار إليه سابقاً لا يحتاج إلى كل هذه العمليات شبه اليومية، ولا يتطلّب عمليات اقتحام واسعة لأكثر من مدينة في ليلة واحدة وتنفيذ عمليات اعتقال ممنهجة بالشكل الذي نراه، وكان بإمكان “إسرائيل” فرض إغلاق محكم على بعض المدن التي تُصنّف بأنها ساخنة والتضييق عليها اقتصادياً، كما حدث سابقاً في نابلس وجنين، لتنفيذ ذلك الهدف.

الهدف الإسرائيلي الحقيقي، من وجهة نظر هذا الطرف، هو الرغبة في الذهاب باتجاه حسم عسكري للمعضلة التي تواجه الكيان العبري في مدن الضفة، لا سيما الشمالية منها، التي فشلت كل الحلول الجزئية في وضع حد لمفاعيلها الميدانية منذ بداية العام الماضي، الذي شهد خلال الفترة الممتدة بين آذار/مارس وحتى أيار/مايو سلسلة من العمليات الفدائية النوعية في قلب المستوطنات الصهيونية، أوقعت في حينها أكثر من 30 قتيلاً من الجنود والمستوطنين الصهاينة.

ورغم إعلان “الجيش” الإسرائيلي منذ ذلك الوقت ما يسمى عملية “كاسر الأمواج”، وما رافقها من عمليات اغتيال واعتقال بحق المقاومين الفلسطينيين، كان لجنين ونابلس حصة الأسد منها، فإن مسلسل العمليات الذي خفت وتيرته حيناً، وارتفعت حيناً آخر، لم يتوقف. وقد أدى منذ بداية العام الحالي إلى مقتل ما لا يقل عن 18 إسرائيلياً وإصابة آخرين.

نظرة إلى الخلف
في 29 آذار/مارس 2002، أعطى أرئيل شارون، رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق، إشارة البدء لانطلاق ما عُرف حينها بعملية “السور الواقي”، التي اجتاحت القوات الإسرائيلية بموجبها كل مدن الضفة الغربية، بمشاركة أكثر من 30 ألف جندي صهيوني من قوات المشاة وفرق المظليين ووحدات النخبة المختلفة، إضافة إلى أكثر من 200 دبابة وعربة مدرعة وطائرات مروحية هجومية وغير ذلك من الأسلحة والمعدات في تلك العملية التي كان لجنين ورام الله ونابلس حصة الأسد فيها.

وقد دمّر “جيش” الاحتلال كل شيء، وقتل واعتقل المئات من الفلسطينيين، ووصل به الأمر إلى محاصرة الزعيم ياسر عرفات في مقر المقاطعة في رام الله. وقد أبقاه محاصراً فيها حتى أواخر أيام حياته التي تعرّض فيها للتسمم، ما أدى إلى استشهاده بعد ذلك بعامين ونصف عام تقريباً.

كان السبب الرئيسي والمُعلن لتلك العملية هو وقف سلسلة العمليات الاستشهادية التي ضربت قلب المستوطنات الإسرائيلية بشدة، وسقط خلالها مئات القتلى الصهاينة، وأُصيب آلاف آخرون، في حصيلة هي الأعلى خلال المواجهات العسكرية التي خاضها الكيان الصهيوني منذ احتلاله فلسطين التاريخية، إضافة إلى التخلّص من الشهيد ياسر عرفات الذي اعتقدت “إسرائيل” في ذلك الوقت أنه أصبح عدواً لها، وأنه انقلب على الاتفاقيات السابقة التي وقّعها معها. وقد كانت بصماته واضحة، كما كانت تقول المصادر الإسرائيلية، في دعم انتفاضة الأقصى وإمداد بعض فصائل المقاومة بالمال والسلاح لمواجهة “إسرائيل”.

بعد انتهاء الحملة العسكرية في 10 أيار/مايو من العام نفسه، اعتقد العدو الإسرائيلي أنه حقّق جملة من الأهداف، كان من أهمها استباحة مدن الضفة، وإعادة احتلال معظمها، وتدمير البنية التحتية لتلك المدن بشكل شبه كامل، وتقليص العمليات الفدائية إلى حدّها الأدنى، ولو بشكل مؤقت، وترسيخ نمط جديد في التعامل مع الفلسطينيين، سمته الأساسية العنف المبالغ فيه ضد مواطنين مدنيين عزّل في غالبيتهم، من دون أن يستحق ذلك الإدانات المطلوبة، حتى من معظم الدول العربية، وصولاً إلى بناء جدار الفصل العنصري الذي ترك آثاراً كارثية في العديد من المدن الفلسطينية على المستويات كافة.

الأوضاع على الأرض لم تكن كذلك، وذهبت الأهداف الإسرائيلية التي ادّعى أنه حقّقها أدراج الرياح بعد أول عملية استشهادية استهدفت الحافلة رقم 32 في مدينة القدس المحتلة بعد توقف العدوان بأربعين يوماً تقريباً.

دوافع جديدة
هناك الكثير من أوجه الشبه بين المرحلة الحالية وتلك التي سبقت عملية “السور الواقي (1)” في الثلث الأول من العام 2002، من ناحية الحاجة الإسرائيلية إلى عملية عسكرية كبيرة تحسم من خلالها الكثير من الأمور العالقة، وتحقق فيها جملة من الأهداف التي ستساهم في تغيير المعادلة التي أوجدتها قوى المقاومة الفلسطينية في مدن الضفة المحتلة، والتي باتت تؤرق المؤسسة الأمنية والعسكرية، وتجعلها عرضة للانتقاد المستمر، ولا سيما بعد العمليات النوعية التي يتم تنفيذها بين الفينة والأخرى.

رغم كل ذلك، فإنَّ هناك معطى جديداً قد يسرّع في اتخاذ قرار الذهاب باتجاه المواجهة، وخصوصاً من قِبل رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو، الذي يواجه مشكلات عديدة وصعوبات جمّة، رغم كل ما قام به من تمرير لبعض القرارات في “الكنيست” حيناً، ومن هجوم دامٍ على غزة في أيار/مايو الماضي حيناً آخر، إلا أنه لم ينجح، بحسب كل المؤشرات، في دفع خصومه السياسيين إلى خفض مستوى مطالبهم والخروج من الشارع الذي يشهد تظاهرات واحتجاجات حاشدة.

وبناء عليه، يمكن أن يجد نتنياهو نفسه مضطراً إلى إصدار الأوامر لـ”جيشه” بشن عملية عسكرية كبيرة وواسعة في مدن الضفة، على الرغم من أن هذا “الجيش”، كما يقول الكثير من المحللين والمتابعين، يعاني مشكلات عديدة وإخفاقات كثيرة، كان آخرها الفشل العملياتي والاستخباري الذي كشفت عنه عملية البطل المصري الشهيد محمد صلاح قرب معبر العوجة على الحدود الفلسطينية المصرية.

ولدى هذا “الجيش” أيضاً الكثير من السلبيات، ولا سيما على مستوى انخفاض الروح المعنوية للجنود وعدم رغبتهم في خوض مواجهات مباشرة على الأرض، إضافةً إلى ضعف أداء منظومات الدفاع الجوي لـ”جيش” العدو، التي عانت كثيراً أمام صواريخ المقاومة خلال المواجهات السابقة، وهذا ما دفع الكثير من المسؤولين السابقين والحاليين في المنظومة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية إلى وصف ما يجري داخل “مؤسسة الجيش” بأنه أمر خطر ومثير للقلق، ويحتاج إلى عمل كبير لتدارك الأخطاء التي وصفها بعضهم بأنها كارثية.

رغم كلّ ذلك، فإن دوافع “بيبي” التي أشرنا إليها آنفاً، والتي تحكمها بدرجة أولى رغبته المطلقة في البقاء على رأس الحكومة الصهيونية، تحسباً لما ينتظره من مصير أسود في حال خروجه منها أو انهيارها، ربما تجعل المشكلات والإخفاقات التي يعانيها “جيشه” مجرد أمور ثانوية لا يُلتفت إليها، ولا تُؤخذ بعين الاعتبار، ولن تشكّل عوامل حسم في اتخاذ قرار الحرب.

سيناريوهات متوقّعة
مما لا شكَّ فيه أنَّ “الجيش” الإسرائيلي يملك أفضلية كبيرة على مستوى القدرات العسكرية، من خلال ما يملكه من أسلحة حديثة وإمكانيات تكنولوجية واستخبارية عالية، إضافةً إلى قوات جوية تمنحه سيطرة شبه كاملة على مسرح العمليات، في مقابل إمكانيات متواضعة لدى المقاتلين الفلسطينيين لا تتجاوز في أحسن الأحوال البندقيات والعبوات البدائية التي لن تكون ذات فائدة كبيرة في معركة واسعة وقاسية.

رغم كل ذلك، فإنّ ذهاب العدو إلى معركة مفتوحة يقتحم من خلالها مدناً كبيرة، يسكنها مئات الآلاف من المواطنين، وفيها من التحدّيات التي يمكن أن تواجه جنوده الشيء الكثير، ونظراً إلى عمليات هجومية سابقة قام بها خلال الأشهر الثمانية عشرة الماضية، ولم تحقق النتائج المرجوّة منها، فإن تلك العملية المتوقّعة لن تكون سهلة على الإطلاق، وستتطلّب من قوات العدو الكثير من العمل التكتيكي المتواصل واستخدام كل الإمكانيات المتاحة للحصول على أفضل نتيجة ممكنة.

وفي اعتقادي، إن دوائر اتخاذ القرار في الكيان الصهيوني في حيرة من أمرها بشأن اختيار السيناريو المناسب لعملية من هذا الحجم في حال تم إقرارها، وهي، كما يبدو، ما زالت بحاجة إلى مزيد من عمليات جس النبض، مثل التي تقوم بها في الأسابيع الأخيرة، للوقوف على الطريقة المثالية التي ستتحرك من خلالها قواتها العسكرية، ولا سّيما أنها تعرف تمام المعرفة أنها ستواجه شباناً في مقتبل العمر يملكون عقيدة قتالية صلبة ودوافع للمواجهة لا يَفتّ في عضدها حديد الدبابات أو هدير الطائرات، إضافةً إلى حاضنة شعبية واسعة تحتضن المقاتلين وتهيئ لهم ما أمكن من إمكانيات مادية ومعنوية لخوض المعركة وتحقيق الانتصار.

وبالتالي، يمكن أن نتوقع لجوء “جيش” الاحتلال إلى أحد السيناريوهين التاليين:

– الأوّل يشبه إلى حد بعيد ما حدث عام 2002، بحيث تقوم قوات المشاة الإسرائيلية باقتحام كل المدن الفلسطينية دفعة واحدة وتهاجمها من كل الاتجاهات، مستخدمةً في ذلك الدبابات والعربات المصفحة والمدفعية قصيرة المدى، إضافةً إلى تغطية جوّية واسعة مع مشاركة ملحوظة لكل أذرع “الجيش” الأخرى، من استخبارات وسايبر ودعاية…

وبسبب كبر المساحة الجغرافية للضفة الغربية، التي تتجاوز 5860 كلم2، وكثير من التعقيدات الأخرى التي تفرضها عوامل الطبوغرافيا والوجود السكاني والوديان والهضاب وغيرها، فإن الذهاب باتجاه هذا السيناريو سيحتاج إلى عدد كبير جداً من الجنود، ربما يتجاوز 100 ألف جندي، وهو ما يمثّل نحو 60% من عدد جنود “الجيش” الإسرائيلي، إضافةً إلى مشاركة معظم الوحدات الأخرى.

هذا الأمر ربما يبدو صعباً للغاية، في ظل تخوّف “إسرائيل” من حالة من الفراغ قد تصيب ساحتها الخلفية أو تجعل جبهتها الداخلية مكشوفة أمام تهديدات كثيرة تحيط بها من كل اتجاه.

– هذا التخوّف يمكن أن يدفع العدو إلى العمل وفق سيناريو آخر يختلف عن ذلك الذي استخدمه قبل 21 عاماً، بحيث يلجأ إلى مهاجمة كل مدينة على حدة لتجنّب استخدام عدد كبير من الجنود دفعة واحدة، وكذلك لمحاولة حسم العمليات التي سينفذها في أسرع وقت ممكن، نتيجة تركيز كل جهوده على منطقة معينة دون غيرها، مع وجود فرضية أخرى يمكن الاعتماد عليها في هذا الإطار، وهي اقتصار الهجوم الإسرائيلي على المدن الأكثر إزعاجاً له ولمستوطنيه.

ولا شكّ في أن هذه المدن ستكون مدن شمال الضفة الغربية، المتمثلة بجنين ونابلس وطولكرم، التي كانت خلال الأشهر الماضية مسرحاً لمعظم العمليات الفدائية التي نفذتها المقاومة، والتي خرج منها الكثير من المقاومين الذين فاجأوا العدو داخل المستوطنات الصهيونية التي كان يعتقد في وقت ما أنها آمنة.

هذا السيناريو الذي أشرنا إليه آنفاً يشبه كثيراً ما كان يحدث منذ الإعلان عن عملية “كاسر الأمواج” في العام الماضي وحتى نيسان/أبريل من هذا العام تقريباً، بحيث تقوم القوات الإسرائيلية بمهاجمة مدن بعينها، وتنفذ فيها عمليات اعتقال واغتيال ممنهجة، محاولةً كسر النواة الصلبة للمقاتلين والتخلص من أكبر عدد ممكن من قادتهم، لعلّ عقدهم ينفرط وإرادتهم تنكسر.

تداعيات محتملة
بصرف النظر عن السيناريو الذي سيلجأ إليه العدو، في حال قيامه بعملية عسكرية واسعة في مدن الضفة المحتلة، وبعيداً من النتائج الميدانية التي يمكن أن يحققها، فإن التداعيات التي ستحيط بهذا الأمر ستكون كبيرة للغاية، وستلقي بظلالها على عموم المشهد في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وربما على مستوى الإقليم أيضاً.

أولى هذه التداعيات هي اندلاع ثورة شعبية عارمة في كل الأراضي الفلسطينية من شمالها حتى جنوبها، تشمل عموم الضفة والقدس وقطاع غزة والداخل المحتل، بحيث تشتعل كل ساحات الوطن في وجه قوات الاحتلال، مع إمكانية تحوّلها خلال وقت قصير إلى ثورة مسلحة تشمل كل الساحات، بحيث يجد جنود العدو ومستوطنوه أنفسهم في وسط بحر عاصف من العمليات التي ستضرب في كل الأماكن، وربما تصل إلى العمق الصهيوني، الذي سيكون مكشوفاً بدرجة كبيرة بسبب النقص الحاد في الأفراد الذي يمكن أن يصيب قوات الأمن الإسرائيلية.

ثاني هذه التداعيات هو دخول قطاع غزة، بما يملك من إمكانيات عسكرية كبيرة ظهر جزء منها خلال المعارك الأخيرة، على خط المواجهة، ولا سيما أنَّ المقاومة في غزة لديها موقف مُعلن بأنها لن تتخلى عن واجبها في الدفاع عن أبناء شعبها في الساحات الأخرى، وخصوصاً في الضفة والقدس.

حينها، سنصبح أمام معركة طاحنة تدفع فيها الجبهة الداخلية الإسرائيلية ثمناً باهظاً، إذ إنها ستواجه هجمات واسعة، وبأدوات مختلفة، ما يجعل من الصعوبة بمكان استمرار عمليتها المفترضة في مدن الضفة المحتلة.

ثالث التداعيات المحتملة هو توسّع المعركة لتشمل أطرافاً أخرى في الإقليم، خصوصاً أن المرحلة الأخيرة من المواجهات العسكرية مع العدو، وتحديداً منذ معركة “سيف القدس” أيار/مايو2021، شهدت الكثير من التنسيق المعلوماتي والاستخباري بين أطراف محور المقاومة.

وقد باتت المعارك العسكرية تُخاض بالتنسيق بين أطراف هذا المحور، من خلال غرفة عمليات محور المقاومة. وبالتالي يمكن أن نتوقع تدخّل جبهات أخرى في المعركة، في حال وصلت الأمور إلى حد معين، وهذا ما تمت الإشارة إليه بعد انتهاء معركة “ثأر الأحرار” في أيار/مايو الماضي.

إضافة إلى كل ما سبق، يمكن أن نشهد تحركات جماهيرية حاشدة في الدول العربية والإسلامية. وربما تصل هذه التحركات إلى دول أخرى في أرجاء العالم المختلفة، وهو ما سيسبب ضغطاً إضافياً على “دولة” الاحتلال، التي ستجد نفسها في حالة من العزلة غير المسبوقة، رغم ما تحظى به من دعم أميركي وغربي سافر.

الخاتمة
يذكرون في الكتب والمراجع قصصاً كثيرة عن أبطال صنعوا التاريخ، وكتبوا بثباتهم وصمودهم وعنفوانهم صفحات مجد ما زالت تتغنى بها شعوبهم حتى الآن. كثير من هؤلاء الأبطال لم يكونوا يملكون الإمكانيات، ولم تتوفر لهم كثير الخبرات، وواجهوا أعداء أكثر قوة وأشد بأساً، إلا أنهم حققوا الصعب، واجترحوا المستحيل، وضربوا أعظم الأمثلة في التضحية والفداء.

شعبنا الفلسطيني اليوم، ومن خلفه أمته العربية والإسلامية، يملكون الآلاف من هذه النماذج المضيئة والقامات العظيمة والهامات العالية، وهي من دون أدنى شك قادرة على كتابة التاريخ من جديد؛ تاريخ هذا الشعب وهذه الأمة المرصّع بالمجد والإباء والمكلل بالغار والحنّاء.

أقرأ أيضًا: في ذكرى رحيل الأمين أبي عبد الله.. لم تتبدّل المواقف

Exit mobile version