ما بعد أوسلو، وماذا بعد؟

غزة _ مصدر الإخبارية

بقلم/ أكرم عطا الله

بلا شك، اصطدمت لحظة الراهن السياسي الفلسطيني بالمأزق، ولا أظن أن هناك فلسطينياً واحداً لم يعد يشعر بالمأزق، ليس فقط المواطن العادي الأكثر إخلاصاً والأشد معاناة من وطأة اللحظة بل إن المسؤولين الذين أخذوا على عاتقهم مهمة التحرر الوطني يعبرون بشكل جلي عن أزمة انسداد الأفق وما يشبه انعدام الخيارات لما وصلت إليه القضية الفلسطينية بعد أن تمكن الإسرائيلي من إيقاع الفلسطيني في كمين ماكر وأحكم قبضته وسيج على الفلسطينيين بإحكام ما أدى إلى استنزاف طاقاتهم وإضعاف حركتهم الوطنية بشكل يكاد يهدد وجودها.

عندما تختنق اللحظة يجري البحث عن مخارج، وعندما تصطدم السياسة ربما تبحث عن حلول وأفكار لدى الفكر السياسي فهو الوحيد القادر على ربط اللحظة بمسارها التاريخي وآليات حركتها وتفاعلها، فالسياسيون غالباً تستهلكهم يوميات الأحداث لكن المفكرين أكثر قدرة على رؤية الحاضر وكيف تشكل ارتباطاً يربط الأحداث والعوامل المسببة في سياق أطول ورؤية المستقبل ارتباطاً بالحظ البياني للأحداث سواء صاعد أو هابط.

هذا ما حاوله البروفيسور أسعد غانم، أستاذ العلوم السياسية في جامعة حيفا في كتابه الذي صدر قبل شهرين بعنوان «القضية الفلسطينية بعد أوسلو» ليقف عند العقود الثلاثة الأخيرة التي شهدت أخطر مغامرة تاريخية قامت بها الحركة الوطنية الفلسطينية كأنها تلقي بكل أوراقها في لعبة الصراع الطويل، ليكتشف كما يقول إنها وصلت إلى ما سماه «الهزيمة التاريخية» وهو مصطلح صادم لكنه يعيد تفصيله بأن الحركة الوطنية تعيش جملة اختناقات متعددة الاتجاهات.

تتمثل الاختناقات حسب غانم بأربعة أولها الداخلي الذي جاء بعد غياب الأب المؤسس للحركة الوطنية لين فتح الصراع الداخلي بين الفلسطينيين والذي انتهى بشرخ تاريخي بين أقطاب حركة التحرر الفلسطينية الوطني والإسلامي وتحول إلى حالة دائمة، ثم الإخفاق مع إسرائيل وإسدال الستار على المحاولة التاريخية لعملية التسوية وعدم القدرة على تنفيذ تطلعات الشعب الفلسطيني من خلال إقناع إسرائيل بالتفاوض أو التسليم من خلال المفاوضات السابقة بالحقوق الوطنية.

أيضاً إخفاق على المستوى العربي بات ممثلاً فيما يشبه انفضاض النظام الرسمي العربي عن القضية الفلسطينية، سواء لفعل عوامل عربية وهواجس انتجها اضطراب الإقليم فيما سمي الربيع العربي والانكفاء العربي للداخل أو بسبب انقسام الفلسطينيين وفقدانهم للقوة الناعمة والتأثير الأخلاقي، أما الإخفاق الرابع يتمثل في عدم قدرة الفلسطينيين بعد كل هذا المسار على وضع معاناتهم على جدول الأعمال العالمي.

ربما تسارع المسار في العقود الثلاثة الأخيرة ليحدث تغييراً هائلاً في بنية الحركة الوطنية الفلسطينية ويأخذها الى مكان مختلف تماماً عن النشأة وينتهي بإخفاق كبير، لكن كتاب القضية الفلسطينية الذي حاول نقاش المسألة تمكن من وضع تسلسل أحداث بارزة لقرن مضى اعتبر بداية بلورة الهوية السياسية المستقلة للفلسطينيين بعد معركة ميسلون وهزيمة يوسف العظمة العام 1920 أمام الجيش الفرنسي وهو ما دفع الفلسطينيين للبدء بتشكيل حركة وطنية خاصة للفلسطينيين بعد أن كانت ملحقة بسورية.

قرن على انبعاث الحركة الوطنية الفلسطينية وثمانية عقود على الثورة الفلسطينية الكبرى ضد الانتداب البريطاني، وسبعة عقود على النكبة وستة عقود على انبعاث الحركة الوطنية الفلسطينية وتلقيها ريح الإسناد من حركة فتح، وخمسة عقود على إقرار البرنامج المرحلي وثلاثة عقود على بدء مسار التسوية بين مدريد وأوسلو، والتغيير الهائل الذي شهدته الثقافة السياسية والعسكرية للفلسطينيين وعقدان على الانتفاضة الثانية وعقد ونصف العقد على الصراع الفلسطيني بين التيار الإسلامي والوطني، وبعد كل هذه الأحداث الثقيلة يكتشف الفلسطينيون أنهم عادوا بخفي حنين، هذا ما دعا الكاتب الذي سلسل الأحداث لإنتاج فكرة إعادة قراءة تاريخ تطور الشعب الفلسطيني وخيارات الحركة الوطنية الفلسطينية وهي فكرة لم يعد الانشغال بها ترفاً بعد هذا الانسداد التاريخي.

القدس واللاجئون وكل منهما عنوان أزمة بعد كل ما فعلته إسرائيل في القدس، أما اللاجئون الذين لم يعودوا على جدول الأعمال وما حدث من تشتت بعد أحداث الإقليم يعكس جزءا كبيرا من الأزمة ومن فلسطينيي الداخل والذين طالهم الإخفاق والذي انتهى بانشقاق الحركة الوطنية هناك ودخول الحزب الإسلامي حكومة بينيت الاستيطانية وعدم القدرة على ربطهم بالمؤسسات الوطنية الفلسطينية. كل تلك وغيرها عناوين أزمة، صحيح أن اليمين الإسرائيلي الذي صعد في العقدين الأخيرين تمكن من انهاك وتوجيه ضربة شديدة للكفاح الفلسطيني سياسياً. ولكن هل أدى الفلسطينيون ما عليهم بجردة تاريخ؟ أم أن الأداء الفلسطيني كان أقل كفاءة من أن يمثل كل هذا التاريخ الطويل؟

في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي، نشر الدكتور أسعد غانم بالاشتراك مع نديم روحانا دراسة كانت حينها معاكسة للرياح السياسية آنذاك بعنوان «الحل الوحيد في فلسطين دولة ثنائية القومية» حين قرأتها آنذاك تساءلت عن جدواها في ظل المفاوضات التي تسعى لحل الدولتين؟ الكتاب الجديد كأنه يعيد شرح نبوءته المبكرة بأن حل الدولتين غير ممكن وهذا ما يستوجب إعادة الاعتبار للفكر السياسي والذي يعتبر أسعد غانم أحد رواده الفلسطينيين الذي يقوم بجهود في حقل التفكير السياسي، ومن المهم البحث عن مخارج بدءا بالاعتراف بالمأزق ووقف عشوائية العمل السياسي الفلسطيني الذي دخل في متاهة تستدعي التوقف والتفكير بشكل أكثر عمقاً في محاولة لكسر السياج الذي أحاط به الإسرائيلي الحركة الوطنية الفلسطينية…!!!!

الكتاب الذي يقع في 430 صفحة والذي أرسله الصديق غانم قبل أسبوع ما أن انتهيت من قراءته لأكتشف أن الكتاب يجري محاكمة عميقة للعقود الثلاثة الأخيرة التي شهدت تراجعا على كل مستويات الشعب الفلسطيني، وينتهي بنتائج صعبة مستعينا بالكواكبي في رحلة البحث عن حلول فيما يشبه اقتراح استدعاء الكواكبي لمؤتمر مفكرين يبحث دونية المسلمين والعرب بعد أن منيوا بالهزيمة، وهو ما يعمل عليه الكاتب كما سمعت منه في نقاش بيننا يجري التحضير له ليعقد خلال أشهر قريبة توضع نتائجه بتصرف كل المشتغلين في حقل السياسة الفلسطينية…!

Exit mobile version