فلسطينيّو النقب… هل من أُفُق للنهوض؟

القدس المحتلة_ مصدر الإخبارية

بقلم: عوض عبد الفتاح

عادت الأنظار مجددا إلى فلسطينيي النقب، ليس باعتبارهم ضحيةً سلبية لمشروعٍ استعماريّ تطهيريّ مستمر، بل كمكوّنٍ فاعلٍ في الوجود الفلسطيني المنتشر في أرجاء الوطن، وهي حقيقة تاريخية أعاد تأكيدها الباحث الفلسطيني، ابن مدينة رهط – بئر السبع، منصور النصاصرة، في كتابه البحثي الهام والنوعي، المُعنوَن بـ”بدو النقب وبئر السبع؛ 100 عام من السياسة والمقاومة”، والصادر عن جامعة كولومبيا. وهي مقاومة لم تقتصر على الدفاع عن وجودهم على أرضهم و أماكن سكنهم، بل امتدت لتشمل التضامن والتفاعل مع قضية الشعب الفلسطيني الوطنية، وكان آخرها هبّة مايو( أيار) المجيدة “هبة الأمل والكرامة”، العام الماضي، وهي الهبة التي وحَّدَت فلسطين وشعبها في الداخل والخارج.

وتُظهر الصورة القادمة من النقب الفلسطيني، أن ملامح يقظة شعبية متجددة محدودة تلوحُ في الأفق، في مواجهة المشروع الاستيطاني الاستعماري، وتجلّت في مقاومة أعمال التحريش والتجريف التي تقوم بها إسرائيل في منطقة السياج، حيث توجد ستة تجمعات سكنية فلسطينية مكتظّة، تعاني أطنانا من الظلم والتمييز والحصار، ففي الأيام الأخيرة صعّد السكان العرب نضالهم، وأغلقوا شارعا شريانيًّا، يربط بين أكبر مدن النقب؛ بئر السبع، المطرود أهلها والمهوَّدة، ومدينة عراد المستعمِرة التي بُنيت بعد النكبة على أراضينا. ومنطقة السياج الواقعة شرق مدينة بئر السبع، تشكّل 10% فقط من النقب، والتي جرى فيها تجميع من نجا من التطهير العرقي من فلسطينيي النقب: 13 ألف من أصل 100 ألف، أي أن تهجير الناس أنفسهم على يد الصهيونية، عمليّة مستمرّة.

ولكن الحراك الشعبي المنظَّم المنشود والمرغوب، يواجه تحديات جدية، وعوائق موضوعية منها اجتماعية داخلية، تتمثل في التشتت القِبَلي والسياسيّ، وهي لم تكن قائمة بهذه الحدّة أيام مقاومة مخطط “برافر”، على سبيل المثال.

وتحضرنا تجربة مقاومة مخطط “برافر” الاقتلاعي، لفرادتها بمفهوم الطابع الوحدوي والمستوى التنظيمي الراقي، وطابعها المواجِه والشمولي، أي امتدادها إلى بلدات المثلث والجليل والساحل، وهذه الميزة الأخيرة غير مسبوقة، بمعنى أنه لأول مرة في تاريخ نضال أهل النقب، يتمكنون من توليد امتداد تضامني وتفاعلي حقيقي على طول المنطقة المحتلة عام 1948، تجلّى في إغلاق الشوارع وفي مواجهات متكررة، واعتقالات بالمئات، إذ أن غالبية الجمهور الفسطيني داخل إسرائيل، لم تكن على تواصُل مع منطقة النقب، وعلى اطّلاع على حجم الظلم الواقع على أهلها.

وقد أسفر النضال آنذاك عن إسقاط قانون “برافر” الاستعماري، بصورة أسرع ممّا كنا نتوقّع. وكانت قد نشأت وتطورت عملية التواصل من خلال طلاب الشمال الذين بدأوا تدريجيا بالدراسة في جامعة بئر السبع منذ أواسط السبعينيات. وكان لذلك تأثير هام في مسيرة التفاعل الاجتماعي والسياسي، وقد اعتُقل العديد منهم، وأنا واحدٌ منهم، وطُرد آخرون من الجامعة، بسبب المشاركة في نضالات أهل النقب.

ليس سهلا تحشيد كل فلسطينيي الـ48، حول قضية تبدو محليّة، مع أهل النقب، وبخاصة في ظروف الحالة الفلسطينية الراهنة، والتوحُّش الإسرائيلي، ومع هذا، إنّ ذلك ليس مستحيلا، وما تجربة مقاومة “برافر”، إلا دليل على إمكانية تحقُّق هذا الهدف النضالي. وما حصل في الأيام الأخيرة من بدايات جريئة لخوض المواجهة، مثل إقامة خيمة اعتصام، وإغلاق الشوارع، رغم محدودية المشاركة الجماهيرية، هو مؤشر على بداية لاسترداد الوعي بجدوى النضال الشعبي، وذلك بعد أن كاد انخراط الحركة الإسلامية (الجنوبية) في نظام التطهير العرقي الصهيونيّ، أن يوجّه ضربة قاسية لهذا الوعي من خلال تصوير الاستجداء والمقايَضة والخنوع، على أنه السبيل لانتزاع الحقوق.

وفي خضم الحراكات الشعبية الموضعية، التي شهدناها في الأشهر الأخيرة، تبلورت لدى النشطاء الاجتماعيين والنشطاء السياسيين، مبادرة إعادة تنظيم النضال الجماعي، وذلك من خلال المبادرة لإعادة تنظيم “لجنة التوجيه لعرب النقب”، واختيار مُركّز جديد لها هو الشخصية الوطنية، جمعة الزبارقة، مكان الراحل سعيد الخرومي، الشخصية الاجتماعية والوطنية الذي قاد اللجنة لسنوات طويلة، وهي الإطار الوحدوي الذي كان ذراعا هاما في مقاومة مخطط “برافر” وإسقاطه عام 2013.

إنّ مبادرة إعادة تنظيم اللجنة التي كانت معطَّلَة، لا تزال في اعتقادي، تحتاج لجهد كبير ولأفق واسع في التفكير، لتطوير دورها في قيادة العمل الشعبي على الأرض، وبخاصة قدرتها على استقطاب الجيل الشاب، والذي شكَّل العمود الفقري للحراك في النقب والشمال، وفي المواجهات الميدانية، في مجابهة قانون “برافر”. وها نحن نلحظ بدايات عودة هذا المكوّن الهام، ففي مواجهات أمس الثلاثاء واليوم الأربعاء، اعتُقل 46 شخصا، بينهم فتيات وقاصرون.

وما يجب تذكُّره في إطار عملية تنظيم الصفوف، هو أن عملية التحضير لإسقاط “برافر”، والتي بدأت فور عملية التوصية على القانون من قِبل و زير التخطيط الصهيوني عام 2011، تمّ التمهيد لها بحملة توعية شاملة، ليس فقط من خلال الإعلام، بل من خلال دعوة نشطاء وشخصيات من النقب إلى الشمال لإلقاء محاضرات، والمشاركة في ندوات، حول مِحنة فلسطينيي النقب، وربط هذه المحنة بمحنة جميع فلسطينيي الداخل، ونتج عن ذلك نموّ وعيٍ وطنيّ شامل، تُرجم بعد عامٍ إلى مظاهرات مرخّصة، ومن ثمّ إلى مظاهرات صاخبة غير مرخّصة، ومواجهات عنيفة شبه أسبوعية، في شوارع يافا، وعارة، وأم الفحم، وحيفا، وسخنين وغيرها، والتي بدت شكلا من أشكال العصيان المدنيّ.

لقد توفّرت آنذاك عوامل مساعِدة، أهمها أن حال لجنة المتابعة كان أفضل مما عليه اليوم، أو لنقل أقلّ ضعفا. كما أن الحزب الذي لعب دورا رياديا ورئيسيا في التحشيد والتنظير للنزول إلى الشوارع، والنزول فعليا، في هذه المواجهات إلى جانب الحراكات الشبابية النشطة والجريئة، ألا وهو حزب التجمع؛ هو الآن في حالة ضعف وعجز. والأمر الأخطر، هو خروج مركّب من مركبات لجنة المتابعة، أي الحركة الإسلامية الجنوبية، من الحركة الوطنية، واصطفافها مع نظام الأبار تهايد الاستعماري الذي يستهدف وجود وحياة فلسطينيي النقب.

مع ذلك، تتوفر الإمكانية لإحياء العمل الشعبي في النقب، ومن ثم في بقية المناطق، إذ يكفي أن نتذكر كيف اجترحت جماهيرنا هبة أيار الأخيرة، مع وجود هذا الضعف العام، وغياب دور المؤسسات التمثيلية والحزبية.

كان للجيل الشاب، وبخاصة طلائعه الواعية، الدور الأساسي في إطلاق تلك الطاقة الهادرة، وإنّ ما يتوجب على هذه الطلائع الانتباه له هو ضرورة الاستمرارية، والتخلّص من المزاجية والموسمية، فهم الأمل الحقيقي لنا ولشعبنا.

لكن يُفترض أن تكون نقطة البدء من النقب نفسه، أي من خلال عملية تنظيم داخلي، وإنهاض الوعي بتحمُّل المسؤولية، وهي ليست مهمة أهل وشباب وأطفال قرية سعوة وسواها فقط، إنما هي مهمة كل الطاقات الأهلية، والأكاديمية المثقفة في عموم فلسطينيي النقب، ومن ثم في عموم فلسطين.

Exit mobile version