يحيي الفلسطينيون الذكرى الثانية والثلاثين لانطلاق الانتفاضة الأولى، التي عرفت باسم “انتفاضة الحجارة” عام 1987 بعد أكثر من عشرين عاما من الاحتلال الإسرائيلي لكامل فلسطين عام 1967.
بعد خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت عام 1982، نتيجة العدوان الإسرائيلي على لبنان، وابتعاد القيادة الفلسطينية عن خط التماس مع الشعب الفلسطيني في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بدأ الإحساس لدى الفلسطينيين بأهمية نقل المعركة ضد (إسرائيل) إلى الضفة الغربية وقطاع غزة، لمقاومة استمرار الاحتلال الإسرائيلي ووقف الممارسات الإسرائيلية ضدهم.
وجاء انعقاد مؤتمر القمة العربي الطارىء في عمان 8/11/1987، لبحث الحرب العراقية – الإيرانية وغياب القضية الفلسطينية لأول مرة عن جدول أعمال مؤتمرات القمة العربية، بمثابة العامل المساعد الآخر الذي دفع الفلسطينيين إلى التحرك من أجل إعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية، وضرورة استمرار بقائها القضية المركزية في الوطن العربي.
مما دفع الشعب الفلسطيني إلى أن يقوم بانتفاضة بطولية، عمت جميع أرجاء الأراضي الفلسطينية المحتلة ضد سلطات الاحتلال الإسرائيلي، وكان لها الأثر الكبير في إحياء القضية الفلسطينية، ومهدت الطريق أمام إشراك منظمة التحرير الفلسطينية في عملية السلام.
أسباب الانتفاضة:
يمكن إجمال الظروف التي ساهمت في انطلاقة الانتفاضة الفلسطينية بالأسباب التالية:
- تراجع الاهتمام العربي بالقضية الفلسطينية، خاصة بعد انعقاد مؤتمر القمة العربي في عمان، الذي لم يبحث في إزالة الاحتلال الإسرائيلي عن الضفة الغربية وقطاع غزة، وشعور الفلسطينيين بأن عليهم أن يأخذوا المبادرة بأنفسهم، ويعملوا من أجل الضغط على (إسرائيل) لكي تنسحب من الأراضي الفلسطينية المحتلة.
- خروج مصر من ساحة الصراع العربي – الإسرائيلي، بعد توقيعها على اتفاقيات كامب ديفيد ومعاهدة السلام مع (إسرائيل)، وافتقاد الجماهير الفلسطينية الأمل بحل عربي يزيل الاحتلال الإسرائيلي عنهم، بسبب عدم إمكانية حدوث مواجهة عربية ضد (إسرائيل) من دون مشاركة مصر.
- خروج المقاومة الفلسطينية من لبنان، وابتعاد القيادة والثورة الفلسطينية عن فلسطين، مما أوجد الخشية لدى الفلسطينيين في الداخل، بأنهم أصبحوا بعيدين عن التأثير على صانع القرار الفلسطيني، وأنه لا بد من العمل من أجل إبقاء النضال في الداخل الأساس في تحرك قيادة منظمة التحرير الفلسطينية في الخارج.
- الممارسات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين في الداخل، واستمرار الاحتلال طيلة عشرين سنة، من دون وجود بوادر أمل على نهايته، ومصادرة الأراضي الفلسطينية وبناء المستوطنات، ومحاصرة المدن والقرى الفلسطينية واعتقال القيادات في الداخل، مما أوجد حالة من الإحساس الوطني بضرورة التصدي للاحتلال الإسرائيلي والعمل على إزالته.
بداية الانتفاضة والممارسات الاسرائيلية:
انطلقت الانتفاضة الفلسطينية يوم 8/12/1987 على أثر صدم شاحنة إسرائيلية عمداً لسيارتين فلسطينيتين كانتا تقلان عمالاً من مخيم جباليا في قطاع غزة.
وأسفر الحادث عن مقتل أربعة فلسطينيين وجرح تسعة آخرين من ركاب السيارتين مما أثار سكان المخيم الذين خرجوا إلى الشوارع يرشقون جنود الاحتلال الإسرائيلي بالحجارة.
وانتشرت التظاهرات المعادية للاحتلال في جميع أراضي قطاع غزة والضفة الغربية، وثم يحدث في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية – بأستثناء ثورة 1936* أن استقطبت جميع فئات الشعب الفلسطيني وتنظيماته، كما واستقطبتها الأحداث التي هزت الأراضي الفلسطينية المحتلة مدة ست سنوات (1987 –1993) والتي أطلق عليها اسم الانتفاضة، أو انتفاضة الحجارة ضد الاحتلال الإسرائيلي.
ودخلت كلمة انتفاضة قاموس لاروس الفرنسي والموسوعة البريطاني، بسبب الاهتمام العالمي بها.
وعلى الرغم من ممارسات جنود الاحتلال لسياسة تكسير العظام وإطلاق الرصاص على المتظاهرين واعتقال آلاف الشبان، إلا أن الانتفاضة استمرت ست سنوات، واستطاعت أن تفرض نفسها على (إسرائيل) التي عجزت عن القضاء عليها بشتى الطرق.
وكذلك على الرأي العام العالمي الذي كان يراقب تصرفات جنود الاحتلال ضد المتظاهرين والسكان المدنيين، ومن شاشات التلفاز ووسائل الإعلام الأخرى.
وأوجدت الانتفاضة حالة من الوعي الوطني في صفوف الفلسطينيين تحت الاحتلال وفي الخارج، ولدى الجماهير العربية بشكل لم يسبق له مثيل منذ سنوات طويلة، إذ دخلت الانتفاضة وجدان العرب، الذين التفوا حولها ودعموها.
كما فضحت الانتفاضة الإرهاب* الإسرائيلي ضد الفلسطينيين، وسلطت الأضواء على المطالب الفلسطينية الداعية إلى إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة.
وحددت الانتفاضة مطالبها في البيانات التي كانت تصدرها القيادة الموحدة للانتفاضة: مثل إطلاق سراح المعتقلين، ورفض الاستيطان * وسياسة الإبعاد والاعتقال الإداري، ووقف الممارسات القمعية ضد السكان المدنيين وضد المعتقلين، وإلغاء سياسة المنع من السفر والمضايقات والتوقف عن نشر الرذيلة والفساد والوقوع في شباك المخابرات والمخدرات، ومنع جمع الضرائب الباهظة.
ولا شك أن الفلسطينيين قد عانوا كثيراً خلال سنوات الانتفاضة، ليس من ممارسات جنود الاحتلال فحسب، بل من سياسة الإغلاق والتنكيل بالمعتقلين، ومصادرة الأراضي، والحصار الاقتصادي، وإغلاق الجامعات والمدارس الفلسطينية، وتسليح المستوطنين.
واستشهد خلال الانتفاضة 1.392 شهيداً، سقط 88 % منهم بالرصاص الحي، والباقي نتيجة الضرب المبرح والتعذيب.
علماً بأن الفلسطينيين لم يستعملوا السلاح في الانتفاضة بل كانت مقاومتهم مدنية، من خلال رمي الحجارة على جنود الاحتلال والمستوطنين، والاضرابات العامة والمظاهرات ومقاطعة شراء البضائع الإسرائيلية.
تأثير الانتفاضة على الإسرائيليين:
أحدثت الانتفاضة الفلسطينية هزة كبيرة داخل (إسرائيل)، وتأثيراً واسعاً على جميع الأصعدة السياسية والعسكرية والاجتماعية والاقتصادية.
فوجىء الإسرائيليون بالانتفاضة، مما أحدث ارتباكاً واضحاً داخل (إسرائيل)، خاصة في الأشهر الأولى لانطلاقها.
ووصف أحد المعتقلين الإسرائيليين الانتفاضة بالقول “إن الصدمة التي صدمت بها إسرائيل من الانتفاضة كانت أعنف من المفاجأة في حرب يوم الغفران”.
والسبب في ذلك أن (إسرائيل) لم تعرف ما كان يخطط له في القاهرة ودمشق عشية حرب 1973، ولكنها في الانتفاضة عام 1987، لم تستطع أن تعرف ما كان يجري في داخل المناطق التي كانت تحتلها.
وانقسمت مواقف الأحزاب الإسرائيلية إلى تيارين: التيار الأول، تمثله الأحزاب الدينية وتكتل الليكود* وقسم من حزب العمل*، ويطالب باستعمال السلاح والعنف والقتل ضد الفلسطينيين، ويرفض الانسحاب من الأراضي الفلسطينية المحتلة، والتفاوض مع منظمة التحرير الفلسطينية، ويرفض الانسحاب من الأراضي الفلسطينية المحتلة، والتفاوض مع منظمة التحرير الفلسطينية.
والتيار الثاني، يمثله بعض الأحزاب اليسارية وحركات السلام الإسرائيلية، التي طالبت بالتفاوض مع الفلسطينيين وإيقاف استعمال العنف ضدهم.
ومن جهة ثانية، فقد أسهمت الانتفاضة في تغيير مواقف الرأي العام الإسرائيلي من الفلسطينيين، وأحدثت احترافات في صفوفهم: وتشكلت 51 حركة إسرائيلية تدعو إلى تحقيق السلام مع الفلسطينيين والانسحاب من أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة.
وقللت الانتفاضة من هجرة اليهود إلى (إسرائيل) وجعلتهم يفضلون الهجرة من الاتحاد السوفيتي إلى الولايات المتحدة وأوروبا الغربية.
كما حدثت هجرة يهودية معاكسة من الداخل إلى خارج (إسرائيل)، لأول مرة منذ قيام (إسرائيل) يتضاعف عدد المهاجرين إلى الخارج عن عدد اليهود القادمين وذلك في عام 1988، إذ بلغ عدد اليهود المغادرين 21 ألف يهودي، بينما وصل إلى فلسطين المحتلة في نفس العام 13 ألف يهودي.
كما انخفض عدد المستوطنين في الأراضي المحتلة عام 1967 من 70 ألف مستوطن إلى 20 ألف بسبب الهجمات المتكررة التي كان يقوم بها الفلسطينيين على سيارات المستوطنين.
وأثرت الانتفاضة على الاقتصاد الإسرائيلي الذي كان يستفيد من احتلاله للضفة الغربية وقطاع غزة، إذ بلغ مجمل ما كان قد حصل عليه الاقتصاد الإسرائيلي قبل الانتفاضة ما يعادل 27 ملياراً و42.109 مليون دولار، بسبب ربط الاقتصاد الفلسطيني بالاقتصاد الإسرائيلي، وإغراقه بالبضائع الإسرائيلية.
وقاطع الفلسطينيون، خلال الانتفاضة، البضائع الاسرائيلية، وهبطت قيمة البضائع الإسرائيلية المشتراه من الفلسطينيين من 850 مليون دولار عام 1987 إلى 250 مليون دولار عام 1988.
ورفض آلاف العمال الفلسطينيين العمل في المصانع والبناء داخل (إسرائيل).
وخسر قطاع البناء الإسرائيلي خلال الأشهر الخمسة عشر الأولى 240 مليون دولار.
ويمكن إيجاد تأثير الانتفاضة على الاقتصاد الإسرائيلي بما يلي:
- انخفاض حجم الاستثمارات في جميع القطاعات الاقتصادية الإسرائيلية، بسبب عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي.
- تقليص حجم الانتاج الذي يقدر بمليار دولار بسبب انفصال الأسواق الفلسطينية عن الاقتصاد الإسرائيلي.
- الازدياد الكبير في النفقات الأمنية والعسكرية الإسرائيلية، مما أثر على الميزانية الإسرائيلية ومنع الإصلاحات التي كان من المتوقع أن تؤدي إلى دعم النمو الاقتصادي الإسرائيلي.
- عدم انتظام العمال العرب وانخفاض عددهم إلى جانب ما أصاب بعض المصانع الإسرائيلية من عمليات تخريب متعمدة، وإغلاق بعضها بسبب إفلاسها، وإغلاق فروع البنوك الإسرائيلية في المدن الإسرائيلية.
إلا أن تأثير الانتفاضة على (إسرائيل) تجاوز البعد الاقتصادي إلى الأبعاد التالية:
- جاءت الانتفاضة لكي تعكس الأوضاع التي كانت سائدة من قبل لدى الإسرائيليين في الضفة الغربية وقطاع غزة، فبعد سنوات الاحتلال الطويلة شكل الفلسطينيون تحدياً مباشراً للإسرائيليين لم يكونوا قد تعودوا عليه من قبل، إذ تعود الإسرائيليون أن يواجهوا الفلسطيني الضعيف والمطيع للأوامر العسكرية، على الرغم من وجود أوجه المقاومة للاحتلال، ولم يتعودوا أن يتحداهم الفلسطينيون بهذا الشكل من القوة والعنف والاستمرارية.
- كان الجندي الإسرائيلي بملابسه العسكرية يثير الخوف عند بعض الفلسطينيين، وحصل العكس خلال الانتفاضة، إذ سقط حاجز الخوف عندهم، ورجموا الجنود المسلحين الذين يطلقون عليهم الرصاص بالحجارة والزجاجات الحارقة بكل شجاعة.
- ولم يعد بمقدور الجندي الإسرائيلي أن يسير وحده في الشوارع، بل لا بد من أن يكون إما داخل سيارته أو يعمل من خلال دورية عسكرية مشتركة.
- انتقل الخوف الذي كان يشعر به الفلسطينيون إلى الإسرائيليين أنفسهم، ولم يعودوا يستطيعون أن يدخلوا المدن والقرى الفلسطينية المحتلة عام 1967، من دون وجود الجيش الإسرائيلي لحمايتهم، ذلك لخشيتهم من التعرض لهجوم القوات الضاربة للانتفاضة.
- أحدثت الانتفاضة قلقاً كبيراً لدى الإسرائيليون بسبب التأثير الإيجابي الذي أحدثه لدى الرأي العام الدولي، ظهرت (إسرائيل) على حقيقتها، بأنها دولة محتلة تمارس القمع والإرهاب ضد الفلسطينيين، وقارنت وسائل الإعلام الغربية ممارساتها بممارسات النازيين ضد شعوب الدول التي كانت تحتلها ألمانيا النازية.
- حدث استقطاب كبير داخل المجتمع الإسرائيلي، وانقسم الإسرائيليون إلى فريقين، بين مؤيد ومعارض للممارسات الإسرائيلية، مما أحدث صراعاً داخلياً أدى إلى إعتداء المتطرفين الصهاينة على أنصار حركات السلام الإسرائيلية.
- زعزعت الانتفاضة الرأي العام الإسرائيلي، إذ كان الإسرائيليون يعتقدون أنهم قادرون على السيطرة على الضفة الغربية وقطاع غزة من دون ثمن، ولكنهم اكتشفوا من خلال الانتفاضة أن عليهم أن يدفعوا الثمن غالياً جداً إذا أرادوا استمرار احتلالهم للأراضي الفلسطينية.
كما أن المؤسسة العسكرية الإسرائيلية عجزت عن فرض الحل العسكري على الانتفاضة على الرغم من قوتها وتفوقها العسكري على الفلسطينيين.
وعلى الصعيد الفلسطيني:
فقد أسهمت الانتفاضة في تبديد الاعتقاد الإسرائيلي الذي كان سائداً بأنه من الممكن استمرار احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة من دون مقاومة الفلسطينيين، ورفض الفلسطينيون الخضوع والذوبان في الكيان الصهيوني.
وزادت الانتفاضة في الانتماء الوطني الفلسطيني في الداخل والخارج، وفي خلق هوية فلسطينية مناضلة ضد الاحتلال، وتوحيد جميع الفصائل الفلسطينية تحت قيادة واحدة.
وفي تعزيز مكانة منظمة التحرير الفلسطينية التي قادت الانتفاضة ودعمتها، مما أجبر (إسرائيل) على الدخول في مفاوضات التسوية مع الفلسطينيين والدول العربية.
وعلي الصعيد الدولي:
أسهمت الانتفاضة في فضح (إسرائيل) أمام الرأي العام الدولي، وأظهرتها على حقيقتها، بأنها دولة عدوانية، تقوم باستعمال القوة العسكرية ضد المدنيين الفلسطينيين.
وتغيرت صورة (إسرائيل) لدى الرأي العام العالمي، الذي اكتشف أنها ليست الحمل الوديع المهدد من الدول العربية والفلسطينيين، بل أنها هي التي تهدد الآخرين بممارستها غير الإنسانية.
كما دفعت الانتفاضة الدول الأجنبية على إطلاق المبادرات الدولية من أجل التوسط بين منظمة التحرير الفلسطينية و(إسرائيل) وقام كل من وزيري خارجية الولايات المتحدة جورج شولتز، بمبادرة عام 1988، وجيمس بيكر بمبادرة أخرى عام 1991، لإيقاف الانتفاضة والعمل من أجل مساعدة (إسرائيل) على الخروج من المأزق الذي وجدت نفسها تواجهه، وإيجاد حل سياسي لتسوية الصراع العربي – الإسرائيلي، مما مهد الطريق لانعقاد مؤتمر مدريد وبدء مفاوضات التسوية العربية – الاسرائيلية.