وحتى أصدقاء إسرائيل في الخارج غالباً ما يجدون صعوبة في فهم سلوكها في الحرب بين إسرائيل وحماس والصراعات الملحقة بها مع حزب الله وإيران والحوثيين. وفي حين قد يتسامح البعض مع الأعداد الكبيرة من الضحايا المدنيين باعتبارها جزءاً لا مفر منه من الحرب في المناطق الحضرية، فمن الأصعب على كثيرين أن يتقبلوا إحجام إسرائيل عن السماح بوصول المساعدات الإنسانية الكافية إلى غزة أو لامبالاتها الظاهرية بالوفيات الجانبية الهائلة التي تنطوي عليها عملية إنقاذ الرهائن واستهداف قادة حماس. ويشعر كثيرون بالحيرة إزاء استعداد إسرائيل للمخاطرة بخوض حرب مدمرة مع حزب الله اللبناني أو إيران. وكانت عمليات الاغتيال المتتالية في نهاية يوليو/تموز للقائد الكبير في حزب الله فؤاد شكر والزعيم السياسي لحماس إسماعيل هنية بمثابة مظاهر غير عادية للعنف من قِبَل الدولة وفقاً لمعايير أي حكومة، ناهيك عن حكومة تعتبر نفسها ديمقراطية ليبرالية.
لقد اتخذت إسرائيل تقليدياً موقفاً عسكرياً عدائياً تجاه أعدائها. ولكن خلال الأشهر العشرة التي مرت منذ اندلاع الحرب في غزة، أصبحت هذه السياسة أكثر فتكاً من أي وقت مضى ــ حيث قتلت نحو أربعين ألف إنسان في غزة وحدها. ويؤكد أشد منتقدي إسرائيل قسوة أن هدفها هو تدمير آخر بقايا القومية الفلسطينية ــ أو ما هو أسوأ من ذلك، ارتكاب إبادة جماعية ضد الفلسطينيين. ولكن التفسير الحقيقي لهذا التغيير أكثر تعقيداً.
في واقع الأمر، يتلخص هدف اليمين القومي المتطرف في إسرائيل في جعل حياة الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية لا تطاق. ولكن أقلية ضئيلة فقط من الإسرائيليين تتبنى مثل هذه الآراء المتطرفة، والوزراء اليمينيون المتطرفون الذين يرددون هذه الآراء لا يملكون أي سلطة على سياسة الحرب. وكان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو حريصاً على إبقاء هذه السياسة تحت سيطرته الشخصية مع حفنة من المسؤولين ذوي التفكير المماثل.
ولكن ما الذي يؤثر فيه اليمين المتطرف ـ وهو تأثير غير مباشر في الأغلب ـ إلا في القضايا الإنسانية. ذلك أن زعماء اليمين المتطرف لا يتبنون استراتيجية حربية بقدر ما يتبنون الرغبة في رؤية الفلسطينيين يعانون واستمرار الحرب. وفي حرصه على ضمان بقاء اليمين المتطرف في الائتلاف الحاكم، انحنى نتنياهو لإرادتهم باتخاذ موقف صارم بشأن مفاوضات وقف إطلاق النار، ولم يسمح بوصول المساعدات الإنسانية الكافية إلى غزة إلا عندما لم يترك له الضغط الدولي أي خيار. وكما قال وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، زعيم الحزب الصهيوني الديني اليميني، في مؤتمر لليمينيين في الخامس من أغسطس/آب، فإنه لن يجد أي مشكلة في السماح لشعب غزة بالجوع. وأوضح سموتريتش في معرض اعتذاره لجمهوره: “نحن نجلب المساعدات لأن لا خيار أمامنا”.
لقد سمح وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير بتفاقم الظروف غير الإنسانية في مركز الاحتجاز في سدي تيمان للفلسطينيين الذين تم اعتقالهم في الحرب وذلك برفضه نقل السجناء إلى المرافق المدنية الخاضعة لسيطرته. كما وصف تسعة جنود يشتبه في اعتدائهم جنسياً على سجين في سدي تيمان بأنهم ” أبطالنا الأفضل ” وربما أمر الشرطة بالتراجع عندما حاول المتطرفون اليمينيون منع اعتقالهم من قبل الشرطة العسكرية في الشهر الماضي.
وإلى حد ما، فإن الرغبة في العقاب والانتقام مشتركة بين القوات في غزة، بما في ذلك الغالبية العظمى من الجنود الذين لا يجدون أي فائدة في اليمين المتطرف. والواقع أن الفظائع التي ارتكبت في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، والتي لا تزال حية في الوعي الإسرائيلي، جعلت العديد من الجنود في أحسن الأحوال غير مبالين بمعاناة الفلسطينيين، وفي أسوأ الأحوال راغبين في الانتقام. وفي يونيو/حزيران، قالت المدعية العامة العسكرية، اللواء يفعات تومر يروشالمي، إنها تحقق في نحو سبعين حالة من المخالفات المزعومة، وهذا ليس سوى غيض من فيض.
ويزعم بعض المراقبين أن الإسرائيليين أصبحوا أكثر عنفاً، أو على الأقل أكثر تسامحاً مع العنف. ومن المؤكد أن العنف ضد الفلسطينيين قد تزايد بين المستوطنين المتطرفين، ويُعَد أداة مشروعة لتحقيق غاياتهم السياسية. ولكن حتى بين المستوطنين، فإنهم يمثلون أقلية صغيرة. وإجمالاً، فإن معدل الجرائم العنيفة في إسرائيل منخفض وفقاً لمعايير البلدان المتقدمة، وكان في انخفاض حتى العام الماضي.
في كل الأحوال، لا تفسر تصرفات الجنود على الأرض في غزة التغيير الواضح في السياسة الإسرائيلية على مستوى القمة. وهنا، تعكس القرارات التي اتخذها القادة السياسيون والعسكريون في إسرائيل بإصدار أوامر الاغتيال، أو قصف ميناء الحديدة الذي يسيطر عليه الحوثيون بتكلفة 80 حياة يمنية لإسرائيلي واحد، أو المخاطرة بحرب مع إيران، سياسة واقعية جديدة.
في أعقاب انتصارهم التاريخي في الحرب العربية الإسرائيلية عام 1967، بدأ الإسرائيليون يشعرون تدريجيا بأن وجود بلادهم لم يعد معرضا للخطر. لقد كانت عملية تدريجية تطورت مع توصل دولة عربية تلو الأخرى إلى اتفاقيات سلام مع إسرائيل والاعتراف بوجودها أو فقدان القدرة على شن حرب. بدا التطبيع مع المملكة العربية السعودية في الأفق. بدا صعود الاقتصاد عالي التقنية، والاستثمار الأجنبي المتزايد، وعقدين من النمو الاقتصادي المزدهر الذي حول إسرائيل إلى اقتصاد قوي ومزدهر، وكأنه يؤكد ذلك. تحول الحديث إلى كيفية “احتواء” المحادثة الفلسطينية لأنه لم تكن هناك حاجة إلى حل.
ولقد كان لهذه النظرة إلى العالم تأثيرات عملية. فمنذ أوائل تسعينيات القرن العشرين، انخفض الإنفاق الدفاعي كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي. ومن بين الركائز الثلاث لاستراتيجيتها الدفاعية ــ النصر في الحرب، والردع، والاستخبارات ــ تخلت إسرائيل عن الركيزة الأولى، وسمحت للركيزة الثانية بالتآكل، وبالتالي أصبحت تعتمد بشكل مفرط على الركيزة الثالثة. ومنذ ثمانينيات القرن العشرين، لم تنته حروب إسرائيل مع القوات غير التقليدية بانتصار حاسم. ومع ذلك، تضاءلت قدرة إسرائيل على ردع أعدائها، كما يتضح من استعداد حماس لخوض حرب متكررة مع إسرائيل منذ عام 2008 فصاعدا. وبدلاً من النصر الحاسم والردع الفعال، أصبحت إسرائيل تعتمد بشكل متزايد على التدابير الدفاعية ــ الجدران والأسوار وأنظمة الإنذار المبكر عالية التقنية.
لقد دفعت إسرائيل ثمناً باهظاً لهذه السياسات في السابع من أكتوبر/تشرين الأول. وحتى لو صدت بسرعة هجوم حماس، فإن إيران ووكلائها أدركوا حجم الفشل الاستخباراتي والتنظيمي. فبعد يوم واحد فقط بدأ حزب الله في شن هجمات عبر الحدود الشمالية لإسرائيل، وسرعان ما أطلق الحوثيون الصواريخ والطائرات بدون طيار على سفن الشحن في البحر الأحمر وإسرائيل نفسها. وفي أبريل/نيسان، تجاوزت إيران خطاً أحمر في صراعها الطويل الأمد مع إسرائيل من خلال شن هجوم مباشر بالصواريخ والطائرات بدون طيار لأول مرة بدلاً من استخدام وكلائها.
إن ” النصر الكامل ” الذي وعد به نتنياهو من غير المرجح أن يتحقق على الإطلاق ضد حماس، ناهيك عن حزب الله أو إيران. إن استعادة قدرة إسرائيل على الردع هدف أكثر واقعية، ولكنه ليس هدفاً خالياً من الألم. ففي مواجهة جهات غير حكومية ملتزمة أيديولوجياً بإنهاء وجود إسرائيل، لا يكفي إظهار قدرات دفاعية فعّالة. بل يتطلب الأمر الاستعداد للضرب حتى في الرد على استفزازات صغيرة نسبياً والتوجه إلى الهجوم.
بالنسبة لصناع السياسات والرأي العام في الولايات المتحدة وأوروبا، تبدو تصرفات إسرائيل الأخيرة خطيرة وغير متناسبة، ولا يمكن إنكار أنها تخاطر بإشعال حرب إقليمية. لكن إسرائيل ليس لديها خيارات جيدة للغاية. على الرغم من صورتها كقوة عسكرية منتصرة دائمًا، فمن الجدير بالذكر أن إسرائيل دولة صغيرة من حيث عدد السكان والجغرافيا والاقتصاد. لا يمكنها أن تتحمل أن تُفاجأ، أو تخوض حروبًا طويلة، أو تحافظ على موقف دفاعي مشدد إلى أجل غير مسمى. تدرك إسرائيل الآن تمامًا أنه مقابل كل صديق جديد لها في المنطقة، لديها عدو عنيد. يظل الشرق الأوسط مكانًا صعبًا.
إن المواطن الإسرائيلي العادي لا يشارك في الحسابات التي تدور حول استعادة الردع. ومع ذلك فإن الرأي العام يؤيد الموقف العدواني الجديد الذي اتخذته إسرائيل لأسباب أكثر وجودية.
لم يشكل هجوم حماس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول تهديداً جوهرياً لإسرائيل، ولكن تأثيره النفسي كان عميقاً. فبالنسبة للإسرائيليين، كانت صور المسلحين المنخرطين في حفلة قتل وخطف بمثابة تذكير ملموس بأن التهديد لوجود إسرائيل ليس مجرد كلام فارغ من قبل أعدائها وأن عواقب أي لحظة وجيزة من الفشل في تأمين حدود البلاد سوف تكون وخيمة. لقد أعطت أشهر من قصف شمال البلاد بصواريخ حزب الله والطائرات بدون طيار والصواريخ المضادة للدبابات والقصف الصاروخي الإيراني في أبريل/نيسان الإسرائيليين فكرة عن كيف قد تأتي النهاية.
لقد عبر يوسي كلاين هاليفي عن المزاج الوطني الجديد في مقال رأي نشر مؤخرا في صحيفة وول ستريت جورنال”: حتى مع احتفاظنا بمظهر الحياة اليومية، فإن جزءا منا في حالة تأهب دائم. فنحن نقول لأنفسنا إننا ثابتون ونسخر من نهاية العالم، لأن هذه هي الطريقة الإسرائيلية. ولكن خلال إحدى الليالي التي لم أنم فيها مؤخرا، قفزت حرفيا عندما سمعت صوت دراجة نارية تمر من أمامي وكأنها انفجار”.
وتؤكد استطلاعات الرأي هذه الحقيقة. فقد وجد استطلاع للرأي أجراه معهد الديمقراطية الإسرائيلي أن أولئك الذين أعربوا عن تفاؤلهم بشأن مستقبل الأمن القومي الإسرائيلي انخفضوا من نحو 47% في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، عندما بدا أن الحرب في غزة تسير على ما يرام، إلى 31% في يونيو/حزيران. وأظهر استطلاع حديث آخر أجراه معهد دراسات الأمن القومي أن ربع الإسرائيليين فقط لديهم شعور عال أو عال جدا بالأمن الشخصي.
إن إسرائيل تواجه تهديداً فريداً من نوعه بين الدول التي تعيش حالة حرب أو مهددة بالحرب. فالرئيس الروسي فلاديمير بوتن والرئيس الصيني شي جين بينج يرغبان في محو أوكرانيا وتايوان على التوالي من الخريطة، ولكن أياً منهما لا يريد تدمير أو طرد الشعب الأوكراني أو التايواني. وليس من المرجح أن تكون الحياة ممتعة تحت حكمهما، ولكن من المؤكد أن الأوكرانيين أو التايوانيين سوف يُسمح لهم بالبقاء في منازلهم وعيش حياتهم، ولو كمواطنين روس وصينيين. وهذه حروب إمبراطورية وغزو (أو ستكون كذلك). وتواجه إسرائيل تهديداً بالوجود. ولفترة من الوقت، اعتقد الإسرائيليون خلاف ذلك ــ لكنهم لم يعودوا يعتقدون ذلك.