خاص | عيد ميلاد بكيكة الدم.. عن العريس الضابوس وليان أبو العطا

غزة – خاص – مصدر الإخبارية

أكثر ما يرهقني كشاب يعيش في قطاع غزة، ليست تلك الأزمات المتواصلة نتيجة الحصار الإسرائيلي كانقطاع الكهرباء والمياه الملوثة ولا عدم سفري إلى العالم الخارجي ولو لمرة واحدة، بقدر ما يطاردني من شعور الفراق والحسرة على أصدقائي الذين يسقطون تباعا أثر الهجمات الإسرائيلية.

الكثير من حولي يحسدونني على كثرة أصدقائي ومعارفي لكن لا يعلمون أن هذا الأمر بات يزعجني ولا أخفيكم سرا أنني في بعض الأحيان تمنيت أن أكون شابا انطوائيا لا يجيد إلا مصادقة الجدران والجمادات، في سبيل ألا أعيش أي لحظة جديدة من عذابات الفراق.

صديقي الـ 32

قبل عام من كتابة هذه القصة، وأثناء تجهيز منزلي الجديد، استعنت بابن خالتي محمد عاشور “34 عاما” لطلاء المنزل، أذكر أنه جاء بصحبة شاب نحيل الجسد طويل القامة صامتا طوال الوقت يواصل عمله دون أن يتفوه بأي كلمة.

كان الشاب يدعى إبراهيم الضابوس “25 عاما”، في الحقيقة أنا لا أحبذ تلك الأنواع من الشخصيات التي تبقى صامتة طوال الوقت لذلك لم أعره أي اهتمام في اليوم الأول من عمله في منزلي.

في اليوم التالي وفي لحظة الاستراحة لتناول الغداء معا، سمعت أول كلمة من الشاب إبراهيم، ومن بعدها أصبحنا أصدقاء مقربين كأننا نعرف بعضنا منذ سنوات.

رغم أن إبراهيم شخصية هادئة جدا إلا أنه بارع في طرح النكات ويعرف مداخل الضحك جيدا لأي حوار، أذكر أنه في ذلك اليوم كنت قد اختنقت من كثر الضحك لحظة شربي للصودا وأنا أتابع حركات وجه إبراهيم.

بقى ابن خالتي وإبراهيم لمدة أسبوع يعملان في طلاء المنزل، في آخر جلسة أذكر أننا تحدثنا عن ما تفعله “إسرائيل” بنا، صدمت حين أخبرني أن الطائرات الحربية الإسرائيلية دمرت منزلهم الكبير وكان حديث البناء في العدوان الثالث على غزة صيف 2014؛ وصُدم هو الآخر حين أخبرته أن 31 صديقا لي قتلتهم إسرائيل منذ اندلاع الانتفاضة الثانية أي خلال 19 عاما.

رد عليها وقتها: ” يمكن أنا الرقم 32″. ضحكنا معا بصوت عالي وراح يكمل عمله.

في صباح 12-11-2019، كنت أمارس عملي الصحفي حين دخلت غزة في جولة جديدة من التصعيد العسكري بعد ما نفذت “إسرائيل” عملية اغتيال مزدوج إذ تمكنت من قتل القائد البارز في سرايا القدس الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي بهاء أبو العطا “42 عاما” هو وزوجته أسماء “38 عاما” بغزة، تزامنا مع استهداف منزل عضو المكتب السياسي لحركة الجهاد القيادي أكرم العجوري في العاصمة السورية دمشق وقد نجا العجوري فيما قتل نجله معاذ وشخص أخر.

في الحقيقة طوال جوالات التصعيد التي وصل عددها إلى 14 تصعيدا خلال عامين، لم يقتل أحدا من أصدقائي أو أقاربي أو حتى لم يصاب أحدا، إذ قتل أخر صديق لي قبل خمس سنوات أي في عدوان 2014.

في الساعة التاسعة والنصف صباحا، جاء خبر عاجل عن مقتل مقاتلين من سرايا القدس بقصف إسرائيلي غرب غزة.

وما هي لحظات حتى امتلأت مواقع التواصل الاجتماعي بصورة أحد الشابين، وكانت الصورة صدمة لي حين كانت لإبراهيم الضابوس وهو يرتدي زيه العسكري.

ولكن بعد نصف ساعة، جرى نفي خبر مقتله، وأنه ما زال على قيد الحياة ولكن حالته خطرة جدا ويخضع لعمليات جراحية مكثفة.

فبحسب صديقي الزميل الصحافي يوسف فارس “31 عاما” -زوج شقيقته-أخبرنا في اتصال هاتفي أن حالته خطرة جدا إذ فقد أحد أطرافه وإحدى عينيه وجروح بالغة في الرأس.

لكن للأسف بعد خمس ساعات تقريبا، لم يصمد إبراهيم كثيرا وأعلن عن خبر وفاته، ليحجز فعلا رقم 32 من بين أصدقائي الذين قتلوا على يد جنود الاحتلال الإسرائيلي.

لا أعرف ماذا أصف ذلك اليوم الذي كان يطاردني ضغط العمل وصدمة فراق إبراهيم ولكن يمكن القول عنه كان يوم آخر لي في الجحيم.

وتمكن الجيش الإسرائيلي من قتل إبراهيم في المحاولة الثالثة، ففي 2014 نجى مرتين من القصف، إحدها حين دمر الاحتلال منزلهم.

عيد ميلاد في بركة دماء

في الحقيقة ربما قد أكون مبالغا بحزني، فأنا أفضل حالا من الطفلة ليان أبو العطا “11عاما” أصغر أطفال القائد أبو العطا، فمنذ فترة لم تر الطفلة والدها الذي يتنقل من مكان إلى أخر، وفي تلك الليلة جاء إلى المنزل الواقع في حي الشجاعية شرق غزة ليفاجئها ليحتفي بعيد ميلاد طفلته الصغيرة.

تقول ليان عن تلك اللحظات: “كان يوم ميلادي، فحب بابا يعملها مفاجأة، نمت وأنا فرحانة كثير منتظرة الصباح لمشاركة أبي لعيد ميلادي”.

ولكن بعد ساعات وبحلول الفجر تحول فرحة عيد الميلاد المنتظر إلى حزن سيطارد تلك الطفلة طوال عمرها حين استيقظت على صوت انفجار وجروح طفيفة في قدمها اليسرى، وبعد ساعتين أخبروها أن أمها أسماء ووالدها قد رحلا إلى السماء.

وكانت ليان وإخوتها الأربعة سليم (19عاماً) ومحمد (18عاماً) واسماعيل (15عاماً) وفاطمة الزهراء (14عاماً) ينامون في المنزل لحظة استهدافه، ما أدى لإصابتهم بجروح جسدية مختلفة.

تكمل الطفلة اليتيمة: “الاحتلال حرمني من الفرحة، حرمني من حنان ماما وبابا”.

وكان قد قال بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء إسرائيل، في خطاب متلفز، إن اغتيال أبو العطا تمت الموافقة عليه قبل 10 أيام.

وأضاف نتنياهو: “أطلق هذا الإرهابي مئات الصواريخ وخطط لمزيد من الهجمات؛ لقد كان قنبلة موقوتة”.

وقد ذكرت العديد من وسائل الإعلام الإسرائيلية أن نتنياهو سعى لاغتيال أبو العطا بعد أن أجبرته الصواريخ التي أطلقت من غزة على مغادرة المسرح خلال إلقاء خطاب له في أسدود قبل أسبوع من إجراء الانتخابات في سبتمبر.

خلال 72ساعة قتلت إسرائيل 36 فلسطينيا من بينهم ثلاث نساء و6 أطفال وارتكبت ثلاث مجازر حين استهدفت البيوت والمنشآت المدنية، بعد ما جرى التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار بين فصائل المقاومة والاحتلال برعاية مصرية.

أبرز تلك المجازر، مجزرة عائلة السواركة في مدينة دير البلح وسط قطاع غزة، حين استهدفت الطائرات منزلهم المكون من الصفيح بـ 6 صواريخ وقتل 9 من أفرادها من بينهم خمسة أطفال وسيدتين.

والأمر المستفز حقا في حكاية عائلة السواركة هو اعتراف جيش الاحتلال أن قتلهم لتلك العائلة جاء نتيجة خطأ معلوماتي.

إذ نقلت صحيفة “هآرتس”عن الجيش قوله: “قدرنا أن المبنى في دير البلح كان خاليًا ولم يدرك أنه كانت تسكنه عائلة”.

وتمكن الاحتلال من قتل 19 مقاتلا بغزة، 16 من سرايا القدس وثلاثة أخرين من كتائب شهداء الأقصى وجميعهم من الوحدة الصاروخية، بعدها أعلن الجيش عن انتهاء عن العملية التي اسماها ” الحزام الأسود”، وزعم جيش الاحتلال أن “العملية حققت أهدافها وحان وقت التركيز على الجبهة الشمالية”.

من بين هؤلاء المقاتلين، قائد ميداني كبير يدعى خالد فراج من مخيم النصيرات “38 عاما”، كان مسؤولا بالوحدة الصاروخية لسرايا القدس كذلك كان يعمل نجارا في ورشة النّجارة مع والده بمنطقة “الكلبوش” التي تركها الجيش البريطاني سجناً وبقيت جزءً من مُخيّم النصيرات للاجئين وسط القطاع.

وقتل في اليوم الثاني من التصعيد الأخير في منطقة المغراقة، إذ نجى في المرة الأولى ثم نجحت المقاتلات الإسرائيلية بقتله في الصاروخ الثاني الذي استهدفه مباشرة.

كان يدعى فراج بـ أبو وحيد ولديه 6 أطفال، معروف عليه بالابتسامة بين جيرانه يقول الرجل إسماعيل الراعي “44 عاما “: ” كان أبو حيد رجل متواضع جدا، ودوما مبتسم”.

خلال لحظة اتشييع التقط الزميل المصور عبد الرحمن زقوت صورة لطفلته سما “13 عاما” وهي تبكي فوق رأسه التي اختصرت تلك الصورة معاني كثيرة من الحزن وأخذت انتشارا واسعا.

تقول سما:” قبل ما يطلع الصبح، صنعت له كوب من الشاي، شربه بسرعة وقبل رأسي، وبعد ساعتين قبلت رأسه حين عاد لنا جثة هامدة”.

الأرملة الصغيرة

وعلى ذكر أعياد الميلاد، بالعودة إلى صديقي إبراهيم، كان متخصصا في تحضير أعياد الميلاد وانتقاء أنواع الهدايا، إذ كنا نستعين به في تجهيز أعياد والمناسبات الشخصية.

قبل أسبوع من مقتله، اشترى صديقي غيتارا لابنه شقيقته ليفاجئها في عيد ميلادها الرابع، ليبقى الغيتار أخر شي للصغيرة شام التي قد تعزف عليها مقطوعة حزينة حين تكبر لتنادي فيه على صاحب الغيتار الذي رحل.

في الحقيقة أنا أقل الأشخاص حزنا على صديقي، فالحزن الحقيقي يعشعش في قلب عروسته مروة “17 عاما” ابنة عمه، الذي تزوجها قبل 70 يوما من مقتله وتحديدا كان حفل زفافه في 4-9-2019.

بدلا من أن تستقبل مروة المهنئين بزواجها الحديث، خلعت ثوبها المطرز وارتدت الثوب الأسود لتستقبل المعزيين بعريسها.

تقول العروسة الباكية:” كانت هناك أمنيات وأحلام نتقاسمها أنا وإبراهيم، لم أتوقع أن يرحل عني بهذه السرعة”. اخر حوار دار بين العروسين حول وجبة الغذاء التي يريدها إبراهيم، اقترح العريس اكلة الباذجان قبل ان يخرج مسرعا من بوابة المنزل.

مروة الأرملة ما زالت طالبة ورغم زواجها المبكّر، لكن حلمت كباقي الفتيات بإتمام تعليمها وبناء بيت تهنأ فيه برفقة زوجها وأبنائها، لكن “إسرائيل” حولتها من العروسة الصغيرة إلى أرملة صغيرة تحمل قلبا كبيرا من الحزن ولوعة الفراق.