ندوب الكف تحكي.. كيف أنقذ “الوطن” حكيماً من وحش البطالة؟

غزةمصدر الإخبارية – خضر عبد العال

لافتاتٌ تحمل إرشاداتٍ طبيةً عُلِّقَت على واجهة كشكٍ صغيرٍ لا تتجاوز مساحته (10) أمتار، يقابله “فرن” طهي يقف بجواره شاب عشرينِيٌّ انشغَل بتنظيف كمية كبيرة من سرطانات البحر تجهيزًا لطهيها.

يعرف رواد كشك طبخ المأكولات البحرية هذا باسم كشك “الوطن”، في حين يحمل مالكه أحمد مطر شهادةً جامعيَّةً في تخصص التمريض، لكن الحظَّ لم يحالفه في الحصول على وظيفةٍ فيه، كعشرات الآلاف من الخريجين في قطاع غزة.

بدأت حكاية أحمد -أو “الحكيم” كما يفضِّل أن يناديه زبائن الكُشك-عندما أنهى دراسة الثانوية العامة وقرر دراسة التمريض لتحقيق حلمٍ راوده منذ الصغر، بأن يصبح أحد ملائكة الرحمة.

تفوَّقَ وكان من أوائل دفعته معظمَ سنوات الدراسة، رغم أنه كان يعمل في تجارة مواد البناء؛ توفيرًا لنفقات دراسته ودراسة إخوته الثلاثة “زملاء الجامعة”.

في عام التخرج أنهى أحمد فترةً تدريبيَّةً عمل خلالها “حكيمًا” في مستشفى النصر للأطفال بمدينة غزة. نجحَ بمعدلٍ مرتفع وحصل على شهادة مزاولة المهنة.. حدث ذلك عام 2016م، العام ذاته الذي خسر فيه “الحكيم” تجارته وغدا عاطلًا عن أي عمل؛ مثل 52% من الغزيين الذين أرَّقهم شبح البطالة وفق الإحصاءات الرسمية.

 

“كيف أترك وطني يابا؟”

 

مرَّت الأيام بـ”الحكيم” ثقيلةً، يصحو ثم ينام، ولا شيء يملأ وقت الفراغ الطويل بين هذين الفعلين سوى أنه كان يمكن أن يزور ديوان الموظفين العام بغزة ليتقدم لاختبارات التوظيف ويحصل على درجاتٍ عالية، ثم لا يحالفه الحظ في الحصول على الوظيفة!

مع نهاية عام 2017م اعتقد أحمد أن المبادرات الشبابية التطوعية “قد تكون الحل”، فأنشأ فريقًا سمَّاه “روح الشباب -البلد بلدنا”، وضم معه فيه (160) عضوًا من المتطوعين والمتطوعات الذين كانوا يجوبون المستشفيات لرسم الفرحة على وجوه المرضى وكبار السن، إضافةً إلى تنظيمهم حملات دعم الأسر الفقيرة، وتنظيم المرور، وتنظيف الشوارع، والتوعية بخطورة المخدرات والإدمان؛ دعمًا للمباحث العامة.. استمر أحمد على هذا الحال حتى جاءته من الله إشارة.

رصَّ أحمد سرطانات البحر -المعروفة محليًّا باسم “الجلمبات”- إلى جانب بعضها في “صينية” (ماعون الطهي)، وأضاف إليها خلطة من التوابل البحرية، قبل أن يبدأ في سرد ذلك الحوار الذي دار بينه وبين والده يومًا؛ عندما خاطبه الأخير بهدوء المُتردِّد: “يا ولدي إنت جدع، روح سافر برة، يمكن تلاقي رزق أحسن من اللي موجود هان”.

لم يجد الشاب آنذاك لسانه إلا وقد انطلق بالإجابة وحده: “كيف أترك وطني يابا؟ إذا احنا الشباب طلعنا، مين بدو يضل؟ البلد مصيرها تصير أحسن، بس لو اشتغلنا عليها بمبدأ الجسد الواحد، وما تعصَّب كل واحد فينا لحزبه وفصيله.. يابا هذا الوطن”.

أغمض عينيه ومشى باتجاه البحر ينفِّسُ عن روحه المنهكة، تمامًا كما كل يوم، ليلفت انتباهه هذه المرة “حكيمٌ” من زملاء الدراسة يعمل في كشك صغير لبيع المشروبات الساخنة، بعد أن انتهى عقده في مستشفى للأطفال كان ممرضًا فيه.

يضيف أحمد: “رأيته وقد تأقلم مع الفكرة، لم يجد في الأمر أيَّ عيب مع هذا الانهيار الاقتصادي الذي تعيشه غزة، ودَّعتُه يومها وقد لمعت في رأسي فكرة.. رأس مالٍ قليل، وبعض الجهد، قد يكون سببًا في وقوف مشروعٍ على قدميه”.

 

بروتوكول “الوطن”

ابتسم وهو يتذكر تلك الحقبة، وقد وضع الصينية التي بين يديه في فرنٍ محمى جدًّا، ثم أكمل: “بدأت بالمشروبات الساخنة، سمَّيته كشك الوطن، لأن ما قادني إلى الفكرة هو الوطن ذاته، لكن مع انتهاء الإجازة الصيفية زادت الخسارة، فقلبت التخصص إلى طبخ الأسماك كلها”.

بدأ أحمد مشروع “الوطن” الجديد لينتهي به الحال اليوم فيه رئيسًا، يحترمه الزبائن لأمانته وصدقه ونظافة أصنافه.

ليس للكشك ساعات عملٍ محددة، فالأبواب تُفتح وقت الطلب، يزيد أحمد: “عندما يطلب الزبائن كمية من “الجلمبات” المطهوَّة أذهب وأشتريها من الصيادين وأبدأ في تجهيزها”.

أخرج أحمد وجبة المأكولات البحرية من الفرن ووضعها على طاولةٍ خشبية، وتابع وهو يشير بسبابته نحوها: “ليست تخصصي، لكنني مضطر لتحصيل لقمة العيش، مثلي مثل معظم شباب غزة، ولو كانت في فم أسد”.

قال: “انظر”، وفتح كلتا يديه فإذا هما مغطاتان بالندوب والجروح التي تسببت بها مقصَّات سرطانات البحر، وزاد: “هاتان اليدان كان من المفترض أن تداويا المرضى داخل المستشفيات، لكنهما اليوم تصنعان المأكولات البحرية تحديًا للبطالة والفقر”.

وفي لحظة لم يتمالك أحمد دموعه، فأردف: “الوطن هو الأسى والجرح الذي نعيشه، وكشك المأكولات البحرية رغم أنه مصدر رزق، فإنه جرح غائر في جسدي، لأن مكاني الحقيقي بين أسرَّة المرضى بالمستشفيات أعطيهم من علمي وعملي، وليس هنا”.