رسالة من غزة: هذا ما يجري لنا الآن صدقوني…بقلم مصطفى إبراهيم

مقال رأي-مصدر الإخبارية

رسالة من غزة.. شعوري أن العيش هنا في غزة مترافقاً مع الذكرى الـ 73 للنكبة والذكرى السنوية الاولى لرحيل والدي ورواياته عن النزوح وأهواله، والقلق والخوف على العائلة والأصدقاء والأقارب، أنني حر أنا ومجموعة كبيرة من “المجانين” هنا في غزة نموت ونطالب بالثأر والانتقام…

“وين أروح أنا وبناتي الأربعة. دمروا كل العمارة اللي ساكنين فيها”، إنه صوت امرأة من غزة، وهي تسير في الشارع وتحمل حقيبة وتم تدمير البناية السكنية التي تقطن فيها.

رسالة من غزة…الليلة الماضية، لا أعلم هل هي ماضية أم هي امتداد لنهار سابق ونهار قد يأتي أو لا يأتي، إذ كانت الرابعة فجراً، وقبل محاولة النوم الأخيرة ووسط انفجارات قريبة من منزلي هزت أركانه، جاءت الأخبار التي تُذهب العقل وتدمي القلب. الطائرات الحربية الإسرائيلية قصفت منزل في مخيم الشاطئ داخل مدينة غزة فاستشهد 8 مواطنين بينهم 6 أطفال، وامرأتين، ونجا طفل واحد يبلغ من العمر 5 أشهر.

لم أستطع منع نفسي من البكاء، وهو فعل تكرر أكثر من مرة في الستة أيام الماضية، أي منذ بدأ العدوان الاسرائيلي على قطاع غزة.

بكيت كثيرا عندما تم تدمير برجي الجوهرة والشروق في حي الرمال وسط مدينة غزة، وهما معلمان من معالم المدينة، ولي ذكريات في المكانين حيث المكاتب الاعلامية ومكان استضافتي على محطات التلفزيون. فقد أصدقائي ما بنوه خلال سنوات. فقدوا ذكرياتهم وآمالهم ومستقبلهم. لقد تدمرت معداتهم ومكاتبهم، ولم يعد من أثر لمكان أمضوا فيه أيام وسنوات.

رسالة من غزة…أحاول النوم في اليوم ساعتين منذ بداية العدوان. ابني يوسف في الثانوية العامة التوجيهي، ومن المفترض أن يتقدم للامتحانات الشهر القادم في 17/6 منه، لم يستطع فتح كتاب، ولم يتمكن من النوم ساعات متتالية. مع كل صوت قصف وانفجار يستيقظ ويقف في وسط الصالة ويسأل “وين القصف”، كذلك شام وهي في الصف التاسع تحاول النوم وتسأل بين الفترة والأخرى “وين القصف” وتستيقظ وبعد فترة تحاول النوم ولا تنجح.

خلال السنوات الخمس عشر الفائتة عشت ثلاث دورات عدوانية إسرائيلية على قطاع غزة، وهذه هي الدورة أو الجولة هي الرابعة. الغريب أن العدوانات استيقظت كلها ما أن بدأ العدوان الأخير.

الحرب النفسية والتاريخ يعودان بي إلى سنوات ماضية، إلى عملية “الرصاص المصبوب” في 2009،2008، وعدوان 2012، وعدوان 2014، وما ارتكب خلالها من جرائم، وقتل للأطفال والنساء وتدمير المنازل على رؤوس قاطنيها. لا فاصل زمنياً بين هذه العدوانات في ذاكرتي. المشاهد تتداخل على نحو متخيل وواقعي في آن.

لا أخفي خوفي وقلقي خاصة في موضوع استهداف وقصف المنازل وتدميرها، فهي تتم بدون تمييز أو سابق انذار، فالهدف في قناعتي هو التدمير وكيّ الوعي.

لم يعد العقل والقلب قادرين على تحمل صور ومشاهد الدم وقتل الأطفال. تتمرد الذاكرة على النسيان وتصر على الاحتفاظ بصور أطفال مسجيّن لن يعودوا إلى أحضان أمهاتهم. فكيف لي أن أنسى صورة الطفل الناجي الوحيد من عائلة ابو حطب من مجزرة مخيم الشاطئ.

لا أخفي أنني اكتب وانا قلق. يعتريني خوف من صوت يبعث مزيداً من الرعب في نفوس أولادي. أكتب على وقع صوت الانفجارات، خاصة تلك الآتية من مدافع الزوارق البحرية المتمركز في بحر غزة حيث أسكن.

لا بل الانفجارات الآتية من كل مكان، ومن صوت رسائل الـ”واتس أب” والتي تفيد بإنذار الاحتلال الاسرائيلي سكان برج الجلاء وسط مدينة غزة حيث مكتب قناة الجزيرة الاخبارية ومؤسسات صحفية أخرى (جرى تدمير البرج بعد دقائق من وصول مقال مصطفى إلينا). إضافة الى صوت طائرات الاستطلاع التي لا تغادر السماء، بصوتها الرفيع الذي ينخر رؤوسنا، فاشعر انها تقف فوقي وتدقق بما اكتب.

هذا ما أعيشه مع مليوني فلسطيني من أهل القطاع. أحاول الآن أن أسرع في الكتابة؛ للحفاظ على ما تبقى من شحن جهاز الكومبيوتر، فاعذرني يا صديقي المحرر لأنني لن أجري قراءة ثانية لما كتبت.

الكهرباء شحيحة وتصل ثلاث ساعات وربما لا تصل، وأيضا لن اتمكن من شحن جهاز الكومبيوتر من بطارية الـ”يو بي أس” لأحافظ عليها لشحن جهاز الراوتر والإنارة الليلية. فقد أعلنت شركة توزيع الكهرباء عن توقف وشيك لمحطة التوليد بسبب منع إدخال الوقود عبر معبر كرم أبو سالم.

التوقف سيشمل محطة التوليد بسبب تدمير خطوط الكهرباء الآتية من الخط الأخضر أيضاً وتعطل الخطوط الرئيسية، وهي تشكل (45%)، بطاقة إجمالية تصل لـ (50) ميغاوات، وكذلك منع إدخال شحنات الوقود اللازمة لتشغيل محطة التوليد الوحيدة في قطاع غزة بسبب إغلاق معبر كرم ابو سالم.

بدأت ازمة الكهرباء بالانعكاس على القطاعات الحيوية في غزة، حيث توقفت “المياه الحلوة” اي الصالحة للاستخدام الآدمي المستوردة من شركة المياه الاسرائيلية (مكروت)، ومن حسن الحظ أنه يوجد بئر مياه في العمارة التي أقيم فيها لكنه يضخ مياه مالحة لا تصلح للشرب والطعام.

لكن هذه النعمة لا تشمل أهل المدينة وتقتصر على بعض العمارات. ومن حسن حظي أيضاً، حتى الان، أن خدمة الانترنت تعمل على رغم أن الغارات الإسرائيلية دمرت البنية التحتية لشبكات الاتصالات والانترنت في أجزاء كبيرة من غزة.

لا أعلم أي حظ ذلك الذي أعيشه ونعيشه في قطاع غزة، هل لأنه يراودني شعور كما ذكر لي صديقي اننا نحن الأحرار وباقي الدول العربية هي المحتلة في إشارة منه لقصف إسرائيل، حتى ولو أن الثمن كبير والتضحيات أكبر؟
شعوري أن العيش هنا في غزة مترافقاً مع الذكرى الـ 73 للنكبة والذكرى السنوية الاولى لرحيل والدي ورواياته عن النزوح واهواله، والقلق والخوف على العائلة والأصدقاء والاقارب، أنني حر أنا ومجموعة كبيرة من “المجانين” هنا في غزة نموت ونطالب بالثأر والانتقام، هذا المطلب الغريزي يعينني على تحمل أكلاف البقاء على قيد الحياة.

أفكر بمستقبل أولادي، وأؤجل النقاش عن جدوى المقاومة المسلحة، والمقاومة الشعبية، وخذلان الأنظمة العربية. لم يعد لي القدرة على بعث رسائل في ظل القتل وغياب العدالة والتواطؤ على قتلنا.

لا أفق لوقف تدفق العدوانات. تبقى الاسئلة مشرعة في ظل حالة انسانية لا تطاق. فقد فاتني قبل أن ينطفىء الكومبيوتر أن أشير إلى نقص المواد الغذائية والطعام والشراب. ففي حضرة الموت والدم وسقوط الضحايا لا أستطيع أن اتذوق الطعام باستثناء القهوة والسجائر والماء، قد تعتقدون أن في هذا مبالغة لكن هذه هي الحقيقة.