الصياد خضر.. هكذا سلبت “إسرائيل” رزقه وحبيبتيه

قطاع غزة – حمزة أبو الطرابيش

مؤخرًا، وفي الليالي التي أكون فيها بحاجةٍ لإعداد مادةٍ صحافيةٍ مكثفة، ولكي أضمن قدرًا عاليًا من التركيز، أتودد إلى زوجتي سارة أن تبيت بطفليّ خليل وصبا في منزل والدها، وخاصةً أن صبا حديثة الولادة وتحتاج إلى رعايةٍ ليلية مشددة.

بالطبع، سارة تتذمر من مطلبي، ولكنها توافق في نهاية المطاف، مع تأكيدها الدائم أنني الخاسر الوحيد.

اكتشفت صدق ما قالته سارة في أول يومٍ استيقظت فيه ولم أجد فيه طفلي حولي، لم أرى وجهيهما ولم أشتم رائحتهما، انزعجت كثيرًا، وكانت بدايةً سيئة ليومٍ ممل.

قد يرى أحدهم أنني أبالغ هنا، ربما يكون ذلك صحيحًا، فأنا في نهاية الأمر أرى أطفال في اليوم التالي من غيابهم، ولكن ماذا يفعل أولئك الآباء الذين لم يعودوا قادرين لا على رؤية أطفالهم ولا على شم رائحتهم.

الصياد الغزّي خضر الصعيدي مثلًا، لم يعد قادرًا على رؤية أطفاله (محمد وهاشم وإيناس)، ولا حتى شم رائحتهم، حين فجرت أعيرة مطاطية إسرائيلية عينيّ الشاب القاطن بمخيم الشاطئ غرب مدينة غزة وحطمت أجزاء الداخلية لأنفه.

الليلة السوداء

عصر يوم الأربعاء الذي وافق العشرين من فبراير من العام الجاري انطلق خضر “32 عاما” من حوض ميناء غزة برفقة ابن عمه محمد الذي يصغره بأعوامٍ يسيرة على قاربه اللانش ماتور، أو ما يسميها الصيادين «حسكة»، كان شاطئ خانيونس هو الوجهة، حيث يعملان منذ شهرين هناك، بعد أن اتسعت مساحة الصيد في تلك المنطقة إلى 12 ميلًا بحريًا، وفقا لاتفاق توصلت إليه الفصائل الفلسطينية وإسرائيل برعاية مصرية.

بحر غزة، ليس بحرًا واحدًا كما نراه ونعرفه، تجزئ إسرائيل هذا البحر كأنها كعكة عيد ميلاد، هكذا يوضح زكريا بكر مسؤول لجان الصيادين في اتحاد لجان العمل الزراعي، حين بين أن هناك مناطق مقيدة الوصول، والسماح فيها بالصيد حد ميلين فقط، وأخرى تتسع لثلاثة أميال، ومناطق تصل إلى ست وتسع أميال، ومنطقة وحيدة من دير البلح إلى خانيونس تمتد إلى اثنا عشر ميلًا، هناك حيث يسرح خضر وابن عمه، اللذان يعملان بنظام الصيد بالغزل المناسب للمساحات بعيدة المدى، والضامنة أن يعود برزقة يومه مما يرميه البحر.

يومها، وفي الساعة العاشرة مساءًا تحديدا، وحين كان خضر ومحمد منهمكين في إخراج شباك الصيد على مساحة نحو تسعة أميال بحرية تقريبًا، اقتربت منهما خمسة زوارق مطاطية إسرائيلية، حاولا الهرب، ولكن سرعان ما ضيقت الزواق خناقها على الحسكة، وعلى مرمى ثلاثة أمتار أطلق الجنود الملثمين وابلاً من الأعيرة المطاطية اتجاه جسديهما النحيلان، أصيب محمد في صدره وبطنه، وفتكت خمسة عشر رصاصة مطاطية بساق خضر وظهره.

سقط على أرضية الحسكة، والزواق تقترب أكثر فأكثر، ليرموه الجنود برصاصٍ مطاطي على صدره ووجهه قبل أن يغمى عليه.

عتمة ومساومة

مقيد اليدين والقدمين، على سرير في مستشفى (برازلاي) الإسرائيلي، يحاول خضر أن يفتح عينيه، ولكن ظلام دامس يغطي كل شيء، يصرخ ويصرخ، يأتي أحد الأطباء، وبلغة عربية ركيكة يُبلغه أنه أجرى له عملية لاستئصال عينه اليمنى بعد إصابتها بشكل مباشر، فيما سيجري بعد ساعات عملية أخرى لعينه اليسرى التي تعاني من تمزق في الأعصاب، واحتمال نجاحها ضعيف.

كان ذلك بعد ثمانٍ ساعات من سقوطه واعتقاله وابن عمه، فهذه تجربة الاعتقال الخامسة لخضر مذ خاض عباب البحر صبيا، قبل عشر شهور فقط كان قد خرج من سجون الاحتلال بعد إصابته بالفخذ، أمضى هناك عامًا كاملًا، 37 يومًا منه كانت في العزل الانفرادي، وكهذه المرة صادروا حينها معداته، خسر خضر ما يقار 28 ألف دولار فقد خلال العامين الماضين.

الملاحقة ومصادرة المعدات التي ينفذها جنود الاحتلال في عرض البحر بشكلٍ شبه يومي، هم وكمد يخيم على رزق قرابة أربعة آلاف صياد غزّي، لكن رغم ذلك يواصلون حرفتهم، يعلق خضر على هذا الجزئية: “احنا الصيادين ما بنعرف نشتغل غير في البحر أنا عن نفسي زي السمكة إن طلعت من البحر، بموت يا خال”.

حين استيقظ خضر الذي تورث حرفة الصيد عن أجداده من العملية الثانية، كان ذات الطبيب يقف على رأسه، تعرف عليه خضر من صوته، ولكنه لم يكن بصحبة الأخبار السيئة فقط، بل جاء برفقة ضابط الدورية التي أطلقت عليه الرصاص وأفقدته بصره.
دون مقدمات حاول الضابط ابتزاز خضر ومساومته بتقديم وعد بإعطائه مئة ألف دولار وإعادة قاربيه مقابل عدم رفعه لقضية في المحاكم، ولكن ورغم الضغط والابتزاز الرازح تحته لم يكن جواب خضر إلا رفضًا مطلقًا.

هنا، يعلق نزار عياش نقيب الصيادين قائلا: “معظم الصيادين الذين اعتقلتهم إسرائيل كانوا في مساحة الصيد المتفق عليها؛ في الاعتقال يخضع الصيادون للتعذيب وغيره من أنواع المعاملة النفسية القاسية والمهينة”.

خلال النصف الأول من عام الجاري، رصد مركز الميزان “207” حالة اعتداء تجاه الصيادين، وأصيب “15” صياداً بجروح مختلفة، كما اعتقل “28” صياداً، واحتجزت 11 قارباً.

وبحسب الميزان فإن الإحصائية الكاملة لمجمل الاعتداءات الإسرائيلية على الصيادين فقد ارتكب الاحتلال “1043” اعتداء على الصيادين واستخدم خلالها الذخيرة الحية “1032” مرة.

وتأتي الانتهاكات الإسرائيلية الجسمية والمنظمة التي ترتكب بحق الصيادين الفلسطينيين منذ نحو عقدين من الزمن في سياق تشديد الحصار وإيقاع العقاب الجماعي بالسكان المدنيين، وهي تنتهك قواعد القانون الدولي الإنساني ولاسيما المادة “33” من اتفاقية جنيف الرابعة.

إفراج مذل

بعد أربعة أيام من احتجازه داخلها، أخرجوا خضر من المستشفى، رافقه شخصان إلى سيارة إسعافٍ بعد أن أعطوه ورقة مراجعة بتاريخ 11 مارس 2019، واقتادوه إلى معبر إيرز شمال غزة، وعند بوابتها تركوه وحيدًا وطلبوا منه العودة.

لم يعلم خضر الذي فقد بصره لتوه ماذا يفعل وأين يذهب، تسمرّ في مكانه وأجهش بالبكاء، فبدأ ينادي، ويقتفي بسمعه خطوات المارة حتى جاءت الاستجابة بعد دقائق، حين اقترب شخص وعرف على نفسه أنه تاجر عائد إلى غزة.

أركبه التاجر “تكتك”، وطلب من السائق إيصاله للجانب الفلسطيني من المعبر، وهناك اتصل السائق على عائلته. يستذكر خضر تلك اللحظات أمامنا والعرق يتصبب من جبينه.

سحبه والده مروان الذي أنهى عقده السادس حديثا، يومها إلى مشفى العيون بغزة، العظم حول العين اليمنى مهشم، ولا وجود لأجزاء العين والشبكية، كأنها اقُتلعت، لقد سرقوا عينيّ الصياد، حرفيًا وليس مجازيًا.

وفي مارس، جاء الموعد المُنتظر لإجراء عملية خضر لوصل العصب المقطوع في العين اليسرى، وفي الليلة التي كان يجهز نفسه للسفر، رسالة نصية على هاتف والده تخبرهم أن خضر “مرفوض أمني”.

بعدها حدد المشفى الإسرائيلي موعدًا جديدًا في آخر مايو 2019. لكن في أبريل المنصرم أتيحت فرصة سفر لخضر مع والده إلى الأراضي المصرية، وفي مشفى الفاطمية زرعوا له عين يمنى زجاجية، وأخبره الأطباء هناك أن احتمالات عودة البصر لعينه اليسرى صفرية، أما عن حاسة الشم قد تعود ولكن تحتاج لمدة طويلة فأنفه من فوق مهشم كليا.

من مصر، عاد خضر والكآبة تنهش روحه والحزن بات رفيقه الأعز لأيام متواصلة امتنع عن النوم، واضرب عن الطعام، حاولت العائلة طمأنته بأن هناك مسالك أملٍ باقية، كانوا يعولون على سفره إلى إسرائيل، وحين جاء الموعد، تكرر ذات المشهد، قدمت العائلة ثمانية طلبات مراجعة وفي كل مرة يرفض الاحتلال الطلب بحجة الرفض الأمني.

وبعد سبعة شهور من المماطلة الإسرائيلية، أتت الموافقة على سفر خضر مع والدته انتصار الخمسينية إلى المستشفى الإسرائيلي “بيلنسون” بمدينة يافا.

يكمل الصياد عن ملخص الرحلة العلاجية: “حكالي الدكتور ما الك علاج في “إسرائيل (..) كمان أربع سنوات ارجع لنا يمكن نوفر لك العلاج”.

“نفسي أشوف أولادي وأشم ريحتهم”

في نهاية المقابلة التي امتدت لأربع ساعات، جاءت زوجته هديل، البالغة من العمر 25 عامًا، وخلفها كان الأطفال الثلاثة، والتفوا حول الأب.

قفزت الطفلة إيناس ثلاثة أعوام في حضن والدها، وطلبت منه أن يرى خدشا اعتلى قدمها الصغيرة؛ سحب خضر شهيقا وبكلمات بطيئة أخبرها أنها ستكون بخير.

استدركت هديل موقفه، تربت على كتفه وتواسي نفسها قبل زوجها، قائلة: “لازم تصبر يا خضر، أنا حاسة في أمل”.

ليرد عليها: “أنا انتهيت، إسرائيل دمرت حياتي وانا لسة في بداية عمري؛ قبل الإصابة كان أحلى حاجة عندي قبل ما أطلع البحر لما كنت أحضن أطفالي وأشم ريحتهم؛ نفسي يتكرر هالمشهد وأشوف أولادي وأشم ريحتهم، لكن يبدو إنه صار مستحيل”.

مؤخرا، بدأت تتعلم هديل فن التطريز وإعداد قطع يمكن بيعها، لمحاولة سد رمق أطفالها الثلاثة بعد ما أنضم زوجها لجيش البطالة؛ فخضر كان المعيل الأول لعائلته المكونة من 14 فردا، خاصة بعد إصابة والده بكسر بالظهر قبل خمسة عشر عاما.

تعي زوجة الصياد أن فرصة الحصول على عمل بغزة صعبة جدا، فاقتصاد غزة متدهور بشكل واضح فخلال العقد الأخير نتيجةً للقيود الشديدة المفروضة على الحركة واغلاقات المعابر، ومع ارتفاع معدل البطالة إلى 53% وتخطي نسبة الفقر لـ 80%، أصبحت المنافسة في سوق العمل شرسة.

وكان الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني (حكومي) في نهاية عام 2018 قد أصدر تقريرا مفصلا عن البطالة في فلسطين، حيث بلغت نسبة بطالة الشباب بغزة (19-29 سنة) 69%؛ فيما سجلت نسبة البطالة بين حملة الشهادات الجامعية بدرجة دبلوم فأعلى بالقطاع، 78 %.

قصة الصياد خضر في إطارها العام، هي حكاية صغيرة لما يعيشه 70 ألف شخص بغزة يعتاشون على مهنة الصيد التي أجبرتهم “إسرائيل” على أن تكون لقمة عيشهم مغمسة بالدم، ويتمنى هؤلاء فك الحظر الإسرائيلي عن بحر غزة؛ فبلغة الأرقام إن حدث ذلك يرفع القيمة الاقتصادية بغزة بنسبة 27% أما على مستوى فلسطين ككل 9%. وفقا للخبير الاقتصادي ماهر الطباع.