معهد إسرائيلي: تخفيف عبء الكهرباء عن غزة بعد الحرب – ضرورة ملحة
وسوف يكون من الأفضل لإسرائيل أن تكون الطرف الذي يبادر إلى وضع خطط طويلة الأجل لإعادة تشكيل البنية الأساسية في غزة على النحو الذي يعود بالنفع على سكان غزة والإسرائيليين على حد سواء لعقود قادمة.
معهد بيغين السادات للدراسات الإستراتيجية – مصدر الإخبارية
الملخص التنفيذي: لقد تحول اعتماد قطاع غزة الشديد على الكهرباء والديزل الذي تزوده إسرائيل من ميزة استراتيجية إسرائيلية إلى عبء اقتصادي وإنساني على إسرائيل. ولابد أن تشمل إعادة إعمار غزة بعد الحرب قدرات توليد طاقة أكثر استقلالية في شكل توسيع الطاقة الشمسية الكهروضوئية وتطوير حقل غاز غزة البحري. ولابد أن تشمل أيضاً المزيد من توصيلات الشبكة بموردي الكهرباء الآخرين إلى جانب إسرائيل، وفي المقام الأول مصر. وإلا فإن إسرائيل ستظل مسؤولة عن تلبية احتياجات ملايين سكان غزة في العقود المقبلة، بغض النظر عمن يسيطر على قطاع غزة.
منذ وصول حماس إلى السلطة في غزة في عام 2007، كان اعتمادها الكامل على إمدادات الكهرباء والديزل الإسرائيلية يُعَد ميزة استراتيجية في نظر صناع السياسات الإسرائيليين. وقبل اندلاع الحرب الحالية، كانت إسرائيل تزود غزة بنصف كهرباءها من خلال عشرة خطوط كهرباء. واستمر هذا الإمداد على الرغم من رفض السلطة الفلسطينية دفع ثمنه، الأمر الذي أدى إلى خلق دين بقيمة 2 مليار شيكل في ميزانية شركة الكهرباء الإسرائيلية. وكان النصف الآخر يُنتَج محلياً في غزة ــ جزئياً من خلال محطة الطاقة الوحيدة في القطاع، والتي تعمل بوقود الديزل الذي تزوده إسرائيل، وجزئياً من خلال آلاف المولدات الصغيرة التي تعمل بالديزل في المباني العامة والمنازل الخاصة. وبعبارة أخرى، كانت إسرائيل توفر كل احتياجات غزة من الطاقة تقريباً من خلال الديون غير المسددة.
من الناحية النظرية، تم تعويض العبء الاقتصادي الناتج عن ذلك على الشركات ودافعي الضرائب الإسرائيليين بالمزايا الاستراتيجية المتصورة المتمثلة في ممارسة النفوذ على حماس من خلال السيطرة الكاملة على مصادر الطاقة. افترض صناع القرار الإسرائيليون أن التهديد بقطع إمدادات الكهرباء والديزل عن القطاع من شأنه أن يردع حماس عن العمل ضد إسرائيل ومن شأنه أن يوفر مزايا تكتيكية خلال جولات العنف الدورية. سرعان ما تم تفنيد هذا الافتراض السائد خلال الشهر الأول من الحرب، عندما تراجعت إسرائيل عن قرارها الأولي بقطع جميع إمدادات الطاقة عن غزة وبدأت قوات الدفاع الإسرائيلية في إرسال شاحنات الوقود إلى القطاع.
ولكن سرعان ما اكتشفت إسرائيل أن قدرتها على استخدام الكهرباء وإمدادات الوقود كسلاح حرب محدودة بشدة لسببين رئيسيين. الأول هو أن سكان غزة، بما في ذلك حماس، اعتادوا على العيش بدون كهرباء من الشبكة الرئيسية وقد طوروا بالفعل حلولاً مستقلة بديلة. ففي العقد الماضي، تم تركيب أكثر من 9000 منشأة للطاقة الشمسية الكهروضوئية خارج الشبكة على أسطح المنازل والمباني التجارية في غزة، والتي يمكنها مجتمعة توفير ما بين 25٪ إلى 40٪ من كهرباء غزة خلال النهار. وتكمل المستشفيات والمدارس والمباني الحكومية والمستودعات اللوجستية الطاقة الشمسية بمولدات خاصة توفر الكهرباء بقية الوقت. كما قامت حماس نفسها بربط أنفاقها بمولدات تحت الأرض للإضاءة والتهوية وخزنت أكثر من مليون لتر من وقود الديزل لتشغيلها لعدة أشهر استعدادًا للحرب. وعلى هذا النحو، لم تتأثر حماس بشكل مباشر بقطع الكهرباء من قبل إسرائيل.
والسبب الثاني لتراجع إسرائيل عن سياستها هو أن قطع الطاقة أدى أيضاً إلى عرقلة القدرة على إنتاج مياه الشرب في غزة، الأمر الذي أدى إلى أزمة إنسانية. ذلك أن المياه الجوفية في غزة ملوثة إلى حد كبير وغير صالحة للاستهلاك البشري. ويرجع هذا في الأغلب إلى الإفراط في الإنتاج المحلي وحفر الآبار غير المنظم، الأمر الذي سمح لمياه الصرف الصحي ومياه البحر بالدخول إلى طبقات المياه الجوفية. وعلى هذا فإن مياه غزة لابد وأن تمر عبر مرافق معالجة خاصة لكي تصبح صالحة للشرب. أو بدلاً من ذلك، يمكن إنتاج المياه من محطة تحلية مياه كبيرة في دير البلح. وفي كلتا الحالتين، لا تستطيع المرافق أن تعمل من دون اتصال مباشر بشبكة كهرباء عاملة أو إمداد مستمر بالديزل من خلال شاحنات تصل إلى مولداتها الخاصة. ويتعين على المنشأة في دير البلح وحدها أن تستهلك أكثر من 3200 لتر من الديزل كل ساعة لكي تعمل بكامل طاقتها. ونتيجة لهذا، سارعت إسرائيل إلى توفير مياه الشرب الخاصة بها، ولكن الكمية كانت غير كافية. وأدى الافتقار إلى مرافق معالجة المياه والصرف الصحي العاملة إلى نقص خطير في المياه وتفشي الأمراض في قطاع غزة، بما في ذلك شلل الأطفال.
وقد أدت الأزمة التي تلت ذلك إلى ضغوط دولية غير مسبوقة أجبرت إسرائيل على إعادة إمدادات وقود الديزل إلى قطاع غزة. فبدءًا من منتصف نوفمبر 2023، نقلت إسرائيل ما يقرب من 60 ألف لتر من الديزل إلى غزة يوميًا على نفقتها الخاصة. وكان هذا على الرغم من المخاوف من احتمال قيام حماس بسرقة بعض الديزل وتجديد الإمدادات لمولداتها تحت الأرض. وعلاوة على ذلك، استخدمت محكمة العدل الدولية في وقت لاحق التهديدات التي أطلقها وزير الطاقة في ذلك الوقت، عضو الكنيست يسرائيل كاتس، بقطع الكهرباء والمياه عن سكان غزة كدليل على أن إسرائيل تنفذ عقابًا جماعيًا غير قانوني في غزة. وقد ألزم الحكم المؤقت للمحكمة في يناير 2024 إسرائيل بضمان استمرار دخول الوقود والمياه إلى القطاع، حتى لو أدى ذلك إلى جعل عمليات جيش الدفاع الإسرائيلي أكثر صعوبة.
وفي مواجهة مشكلة إعادة إمداد القطاع بالطاقة دون وقوعها في أيدي حماس، بدأت إسرائيل في إعادة ربط المرافق في غزة مباشرة بشبكة الكهرباء الإسرائيلية. على سبيل المثال، في بداية يوليو/تموز 2024، ربطت إسرائيل شبكتها بمنشأة تحلية المياه في دير البلح، الأمر الذي أثار انتقادات شديدة من أعضاء الائتلاف الحاكم في إسرائيل. وكان المنطق وراء القرار هو تخفيف أزمة المياه في غزة دون الحاجة إلى نقل الديزل باستمرار إلى مولدات المنشأة باستخدام شاحنات يمكن أن تختطفها حماس. ومع ذلك، فقد شكل ذلك اتجاها مقلقًا لاستعادة اعتماد غزة الكامل على إمدادات الكهرباء الإسرائيلية المباشرة لسنوات قادمة.
ومن هنا فإن أحد الدروس المهمة المستفادة من الحرب هو أن إعادة إعمار غزة بعد الحرب لابد وأن تتضمن قطاع طاقة أكثر اكتفاءً ذاتياً في قطاع غزة. وبدون ذلك لن تتمكن إسرائيل من التهرب من مسؤولية توفير الاحتياجات الأساسية لسكان غزة البالغ عددهم مليونين نسمة إلى أجل غير مسمى. ولتحقيق هذه الغاية، لابد وأن تعمل إسرائيل على تعزيز إنشاء بنية تحتية أكثر استقلالية للطاقة في غزة. وفي حين يتم تمويل المشاريع وإنشائها وصيانتها من قِبَل أطراف دولية، فلابد وأن تحتفظ إسرائيل بالسيطرة على عملية الموافقة والتخطيط لضمان عدم استخدامها مرة أخرى كغطاء لبناء منشآت عسكرية تحت الأرض.
في المرحلة الأولى، ينبغي لإسرائيل أن تعزز التبني السريع لألواح الطاقة الشمسية الكهروضوئية على أسطح المنازل في غزة لتوليد الكهرباء بشكل مستقل عن الشبكة المعطلة. ومن شأن هذه الألواح أن تحل محل وتضاعف الألواح التي دمرت أثناء الحرب. كانت غزة تتمتع بالفعل بقدرات شمسية مثيرة للإعجاب قبل أكتوبر/تشرين الأول 2023، ولكن المنشآت كانت تُبنى في كثير من الأحيان دون أي تدابير أو تنظيمات سلامة لتحسين الكفاءة. ويمكن استكمال هذه المنشآت بالبطاريات وحلول تخزين الطاقة الإضافية التي من شأنها أن تضمن استقرار الشبكة وساعات إضافية من الكهرباء في المساء. ويمكن للشركات الإسرائيلية أن تشارك في بعض هذه المشاريع على الأقل أو تستخدم المنتجات الإسرائيلية كشرط في العطاء للحصول على تمويل أجنبي لجعلها أكثر قبولا للحكومة الإسرائيلية الحالية.
وفي المرحلة الثانية، ينبغي لإسرائيل أن تدفع باتجاه ربط شبكة الكهرباء في غزة بالدول المجاورة حتى تتمكن من الانفصال عنها تدريجيا. وعلى رأس القائمة مصر، التي ترتبط بالفعل بغزة بأربعة خطوط كهرباء. ويمكن إضافة الأردن والمملكة العربية السعودية في وقت لاحق. وقد يؤدي إدراج غزة في مشروع “الربط البحري العظيم”، الذي صُمم لربط شبكة الكهرباء في إسرائيل بشبكة الكهرباء في قبرص عبر خط كهرباء تحت البحر، إلى جعل هذا المشروع الطموح أكثر جاذبية للكيانات الأوروبية لتمويله. وعلى مدى السنوات القليلة المقبلة، ينبغي للسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية أن تكون قادرة أيضا على العمل كمورد للكهرباء إلى غزة بعد البناء المخطط له لعدة محطات طاقة تعمل بالغاز في المنطقة (أ). ومن خلال ربط شبكة الكهرباء في غزة بشبكة الكهرباء في الضفة الغربية، سيتعين على السلطة الفلسطينية أن تتولى المهمة الصعبة المتمثلة في تحصيل المدفوعات من سكان غزة بمفردها، بدلا من المرور عبر إسرائيل.
وفي المرحلة الثالثة، يجب أن تتجه غزة نحو البحر لتلبية احتياجاتها من الطاقة كجزء من مشروع “غاز لغزة”. وسيشمل هذا أولاً تطوير حقل غاز “غزة مارين” قبالة سواحل غزة. ويحتوي الحقل على حوالي 30 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي ويمكنه نظريًا تلبية جميع احتياجات القطاع من الكهرباء لمدة 10 سنوات على الأقل. وقد وافقت الحكومة الإسرائيلية الحالية بالفعل على تطوير حقل غاز غزة في يونيو 2023 ، بقصد أن تقوم شركة طاقة مصرية بتطويره وشراء بعض الغاز لتلبية احتياجاتها الخاصة. ثانيًا، تتطلب هذه الخطوة بناء محطة كهرباء جديدة في قطاع غزة يمكن تشغيلها بالغاز الطبيعي. كانت هذه المحطة بالفعل في المراحل النهائية من الموافقة من قبل إسرائيل قبل اندلاع الحرب، وكان من المخطط بناؤها على مدى السنوات القليلة المقبلة. وستكون المحطة أيضًا قادرة على الاتصال بمصر بخطوط أنابيب الغاز الخاصة بها، وشراء الغاز المصري في نهاية المطاف بمجرد تضاؤل احتياطيات حقل غزة مارين.
إن توليد الكهرباء بشكل مستقل في غزة من شأنه أيضاً أن يساعد في تخفيف مسؤولية إسرائيل عن توفير مياه الشرب للسكان الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية. ومن الممكن توفير احتياجات المياه المنزلية بالكامل بعد بناء منشأتين إضافيتين لتحلية المياه على ساحل غزة. ومن الممكن بعد ذلك ربط هذه المنشآت بالضفة الغربية، الأمر الذي من شأنه أن يوفر المياه للفلسطينيين في المنطقتين دون الحاجة إلى قيام إسرائيل بصيانة البنية الأساسية أو ملاحقة السلطة الفلسطينية بفواتير غير مدفوعة.
وهناك حلول أخرى لتعزيز استقلال غزة في مجال الطاقة، وبعضها أكثر طموحاً من تلك المذكورة أعلاه. وتشمل هذه الحلول إنشاء جزيرة اصطناعية قبالة سواحل غزة لاستقبال وقود الديزل المستورد وغيره من المنتجات عن طريق البحر. وهذا من شأنه أن يسمح لإسرائيل بمراقبة البضائع والموارد التي تدخل غزة قبل وصولها إلى البر الرئيسي. ومن الواضح أن مثل هذه المشاريع تعتمد على ثلاثة عوامل رئيسية: (1) هوية الحكومة في قطاع غزة في السنوات المقبلة، (2) هوية الجهات المانحة الراغبة في تمويل هذه المشاريع، و(3) استعداد إسرائيل للمشاركة في الموافقة عليها وإقامتها.
وسواء أرادت إسرائيل ذلك أم لا، فإن قطاع غزة سوف يعاد بناؤه في نهاية المطاف، وسوف تكون البنية الأساسية للطاقة والمياه هي أول ما يتم إعادة تأهيله. وبوسع إسرائيل أن تختار تجاهل هذا الواقع، ولكن في القيام بذلك فإنها سوف تفتح قطاع الطاقة في غزة أمام قوى أخرى سوف تحدد الشكل الذي سوف يبدو عليه القطاع في المستقبل وإلى أي مدى سوف تظل إسرائيل مسؤولة عن احتياجات الملايين من سكان غزة. وسوف يكون من الأفضل لإسرائيل أن تكون الطرف الذي يبادر إلى وضع خطط طويلة الأجل لإعادة تشكيل البنية الأساسية في غزة على النحو الذي يعود بالنفع على سكان غزة والإسرائيليين على حد سواء لعقود قادمة.