العقيدة القتالية لسرايا القدس

بقلم/ د. وليد القططي

إضافةً إلى الجهاد في سبيل الله لتحرير فلسطين والشهادة على طريق التحرير، تدخل استراتيجية المشاغلة في صلب العقيدة القتالية لـ”سرايا القدس”.

لم يتوقع العدو أن تواصل “سرايا القدس” القتال في معركة “ثأر الأحرار” أكثر من يومين، وأن تمتد المعركة إلى 5 أيام. وإذا كان قد نجح تكتيكياً في اغتيال 6 من قادة “سرايا القدس”، فإنه فشل استراتيجياً في التنبؤ بقدراتها وصلابة مقاتليها.

هذا الفشل نابع من جهل العدو بالعقيدة القتالية لمجاهدي “سرايا القدس” والمقاومة الفلسطينية الوطنية ذات المرجعية الإسلامية. لذلك، كان من المفيد إلقاء الضوء على تلك العقيدة القتالية.

العقيدة القتالية هي نسق فكري ينظم المفاهيم والمبادئ القتالية للجيوش النظامية أو حركات التحرر الوطنية. وفي حالة المقاومة الفلسطينية كحركة تحرر وطني، هي الأفكار الأساسية التي توجه العمل العسكري الفدائي المقاوم، و”سرايا القدس” كجزء مركزي في المقاومة الفلسطينية لديها عقيدة قتالية مستمدة من الفكر الجهادي لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين ببعديها الإسلامي والوطني، وأيضاً هي امتداد للجهاز العسكري للحركة الذي كان يحمل اسم “القوى الإسلامية المجاهدة”، المعروفة اختصاراً بـ”قسم”، قبل أن يحمل اسم “سرايا القدس”. وقد نفذ “قسم” عدداً من العمليات الاستشهادية النوعية، أبرزها عملية بيت ليد المزدوجة، وهذا ينعكس على مصادر العقيدة العسكرية للحركة وذراعها العسكرية.

من أهمّ مصادر العقيدة العسكرية لـ”سرايا القدس” كإطار مرجعي يوجه المجاهدين هو الإسلام كدين استمدت منه النظرية الثورية للحركة، وفي قلبها عقيدة الجهاد في سبيل الله، التي تجعل هدف كل مقاتل النصر أو الشهادة ابتغاء مرضاة الله. ويدخل في صلب عقيدة الجهاد الدفاع عن الوطن وتحريره إذا احتل.

ومن أهم مصادر تلك العقيدة التراث النضالي للشعب الفلسطيني وحركته الوطنية منذ بدء المقاومة ضد الاحتلال البريطاني والمشروع الصهيوني بما يحمله من مخزون ثوري وتراكم كفاحي وقيم وطنية.

والمصدر الثالث هو التراث النضالي العالمي لحركات التحرر الوطنية ضد الاستعمار والاستكبار والظلم، وخصوصاً تلك التي اتبعت استراتيجية حرب العصابات وحرب الشعب المُسلحة طويلة الأمد لاستنزاف العدو ومراكمة الإنجازات والانتصارات، وصولاً إلى النصر النهائي.

عقيدة الجهاد في سبيل الله هي الأساس في العقيدة القتالية التي ينطلق منها المجاهدون، استناداً إلى نص القرآن الكريم: {انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ}، واستناداً إلى نص الحديث النبوي: “جاهِدوا المشرِكينَ بأموالِكُم وأنفسِكُم وألسنتِكُم”.

والجهاد هو أعلى درجة في الإسلام وذروة سنامه بنص الحديث النبوي، والجهاد لتحرير الأرض الإسلامية التي احتلت فرض عين على أهلها وفق مفهوم الواجب فوق الإمكان والواجب الذي يبدع الإمكان وانتصار الدم على السيف، كنوع من رد العدوان والانتصار على البغي واسترداد الحق واستعادة الأرض، وهو ما يُعرف شرعياً بمفهوم “جهاد الدفع” أو “جهاد التحرير”.

جهاد التحرير في فلسطين له أهمية خاصة في العقيدة القتالية لمجاهدي فلسطين، وخصوصاً في “سرايا القدس”، لأن حركة الجهاد الإسلامي تجاوزت الرؤية التقليدية للحركة الإسلامية، فاعتبرتها قضية الأمة المركزية، انطلاقاً من قراءة واعية لموقع فلسطين في القرآن والتاريخ والواقع، فالقتال لتحريرها، إضافةً إلى كونه فريضة دينية وواجباً شرعياً كأرض محتلة، هو جزء مركزي من مشروع نهضة الأمة ضد المشروع الغربي الاستعماري، فقضية فلسطين ترتبط مصيرياً بكلّ قضايا العرب المسلمين، ولن يتحرر العرب والمسلمون من واقع التجزئة والتخلف والتبعية ما لم تتحرر فلسطين، فتغير حال الأمة نحو الأفضل وتحرير فلسطين أمران متكاملان. بهذا الفهم، يذهب مقاتلو “سرايا القدس” إلى القتال كواجب ديني، كما يذهبون إلى الصلاة.

الجهاد في سبيل الله من أجل تحرير فلسطين مرتبط بالشهادة التي تحتلّ موقعاً مركزياً في العقيدة القتالية لمجاهدي “سرايا القدس” وكلّ المجاهدين على الدرب نفسه، انطلاقاً من مفهوم الاختيار الإلهي للشهداء الذين يشهدون بدمهم وأرواحهم أن هدف تحرير فلسطين ونهضة الأمة أغلى من حياتهم تحت الاحتلال والقهر، ومفهوم الاختيار والاصطفاء واضح في قوله تعالى: {وَيَتَخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء}، فالشهادة تكريم من الله تعالى لبعض المجاهدين، يسعى كل واحد منهم للفوز بها تأكيداً لرضا الله عن جهادهم وعنهم.

والجانب الآخر من الشهادة هو نهج “الجهاد الإسلامي” للتغيير والتحرير، فالدم النازف من الشهداء هو وقود التحرير ومحرك الجماهير للثورة ضد الاحتلال في كل محطات الثورة الفلسطينية، فدم شهداء اشتباك الشجاعية ساهم في تفجير انتفاضة الحجارة، ودم الاستشهاديين في تسعينيات القرن العشرين ساهم في تفجير انتفاضة الأقصى، ودم الشهداء في الضفة أشعل فتيل المقاومة المُسلحة فيها… وهكذا حتى التحرير الكامل.

إضافةً إلى الجهاد في سبيل الله لتحرير فلسطين والشهادة على طريق التحرير، تدخل استراتيجية المشاغلة في صلب العقيدة القتالية لـ”سرايا القدس”، انطلاقاً من رؤية حركة الجهاد الإٍسلامي لمشروع تحرير فلسطين، فهو مشروع أكبر من قدرات الحركة الجهادية والمقاومة الفلسطينية والشعب الفلسطيني، نظراً إلى ارتباط الكيان الصهيوني العضوي بالمشروع الاستعماري الغربي ضد الأمة. لذلك، إن مشروع تحرير فلسطين هو مشروع الأمة كلّها، ولا سيما محور المقاومة فيها.

ويبقى دور المجاهدين في فلسطين، وفي طليعتهم “سرايا القدس”، هو إبقاء جذوة الجهاد مشتعلة في فلسطين، وإبقاء فتيل المقاومة مشتعلاً ضد الكيان الصهيوني، ما يعني مواصلة الجهاد واستمرار المقاومة حتى تكتمل شروط النصر الكامل عليه، وهذا ما قاله مؤسّس الحركة المفكر الشهيد فتحي الشقاقي: “سيبقى جهادنا مستمراً، وعملياتنا الاستشهادية مستمرة، حتى تبقى هذه القضية حية، وحتى تنهض كل الأمة تجاه قضيتها المقدسة قضية فلسطين”، وهو ما أكّدته الوثيقة السياسية للحركة بالنص: “استمرار المواجهة مع العدو الصهيوني، واستنزاف طاقاته وقدراته، وزعزعة أمنه واستقراره، لإجباره على الرحيل عن أرضنا، وصولاً إلى التحرير الكامل فلسطين”.

ومن أهمّ مرتكزات العقيدة القتالية لـ”سرايا القدس” كحركة مقاومة وطنية بمرجعية إسلامية هو مفهوم النصر والهزيمة، فلا شكّ في أنّ النّصر النّهائي للشعب الفلسطيني وحركته الوطنية ومقاومته الشعبية هو تحرير كل فلسطين من الاحتلال وإزالة الكيان الصهيوني من الوجود.

وحتى يتحقق هذا النصر النهائي، هناك مفاهيم نسبية وجزئية للنصر على طريق التحرير، يمكن من خلالها مُراكمة نقاط قوة الشعب والمقاومة، ومراكمة نقاط ضعف الكيان و”جيشه”.

ومن هذه المفاهيم: منع العدو من تحقيق أهدافه العسكرية والسياسية، وخصوصاً في المعارك والحروب، وإحباط أهدافه المُعلنة وغير المُعلنة في السياسة والحرب، ورفع تكلفة جرائمه، كالمجازر والاغتيالات والتدمير، لردعه عن تكرارها، وتحويل الاحتلال والاستيطان إلى مشروع باهظ الثمن ومكلف اقتصادياً وبشرياً ومعنوياً، وتعميق مأزق الكيان الصهيوني الأمني والوجودي من خلال المقاومة، وضرب مرتكزات المشروع الصهيوني القائم على ثلاثي الأمن والهجرة والاستيطان، وتحقيق توازن الردع النسبي مع الكيان الصهيوني… هذه المفاهيم الجزئية للنصر في العقيدة القتالية تُساهم في مواصلة القتال حتى النصر النهائي.

وقد انعكست العقيدة القتالية على القتال الميداني من خلال القتال على نقطة صفر، التي قدم فيها مجاهدو “سرايا القدس” نماذج رائعة في العمليات النوعية، على الرغم من قلة الإمكانات ونوعيتها مقارنة بالعدو، والاعتماد على المقاتلين الاستشهاديين في تنفيذ المهام أثناء المعارك، من إطلاق الصواريخ وقذائف الهاون والصواريخ الموجهة تحت أعين العدو وطائراته، وجاهزية المقاتلين للشهادة أثناء المعارك، والقتال حتى الشهادة في كل المواضع التي خُير فيها المجاهدون بين الاستسلام والشهادة، فكان خيار المجاهدين هو المواجهة حتى الطلقة الأخيرة، وهو ما ظهر جلياً في الضفة الغربية وفي غزة وفي كل المواجهات التي فُرض فيها الخيار بالاستسلام أو الشهادة.

ختاماً، يمكن القول إن العقيدة القتالية لمقاتلي “سرايا القدس”، الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، أُقيمت على: عقيدة الجهاد في سبيل الله، ومفهوم الشهادة كاختيار إلهي ونهج للتحرير، وخصوصية فلسطين كأرض مقدسة ومباركة وقضية مركزية للأمة، واستراتيجية المشاغلة على طريق الحرب الفاصلة لتحرير فلسطين، ومفهوم النصر القائم على مراكمة الإنجازات بجانبيها: قوة المقاومة والشعب والأمة، وضعف الكيان وجيشه.