باريس: التظاهرات العارمة ورائحة الإطارات المحترقة تؤرق صفو المدينة

خاص مصدر الإخبارية – أسعد البيروتي

باريس المدينة الهادئة لم تعد كذلك، فرائحة إطارات المركبات المشتعلة تملأ الشوارع، وأصوات الفرنسيين تصدح في كل الميادين، والتظاهرات تعم الشوارع احتجاجًا على فرض الحكومة خطتها برفع سِن التقاعد من 62 إلى 64.

تظاهراتٌ مستمرة وقمع في كل مكان، وقنابل الغاز المُسيل للدموع لم تجد لها مكانًا سوى أن تستقر في قلوب المعتصمين الغاضبين في الميادين والساحات.

باريس التي ظلت طِوال السنوات الماضية تفوح منها رائحة العطور الفواحة، وسط تسكع “الحسناوات” في شوارع الشانزليزيه والتقاط صور “السيلفي” مع قوس النصر باتت تُشعلها التظاهرات ويُقمع فيها المحتجون ويُسحَلُون.

ماذا يجري؟

قدّرت النقابات الفرنسية عدد المشاركين في التظاهرات الخميس الماضي بـ3 ملايين ونصف مليون شخص، بينما اُقتصر العدد على مليون وثمانين ألفاً في اليوم التاسع من التعبئة ضد تعديل نظام التقاعد.

وقررت النقابات اعتبار يوم الثلاثاء موعدًا جديدًا للاحتجاجات في جميع البلاد، رفضًا لخطوة الحكومة فيما يتعلق برفع سن التقاعد في ظل تجاهل التظاهرات العارمة.

وتخلل التظاهرات أعمال عنف حيث ارتدى مئات المحتجين اللون الأسود، وحطّموا واجهات المتاجر، ما أسفر عن إصابة 123 دركياً وشرطياً، بينما تم توقيف 80 شخصاً خلال الاحتجاجات.

باريس

كما خرّب مرتدو الملابس السوداء مطاعم صغيرة ومصارف وواجهات، وألقوا الحجارة وزجاجات حارقة على قوات الأمن، التي استخدمت القنابل المسيّلة للدموع لتفريق المُحتجين.

كما أغلق العمال الغاضبون الطريق المُؤدي إلى إحدى صالات مطار شارل ديغول في باريس، ما أرغم المسافرين إلى الوصول إلى مكان الاحتجاجات سيرًا على الأقدام، كما تعطّلت خدمات القطارات وأُغلقت بعض المدارس.

وتراكمت القمامة في الشوارع، وتعطّل توليد الكهرباء بالتزامن مع تصعيد النقابات الضغط على الحكومة الفرنسية لسحب القانون الذي يمد سِن التقاعد عامين إضافيين.

وبحسب شهود عيان، فقد شُوهدت أعمدة من الدخان تتصاعد من أكوام حُطام محترقة أعاقت حركة المرور في الطريق السريع قرب تولوز جنوب غربي البلاد.

كما أُغلقت عِدة مواقع سياحية في العاصمة باريس أبوابها أمام الزائرين ومنها برج إيفل وقصر فرساي، إلى جانب قوس النصر الواقع عند أعلى جادة الشانزليزيه.

السياح منقسمون بين مُؤيد ومُعارض
انقسم السياح الوافدين إلى مدينة الأضواء بين مُؤيد ومعارض للاحتجاجات العارمة التي باتت تُشكّل واجهة المدينة أمام الزائرين، في ظل الانتشار المكثف لقوات الشرطة وعربات الأمن في الأماكن السياحية.

بدورها أعربت الهولندية يوديت يونكر (67 عاماً) التي قدمت إلى فرنسا برفقة اخوتها ووالدتها للاحتفال بتقاعدها عن أسفها عما يحدث في باريس.

وقالت في تصريحاتٍ لوكالة فرانس برس “نحن بحاجة إلى التغيير، نتقدم في العمر وينبغي دفع معاشات التقاعد”، وأعلنت عن تبنيها المبررات التي أوردتها الحكومة الفرنسية، مضيفةً: “أتفهم موقف حكومتكم”.

ووافقتها الرأي السائحة ميراندا بالت (51 عاماً) بقولها “في هولندا، قاموا أيضًا بتغيير القانون.. وقبلنا به على الفور”.

وأضافت: “سأتقاعد في سن 67 ونصف، بينما الإصلاح الذي لا يحظى بشعبية والذي تم تبنيه مؤخراً في فرنسا يرفع سن التقاعد من 62 إلى 64 عامًا”.

أما المحتجين فكان لهم رأي آخر، ايغور يبلغ من العمر (27 عامًا) وشارك في جميع التجمعات المنظمة أو العفوية المُندلعة منذ شهرين بالقول: “الناس لم تعد تخشى شيئاً”.

فيما أعربت الأوكرانية فيوليتا لوزيوك التي جاءت إلى باريس للاحتفال بعيد ميلادها، عن تفائلها بالقول “سيجد الفرنسيون حلاً وستعود باريس نظيفة وجميلة كما يحبها الناس”.

ويُعبّر الدليل السياحي الإيراني رضا صبوحي (40 عامًا)، عن فخره بالمواطنين الفرنسيين في حين يتم قمع التظاهرات منذ شهور في بلاده.

وأضاف خلال تصريحاتٍ لوكالة فرانس برس للأنباء: أن “هذه الحركة قد تحفز الناس في العالم”.

باريس

الفرنسيون سيتوجهون إلى الاستفتاء المدني

ينوي الفرنسيون التوجه إلى الاستفتاء المدني، ردًا على إقرار القانون المُثير للجدل الذي أصبح أمام المجلس الدستوري الذي يعكف على دراسته بالتفصيل، تبعاً للأحكام الدستورية.

وسيكون أمام الجهات القضائية ثلاثة أمور لا رابع لهما، وهما إما الاقتراح بحذف بعض المواد، أو تبنيه أو رفضه كليًا.

في سياق متصل، قال برنار فيفييه، مدير المعهد العالي للعمل، إن “ما يحصل اليوم في التظاهرات يحمل خطر فقد النقابات السيطرة وهذا من شأنه ترك المجال أمام حركة فرنسا الأبية لاحتلال الميدان”.

وحول الاستفتاء المدني، وهو طلبٌ تقدمت به مجموعة من النواب إلى المجلس الدستوري، فسيكون القانون ساريًا في حال تم تبنيه من قبل المجلس الدستوري إلى حين اكتمال عملية الاستفتاء.

وبحسب فيفييه، فإن “العملية معقدة وتتطلب توقيع 185 نائباً أو عشر عدد الناخبين، مما يعني 4 ملايين و800 ألف ناخب، إلى جانب ضرورة إطلاق العملية قبل تبني النص، ضمن ضوابط زمنية محددة”.

ويرى فيفييه، أن “الحزب الاشتراكي بات تحت جناح أقصى اليسار ميلانشون، لكن الاثنين سيتخاصمان كون أقصى اليسار هو أقرب إلى أقصى اليمين مما هو إلى الحزب الاشتراكي”.

ويُشير إلى أن “اليمين الجمهوري أصبح في حالة تشتت، بعضهم انضم إلى أقصى اليمين أو إلى حزب أوريزون، الذي أسسه رئيس الوزراء السابق إدوار فيليب”.

وتابع: “نحن أمام مشهد سياسي يطغى عليه تفرق اليمين فيما أقصى اليمين يصعد بهدوء ويضاعف مؤيديه دون إحداث ضوضاء، فهو يعكس صورة الحزب الرصين والذي يستحق الاحترام والتقدير”.

وزاد: “يعلو صوت فرنسا المتمردة الذي يُـخفّـف من صدقيته، لكنه في المقابل يُـثبت وجوده على الأرض وفي الفضاء الإعلامي”.

وأكد على أن “التعديل لا يحظى بالشعبية المطلوبة، لكن الميزانية في عجز، وتبلغ مديونية فرنسا 111 % من الناتج المحلي الخام”.

يُذكر أن الحكومة الفرنسية اعتمدت قانون إصلاح نظام التقاعد، استناداً إلى المادة الـ 49.3 من الدستور الفرنسي، التي تسمح بتمرير المشروع من دون تصويت الجمعية الوطنية، ما لم يؤدِّ اقتراح بحجب الثقة عن الحكومة إلى إطاحتها.

اعتقالات بالجُملة
أعلن وزير الداخلية الفرنسي، جيرالد دارمانان، اعتقال 457 شخصا وإصابة 441 شرطيًا، خلال الاضطرابات التي تشهدها البلاد منذ عدة أيام احتجاجًا على قانون إصلاح نظام التقاعد.

وأضاف خلال تصريحاتٍ لوسائل الاعلام: إن “903 حرائق اندلعت في صناديق القمامة ومرافق أخرى بالشوارع، مع استمرار الاحتجاجات في البلاد”.

باريس

زيارةٌ مُؤجلة

في ظل تداعيات الاحتجاجات العارمة التي شهدتها العاصمة الفرنسية باريس، أعلنت الحكومة البريطانية عن تأجيل زيارة الملك تشارلز الثالث إلى فرنسا بناء على طلب الرئيس إيمانويل ماكرون.

وقالت الرئاسة الفرنسية خلال بيانٍ صحافي: إن “قرار التأجيل اُتخذ بشكل مشترك بين لندن وباريس”.

وأشار قصر الإليزيه إلى أن “طلب تأجيل زيارة الملك والملكة القرينة جاء بسبب دعوات التظاهر”.

وكان مقررًا بدء رحلة الملك تشارلز إلى باريس وبوردو الأحد الماضي، لكن فرنسا شهدت بعض أسوأ أعمال العنف الخميس الماضي أعقاب المظاهرات التي انطلقت في شهر يناير/كانون الثاني.

وأرجع قصر باكنغهام تأجيل زيارة الملك إلى توتر الأوضاع في فرنسا.

ولفت إلى أن “صاحبي الجلالة يتطلعان بشدة إلى فرصة زيارة فرنسا في أقرب فرصة تسمح بذلك”.