حرب المدن.. خيار القتال الأمثل في الضفة المحتلة

أقلام – مصدر الإخبارية

حرب المدن.. خيار القتال الأمثل في الضفة المحتلة، بقلم الكاتب الفلسطيني أحمد عبد الرحمن، وفيما يلي نص المقال كاملًا كما وصل موقعنا:

تعتمد “حرب المدن” بشكل كبير على “معنويات” المقاتلين، ومعرفتهم بساحة المعركة، وتمكّنهم من أداء المناورة بالنيران، سواء من وضع الحركة، أو وضع الثبات الذي يجب أن يكون من خلال كمائن آمنة وكاشفة، لكل زوايا ميدان القتال.

مقدمة
ذكرنا في الجزء الأول من هذا المقال، الفوارق الهائلة على مستوى الإمكانيات القتالية والتسليحية، بين قوات العدو الصهيوني من جهة، والمقاتلين والمقاومين الفلسطينيين في مدن الضفة المحتلة من جهة أخرى، هذه الفوارق تصبّ في مصلحة الاحتلال من دون أدنى شك، وتنسحب تأثيراتها على كل نواحي المعركة التي تُخاض هناك، إذ أن التفوّق الإسرائيلي لا يقتصر فقط على القدرات العسكرية، بل يشمل السيطرة على ساحة العمليات، برياً وجوياً واستخباراتياً، وعلى مستوى الخبرات القتالية العالية، التي يملكها جنود القوات الخاصة العاملين في ساحات الضفة المحتلة.

وعندما كان خيار تطوير نوعية السلاح الذي يستخدمه المقاومون شبه مستحيل، نتيجة عوامل ذكرنا بعضها في المقال السابق، فإن التغيير على مستوى “التكتيك القتالي” يصبح الخيار الأكثر قابلية للتنفيذ، بما يتلاءم مع طبيعة الجغرافيا، ومواصفات الأرض، والقدرات المتوفّرة للمقاتلين بغض النظر عن نوعها وحجمها.

كل ما سبق يدفعنا للقول بأن اللجوء إلى أسلوب “حرب المدن”، يمكن أن يكون حلاً مقبولاً لتجاوز آثار الخلل الناتج عن فارق الإمكانيات، والاعتماد عليه، وتطبيقه بشكل صارم وحاسم، يمكن أن يُحدث تغييراً ملحوظاً في نتائج المعركة، ولا سيما أنها باتت تُخاض بشكل شبه يومي، ولا تكاد عمليات الاقتحام للمدن الفلسطينية، التي ترافقها حملات اعتقال أحياناً، وتصفية واغتيال أحياناً أخرى، تتوقّف للحظة واحدة.

“حرب المدن”.. تعريف عام
حرب المدن، أو “حرب الشوارع” كما يسمّيها البعض، تُعتبر من أصعب العمليات القتالية، التي يمكن أن تواجه القوات العسكرية المنظّمة والمدرّبة على غرار الجيوش، وصعوبتها تلك تأتي نتيجة تعقيدات كثيرة تكون حاضرة في “مسرح العمليات”، إذ يُخاض القتال داخل المدن، بما فيها من مبانٍ، وشوارع، وأزقة، وسكّان، وهذا ما يسمح في كثير من الأحيان، بأن تتمكّن مجموعات مقاتلة صغيرة، تملك تدريباً مناسباً، وتمتاز بالصبر والهدوء، من هزيمة أعتى الجيوش، المجهّزة بأحدث المعدات.

وتعتمد “حرب المدن” بشكل كبير على “معنويات” المقاتلين، ومعرفتهم بساحة المعركة، وتمكّنهم من أداء المناورة بالنيران، سواء من وضع الحركة، أو وضع الثبات الذي يجب أن يكون من خلال كمائن آمنة وكاشفة، لكل زوايا ميدان القتال. وهذا الأمر تحديداً يجعل من العدو المهاجِم هدفاً متاحاً، وإمكانية إصابته ولا سيّما أثناء تحرّكه الميداني تكون عالية، خصوصاً إذا توافرت لدى المدافعين أسلحة وقدرات تتعلّق بالقنص، سواء ضد القوات الراجلة، أو ضد الآليات في حال توافر أسلحة مضادة للدروع.

ومن أسباب خطورة “حرب المدن” أيضاً، صعوبة تأمين خطوط الدعم والإمداد بالمؤن والذخائر للقوات المهاجِمة، وكثرة العوائق والسواتر، سواء الترابية، أو الخرسانية والحديدية، وصعوبة تأمين نقاط المراقبة لرصد القوات “المعادية”، وصعوبة التنسيق بين القوات، وضعف الإشراف القيادي على ميادين العمليات.

كلّ ما تقدم، وغيره الكثير مما لا يتسع المجال لذكره، جعل المخططين العسكريين يصفون المعارك في المدن بـ “الكابوس المرعب”، الذي يتوجّب على القادة والجنود أن يتحاشوه قدر الإمكان، وهم يوصون في أغلب الأحيان بشن حملة قصف مكثفة سواء بالمدفعية أو بالطائرات على المدن المستهدفة، لتدميرها كلياً أو جزئياً، قبل السماح للقوات بدخولها. كما يوصون بإيجاد وحدات عسكرية عالية التدريب، تستطيع مواجهة أنواع العمليات القتالية داخل المدن كافة، ويفضلون أن تتدرّب القوات على نماذج مشابهة لشوارع ومرافق المدينة المستهدفة قبل دخولها، والتي يُطلق عليها “مسرح العمليات”.

مسرح العمليات
بالعودة إلى موضوعنا الأساسي الذي يتعلّق أساساً بالضفة الغربية المحتلة، وما يُخاض على أرضها، من عمليات عسكرية ذات نسق سريع ومرتفع في معظم الأحيان، من المهم أن يحاول المقاتلون الاستفادة من “مسرح العمليات”، أي الجغرافيا التي تتم عليها العمليات القتالية، وهذه الجزئية تحديداً تُعتبر إحدى أهم عوامل تحقيق النصر، إذا تم استثمارها بشكل مناسب، يوائم حجم الإمكانيات التسليحية المتوفرة لدى المقاتلين.

إذ أن خُلاصة “التكتيك القتالي”، تكمن في كيفية الموائمة بين المقاتل، والأرض، والأدوات، وهذا ما يحتّم على كل قائد، أو مقاتل، أن يكون ملمّاً بالأساسيات الأربعة التالية وهي:” المهمة، الأرض، العدو، الذات”، ليتمكّن من تنفيذ مهامه القتالية بنجاح، وبسرعة مناسبة، وبأقل قدر من الخسائر.

لذلك من المهم جداً، أن يكون للمقاتلين اطلاع جيد، ودراية مسبّقة بساحة أو “مسرح العمليات”، لأنه بناء على هذا الاطلاع، يتم وضع الخطط القتالية، واختيار الأدوات المناسبة للقتال فيها.

كذلك وهو الأهم، تحديد نوعية خاصة من المقاتلين، التي يمكن أن تنفّذ الأدوار المطلوبة منها بكفاءة، ومهنية، واحترافية. إذ أن قدرات المقاتلين تتفاوت من شخص إلى آخر، وإمكانية استغلالهم للجغرافيا، والتضاريس، ليست بالمستوى نفسه. ومن المهم الإشارة هنا أيضاً، إلى أن مدن الضفة ومخيماتها، تتمتع بمواصفات “طبوغرافية” تساعد بشكل كبير على خوض معارك “حرب المدن”، بشكل فعّال، وهي تسمح للمقاتلين بالوصول إلى نقاط وتموضعات قريبة جداً من قوات العدو، وهذا ما يوفر لهم رؤية جيدة تساعد في تنفيذ المهام بأفضل طريقة ممكنة.

الدفاع الإيجابي عن المدن
بما أن عمل المقاتلين في الضفة دفاعي، أكثر منه هجومي في معظم الأوقات، إذ يتصدّون من خلاله للاقتحامات المتتالية للقوات الصهيونية، التي تهاجم عمق المدن والمخيمات، وتصل في كثير من الأحيان إلى مناطقها الداخلية والمحورية، يجب على المقاتلين اتخاذ العديد من الخطوات “الدفاعية”، التي تمكّنهم من تنفيذ عملية الدفاع بشكل إيجابي وفعّال، يساهم في إيقاع أكبر عدد ممكن من الخسائر في صفوف العدو.

وهو الأمر الذي يساعد في إفشال مخططاته، وإحباط قواته، وسقوط العديد من خياراته التكتيكية والعملياتية، مع الأخذ بعين الاعتبار ضرورة وجود قيادة خبيرة وعليمة، تشرف على تلك الخطوات، وتتابع مراحل تنفيذها على الأرض، بما يؤدي إلى تحقيقها لأكبر فائدة ممكنة. ومن هذه الإجراءات الدفاعية التي يمكن اللجوء إليها ما يلي:

– توزيع المقاتلين المدربين والمسلحين إلى مجموعات قتالية، تملك إمكانيات تسليحية مناسبة، ولديها خبرة ودراية في إعداد الكمائن، ومعرفة تامة بتفاصيل المناطق التي توجد فيها، وهذا الأمر تحديداً يجب أن يتم من خلال قيادة موحّدة في الميدان، على غرار غرف العمليات، خصوصاً في ظل وجود أكثر من فصيل يقاتل على الأرض، وهذا الأمر في حال عدم حصوله، يمكن أن يُحدث إرباكاً وخللاً تكتيكياً، في صفوف القوات المدافِعة.

– إغلاق المداخل الرئيسية للمنطقة المستهدفة بالسواتر بغض النظر عن نوعها، سواء الترابية، أو الخرسانية، أو الحديدية، أو أي شيء يمكن الحصول عليه من البيئة المحيطة بتلك المناطق، مع الأخذ بعين الاعتبار تعزيز تلك السواتر حول المناطق الأكثر أهمية، مثل المباني التي يمكن أن تُستخدم كنقاط مراقبة، أو رماية، أو مراكز للقيادة والسيطرة.

وهنا يجب أن نلفت نظر المقاتلين إلى ضرورة تأمين مخارج آمنة للمباني والمناطق التي يتم القتال من داخلها، وهذا الأمر ممكن من خلال حفر الخنادق أو الأنفاق، التي تساعد في انسحاب آمن في حال تعرّض المنطقة أو المبنى لحصار من قوات العدو، مع ضرورة تفخيخ أو تلغيم ممرات الانسحاب، ولو بعبوات بدائية، لتأخير دخول العدو إليها بعد انسحاب المقاتلين منها.

– عند قيام المقاتلين بتنفيذ تحرّك تكتيكي نحو قوات العدو، عبر الشوارع والممرات، يجب التقيّد بضوابط أمنية خاصة وصارمة، من بينها الاختفاء عن منظور قناصة العدو بشكل كامل، وعدم التحرك في شوارع مفتوحة تسمح لطيران الاستطلاع من تحديد الأماكن والتموضعات، وهذا الأمر يتطلّب من المقاتلين إتقان أفضل أساليب ووسائل التخفي، مع إمكانية استخدام عوامل مساعدة، كإشعال الإطارات المطاطية، وتفجير القنابل الدخانية، وارتداء الملابس المموّهة والقاتمة ولا سيما في الفترة الليلية.

– يجب على المقاتلين الذين ينفذون عمليات هجوم معاكس، ضمن الخطة الدفاعية، الاستفادة من الأزقة والعوارض، والرمي من خلف زوايا المباني غير المكشوفة، وسرعة الحركة وتجنّب التوقّف في الشوارع، إضافة إلى امتلاكهم مهارات تسلّق الجدران والحواجز، والقفز عبر الثغرات التي يتم فتحها بين المباني القريبة، وهذا يحتاج مقاتلين يملكون مرونة وقوة بنيان، ولا يعانون من إصابات عضلية أو إعاقات جسدية.

– يجب على المقاتلين تجنّب القتال الانفرادي مع قوات العدو، حتى لو اعتقدوا أن هناك فرصة متاحة لذلك، فالعمل ضمن جماعة بغض النظر عن عددها أفضل، ويمكن أن يحقق نتائج مهمة ومؤثرة، مع ضرورة الترشيد قدر الإمكان في استخدام المؤن والذخائر، خشية أن تطول المدة الزمنية التي تستغرقها المعركة.

خصائص القتال داخل “المناطق العمرانية”
بما أنّ معظم المواجهات العسكرية تتم داخل مدن ومخيمات، تحتوي على عدد كبير من المباني السكانية والمنشآت التجارية، يجب على المقاتلين استغلال هذا الوضع للتأثير على زخم هجوم العدو، والتشويش عليه، أو على أقل تقدير الحد من مبدأ الحركية القتالية لديه، وحصره في مناطق معينة، إضافة إلى استغلالهم “للكتل الخرسانية” لصالحهم، وتحويلها إلى ما يطلق عليه “موانع اصطناعية “، تساهم في تطوير عملياتهم، وتحد من قدرة العدو على تحقيق أهدافه. وهناك جملة من الخصائص، التي تساعد على القيام بدفاع ناجح داخل المناطق السكانية أو العمرانية، يمكن أن نشير إلى جزء منها:

1-التجهيز
تحتوي المناطق السكانية على عدة مكوّنات تمكّن المدافع من تحسين أدائه القتالي، وتمنحه مزايا تكتيكية تساعده في تنفيذ المهام الموكلة إليه على أحسن وجه، ومنها الحماية التي توفّرها المباني، والتي تحجب أماكن وجود المقاتلين عن عين العدو، والحواجز أو العوائق والتي تعرقل أو توقف تقدّم القوات المهاجِمة، ولا سيما إذا كانت تتحرك من خلال آليات، كما هو الحال في مدن الضفة، إضافة إلى التمويه الذي يحرم العدو من خاصية تحديد الأهداف.

وهذا الأمر تحديداً بحاجة إلى استخدام وسائل تقنية، إلى جانب الحرص على الكتمان والاختفاء الكامل. وبالتالي فإن التضاريس السكنية باستطاعتها أن توفّر أماكن دفاعية مهمة للغاية، في حال تم استغلالها بالشكل الأمثل، وهو ما يمكن أن يحوّلها إلى مناطق منيعة يصعب على الأعداء اختراقها.

2-التأمين
المناطق السكانية يمكن أن تكون ميزة أو عيباً في تأمين القوات المدافعة عنها، وهذا يعتمد بقدر كبير على البيئة السكانية الموجودة فيها، والتي يمكن أن تكون عاملاً حاسماً في نجاح أو فشل خطة الدفاع، ، إذ أنه من المهم للغاية أن يكون السكان من أنصار المقاتلين، ويشكّلون حاضنة شعبية لهم، تقدّم لهم الدعم والإسناد المادي والمعنوي، وصولاً إلى إمدادهم بالمعلومات اللازمة في حال حصولهم عليها.

وهذا الأمر في حال حصوله سيشكّل عنصراً داعماً ومسانداً للقوات المدافعة. ولا يختلف اثنان على أن المواطنين الفلسطينيين في الضفة المحتلة، باتوا يشكّلون رافداً مهماً وحيوياً لفصائل المقاومة، ويقدّمون ما باستطاعتهم لدعم المقاتلين في التصدّي لاعتداءات الاحتلال، وهذا الأمر يمكن أن تكون له فوائد عديدة، ومزايا مهمة، تصبّ في صالح نجاح خطة الدفاع عن المدن.

إضافة إلى العامل السابق هناك أهمية كبيرة للطبيعة المادية للمناطق السكانية، بعيداً عن تأثير العنصر البشري، وهذا الأمر قد يساعد في تأمين القوات المدافعة، وتحسّن القدرة النارية لها انطلاقاً من مراكز المراقبة والاستطلاع.

3-التعطيل:
تمنح البيئة السكانية المدافِعين مزايا تساعد في تعطيل، وعرقلة القوات المهاجمة، وذلك من خلال التقسيم العمراني، والتشويش على قدرة قوات العدو على استخدام خيار القيادة والسيطرة، وتسهيل الهجمات المعاكسة، وضمان نسبة نجاح عالية لها. إضافة إلى ذلك فإن الأبعاد المادية للبيئة السكانية، تُجبر المهاجم على اتباع طرق تجعل الدعم المتبادل بين قواته مهمة صعبة، وهذه الصعوبة تنسحب أيضاً على تحويل ونقل جزء من الموارد القتالية، من مكان إلى آخر داخل المنطقة نفسها، إضافة إلى تأثير المناطق السكانية على فعالية “الاتصالات التكتيكية” للقوات المهاجمة، وهو الأمر الذي يصعّب على تلك القوات القيام بخطوات متزامنة ومتناسقة.

4-الحشد:
المناطق السكانية تمكّن المدافع من حماية الأماكن التي يستهدفها العدو، والتي يمكن أن تكون في بعض الأحيان مراكز حسّاسة، أو مؤسسات، أو منازل يوجد فيها مقاومون ومطلوبون، إذ تحد التضاريس التقليدية من خيارات المهاجِم لتفعيل تكتيكات المناورة، وتمكّن المدافعين من وضع مقاتليهم في مواقع محمية، يدعم بعضها بعضاً، بحيث توجّه جهدها الأساسي باتجاه مناطق الاشتباك.

وهذا الأمر تحديداً يسمح لعدد قليل نسبياً من المدافعين، الذين يقاتلون من خلال تمركز جيد، من توليد قدرة قتالية عالية وذات تأثير فعّال. ومن المهم هنا أن نذكّر بأن معرفة التضاريس المعقّدة للمدن على مستوى الهيكلية العمرانية، يمكّن المدافعين من تخطيط مناطق اشتباك لتعظيم وزيادة فعالية العمليات القتالية التي ينفّذونها.

أنواع الدفاع عن “المناطق السكنية”
يمكن لنا أن نلحظ وجود نوعين أساسيين للمهام الدفاعية عن المدن، والمناطق السكانية الموجودة فيها، النوع الأول هو عبارة عن تنفيذ ما يمكن أن نسمّيه “مهمة دفاعية كبيرة”، كالدفاع عن دولة كاملة، مع وجود بقعة سكانية داخل منطقة عمليات هذه المهمة، والنوع الثاني هو عملية دفاعية تتضمّن الدفاع عن المدينة أو المنطقة السكانية فقط، وهذا النوع أقرب لما يجري داخل مدن الضفة الغربية المحتلة، إذ أن العمليات التي تتم حالياً هناك، تستهدف مدناً ومخيمات بعينها، بعيداً عن باقي الجغرافيا الفلسطينية المحيطة، حيث يتم حصر منطقة العمليات في مساحة صغيرة نسبياً، لتسهيل مهمة مهاجمتها، وحصارها، وفي بعض الأحيان احتلالها.

وسنشير فيما يلي إلى النوع الثاني فقط، وهو الدفاع عن المنطقة، والذي يشبه إلى حد كبير ما يحدث في مدن الضفة كما أشرنا آنفاً. فالدفاع عن المنطقة هو الأكثر شيوعاً في المناطق السكنية، والأنسب لمكوّنات هذه البيئة المعقّدة، وهذه العملية تهدف في الأساس إلى منع القوات المهاجِمة من الوصول إلى أماكن معينة، تريد استهدافها، كمراكز القيادة، أو القادة أنفسهم، سواء كانوا في بيوت أو منشآت، والمنع المشار إليه أعلاه يمكن أن يكون لفترة زمنية محدودة، تسمح بإخلاء إمكانيات معينة، أو انسحاب الشخص المطلوب إلى أماكن آمنة.

وعلى الرغم من أن عمليات الدفاع عن منطقة داخل المدن السكنية، لا تسعى إلى تدمير القوات المهاجمة بطريقة مباشرة أو هزيمتها بشكل حاسم، إلا أن من أهم أهدافها السعي إلى تكبيده خسائر فادحة، واستنزاف موارده القتالية، وإنهاك قواته بشكل يسمح بتنفيذ هجمات معاكسة ضدها في مرحلة لاحقة.

وهنا يجب الإشارة إلى أنه باستطاعة المقاتلين تنفيذ ما يُعرف بـ “الدفاع المتحرك”، ولكن في ظل توافر ظروف معينة، وإحدى أهداف هذا الدفاع هو تدمير وهزيمة القوة المهاجِمة والقضاء عليها، وهو ما يمكن أن يترك تأثيراً معنوياً هائلاً على جنود العدو، يمكن أن يؤسس لانهيار بنيوي يشمل كامل بنود الخطة المراد تنفيذها.

ولكن هذا الدفاع يحتاج إلى توافر شروط معينة لدى المدافِع، من أهمها امتلاكه لقدرة حركية أكبر من المهاجم، وهذا الأمر يحتاج منه أن يستخدم التضاريس بفعالية عالية، وأن ينظّم قواته المتحركة بشكل صحيح، وفق معطيين أساسيين، وهما وجود قوة محدودة مدافعة توقف الهجوم، وتحد من قدرة العدو على المناورة، ووجود قوة هجومية تناور بسرعة، وتهاجم تمركزات العدو وتدمّرها، أو على أقل تقدير توقع فيها خسائر فادحة.

وهناك مفتاح أساسي لتنفيذ “الدفاع المتحرك” بنجاح، وهو إغراء القوة المهاجِمة بالتوغّل إلى أعماق المناطق السكنية، حيث تبدأ بشكل تدريجي في فقدان قدرتها الحركية، وصولاً إلى إيقافها عن الحركة نهائياً، من خلال قوة دفاعية متمركزة بشكل جيد، تستعين بالعوائق التكتيكية، والتضاريس الطبيعية، والموانع الاصطناعية، وهذا الأمر متاح أكثر إذا كانت القوة المهاجِمة محمولة عبر آليات ومدرعات، إذ ستفقد قدرتها على الحركة أكثر مما لو كانت قوة مشاة فقط.

الخاتمة:
كل ما سبق من أوصاف للعمليات الدفاعية داخل المدن، والمناطق العمرانية أو السكانية، والذي هو جزء أساسي من مصطلح أكبر يسمّى “حرب المدن”، وبناء على تقييم موضوعي ومهني للأوضاع في الضفة الغربية المحتلة، وقراءة لما تملكه من جغرافيا مؤثرة، وبيئة حاضنة، ورأي عام محلي وإقليمي داعم، وإمكانيات تسليحية قادرة على تحقيق المطلوب، رغم تواضعها أمام ما يملكه العدو، يمكن لنا أن نخرج بخلاصة مهمة، بعيدة عن الأسقف المرتفعة، أو التهييج الإعلامي، أو العاطفة التي تستثني الوقائع الميدانية.

هذه الخلاصة تفيد بأنّ الانتقال من خيار أو تكتيك خوض المعركة التي هي أقرب إلى الحرب المفتوحة، التي تعتمد بشكل أكثر على حماسة المقاتلين، وروحهم المعنوية العالية، ورغبتهم في إيقاف التغوّل الصهيوني ضد أبناء شعبهم، إلى خيار “حرب الشوارع”، أو حرب المدن”، سيكون له تأثير كبير ونوعي لناحية استنزاف قدرات العدو، وكسر روحه المعنوية، وإفقاده جزءاً مهماً من قدراته القتالية، ورفع مستوى الكلفة التي يدفعها من جراء عدوانه المستمر والمتواصل.

مع الإشارة هنا إلى أننا تعمّدنا عدم التفصيل في بعض الأمور العسكرية التي يمكن أن تفيد العدو، ولا سيما لناحية بعض القدرات القتالية للمقاومين على تواضعها، أو الوسائل المستخدمة حالياً للتصدّي للاقتحامات والاجتياحات، والتي من دون أدنى شك، نجحت بشكل أو بآخر في تغيير البيئة التي كانت سائدة قبل عامين تحديداً، والتي كانت تسمح للعدو بالتوغل في كل المدن والمخيمات الفلسطينية، من دون أن تُطلق عليه رصاصة واحدة، أو يسقط له قتيل أو جريح.

هذا الحال تغيّر كثيراً بفعل الكتائب المقاتلة في الضفة المحتلة، والتي كان لكتيبة جنين السبق فيها، ولكننا ومن باب البحث عن الأفضل، وتطوير “ديناميكيات” العمل المقاوم، نرى أن تبديل أو تغيير بعض الخيارات التكتيكة، سيكون له مردود مهم، على الصعد والمستويات كافة.

أقرأ أيضًا: المقاومة المسلحة في الضفة وإمكانية استخدام أسلوب حرب المدن