محافظة جنين

سِر جنين ومخيمها

بقلم: عوض أبو دقة

“سلَّم نفسك يا عصام. لا مجال للمقاومة، المنطقة كلها محاصرة”، كان ذلك نداءُ قائد القوة الإسرائيلية، التي اقتحمت بلدة عنزة، قضاء جنين، مساء يوم العاشر من كانون الأول/ ديسمبر، من العام 1992، في محاولةٍ لدفع المطارد عصام براهمة، من حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، على تسليم نفسه.

لم يُعر البطل براهمة، هذا النداء أذاناً صاغية، وقرر خوضَ المواجهة، التي قُتِل في بدايتها الضابطُ الإسرائيلي ساسان مردخاي، واستمر الاشتباك قرابة ساعتين، قبل أن تُقرر القوة الإسرائيلية المُقتحمة، إحراق المنزل، لدفع عصام على تسليم نفسه، أو أن يموت داخله. وفعلاً توقف إطلاق الرصاص من داخل المنزل، وظنَّ العدو أن عصام قد مات حرقاً من شدة لهب النيران، أو اختناقاً من سحب الدخان الكثيف.

بعد ساعات من اشتعال النيران داخل المنزل، استدعى المحتل سيارات إطفائية، كي تُخمِد النيران، ويقوموا على إثرها باقتحام المنزل بحثاً عن بقايا جثمان عصام، لكنهم فوجئوا مرة أخرى برصاصه يُوقع ضباطهم وجنودهم بين قتيل وجريح، ليتراجعوا أمامه، ويقرروا قصف المنزل بالصواريخ. عندئذ سكت رصاص البطل. بعدها حضرت جرافتان من الحجم الضخم، وبدأتا بجرف حطام المنزل، ليتأكدوا أنهم انتهوا من أمر عصام، بعد ست ساعات، من الاشتباك.

حكاية البطل عصام، يعرف تفاصيلها الدقيقة أهالي محافظة جنين، وهي حتى اليوم تُحكى في مجالسهم، رغم مرور ما يزيد عن 30 عاماً على وقوعها.

وهذه الحكاية كانت عاملاً استقطابياً هاماً لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، في سائر أرجاء محافظة جنين، لتُقدم لاحقاً وتحديداً خلال انتفاضة الأقصى، التي اندلعت نهاية شهر أيلول/ سبتمبر عام 2000، نماذج كبيرة لا تقل بطولةً وتضحيةً عن عصام براهمة.

وعندما نتحدث عن جنين، ومخيمها، نستذكر فيها قاماتٍ كبيرة، غدت رموزاً للعمل المقاوم، وارتقت في معارك الكرامة والإقدام مُقبلةً غير مدبرة من أمثال: محمود طوالبة، الشيخ حمزة أبو الرب، أبو جندل، إياد صوالحة، خالد زكارنة.. والقائمة تطول، وتطول.

وكل اسم من هذه الأسماء غرس نفسه بعمق في عقول أبناء جنين، ومخيمها، ليتفاعل كل بيت فيها مع الأحداث، ويكون فيه إما شهيد أو جريح أو أسير.

لقد حفظ أبناء جنين ومخيمها، وصايا الشهداء، وحكاياتهم جيداً، وهذا هو سرُ اشتعال ثورتهم، وتجدد مواجهتهم حتى اللحظة. فمنذ ثورة القسام في أحراش يعبد عام 1936، مروراً باشتباك البطل عصام براهمة، في بلدة عنزة، وبعدها معركة مخيم جنين، عام 2002، بقيادة القائد البطل محمود طوالبة، وما تلاها من معارك ومواجهات، وصولاً إلى الأحداث الأخيرة، لم يُدرك المحتل الإسرائيلي أن المقاومة التي يحاول وأدها، واقتلاعها، وكبحها في جنين، تنمو وتتصاعد على وقع مجازره وتصعيد عدوانه.

إن جينات المقاومة والمواجهة مجبولةٌ في تكوين كل فلسطيني، وهي تتجلى بالأخص في أهالي جنين ومخيمها، وبالتالي فإن تفاعل هذه الجينات يحدث في لحظات. وهنا أريد القول بأن العدو واهم إذا كان يظن أن سياسة الاغتيالات ستوقف مَدَّ المقاومة في جنين، بل على العكس تماماً، فمع ارتقاء كل مقاوم يتدافع المئات لحمل سلاحه، ومواصلة طريقه.

كما أن العدو واهم، إذا كان يعتقد أن محاولاته المحمومة لضرب واستئصال “كتيبة جنين”، التابعة لسرايا القدس، الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، من خلال الاجتياحات اليومية، وقيامه بالاغتيالات والاعتقالات في صفوف قياداتها ومقاتليها، ستُفلح، فالكتيبةُ ببساطة تتمتع بحاضنة شعبية واسعة ومتينة، علاوةً على أنها تعمل بتركيبة أو لنَقل بمنهجية قيادية، حيّرت أجهزة استخبارات العدو، ولا ننسى هنا أنها انطلقت في الظل لأشهر قبل أن تُعلن عن نفسها بعد عملية “انتزاع الحرية” من سجن جلبوع، والحركة تُدرك أن عمل الكتيبة سيكون محفوفاً بالمخاطر، لكون ساحة الضفة محتلة، هذا عدا عن كون الكتيبة تُحيِّد الحزبية جانباً في عملها، فهي تفتح ذراعيها لأي مقاوم حر، وتدعمه بما يحتاج كي يضرب العدو، هذا عدا عن كونها تتمتع بعلاقات طيبة وواسعة مع جميع القوى والفعاليات الشعبية.

ويعي المقاتلون في “كتيبة جنين” جيداً أنهم مشاريع شهادة -فهم من نسلٍ قدَّم ولازال يُقدم تضحياتٍ كبيرة منذ ثورة الشهيد عز الدين القسام ورفيقه الشيخ فرحان السعدي، مروراً بمحطة ارتقاء الشهيد الأول على أرض مخيم جنين، الذي تأسس في العام 1953، وهو البطل عبد الله نبهان، وذلك في العام 1967، وحتى معركة المخيم عام 2002، وما تلاها من معاركَ ومواجهاتٍ لا نستطيع حصرها، ولازالت متواصلةً حتى هذه اللحظات المباركة- لذلك نراهم يتبعون كافة تدابير الأمن والسلامة، وفي النهاية يقررون خوض المواجهة والاشتباك حتى آخر رصاصة، كي لا يُمكنوا العدو منهم، ولسان حالهم يقول :”وعَجلتُ إليك ربي لترضى”.

Exit mobile version