أجهزة الاستخبارات

أجهزة الاستخبارات في “إسرائيل”.. ما بين الوهم والأسطورة (2/2)

مقال- أحمد عبدالرحمن

تحظى “أجهزة الاستخبارات” في كل دول العالم بمكانة خاصة داخل دوائر صنع القرار، يكاد لا ينافسها فيها أحد. وهي تتمتع بسلطات نافذة، وبتأثيرات حاسمة، وتحصل في معظم الأحيان على حصة الأسد من موازنات الدول وإمكاناتها التشغيلية. وهذا الاهتمام الفائق بتلك الأجهزة لا يأتي من فراغ، بل بسبب دورها المهم والمحوري في حماية أمن الدول، والمحافظة على مصالحها، بالإضافة إلى مساهمتها في عمليات التخطيط، لإدارة الأعمال العسكرية والسياسية والاقتصادية وتنظيمها، ولا سيما في أوقات الحروب والأزمات. وفي أحيان كثيرة تكون الاستخبارات ركناً أساسياً في صناعة القرارات الحاسمة والمفصلية في تاريخ الدول.

تُعَدّ “إسرائيل” من أكثر الدول التي تُولي أجهزة الاستخبارات التابعة لها عناية خاصة، وخصوصاً أنها تعيش في أزمات متتالية، وتخوض حروباً ونزاعات، في أكثر من صعيد، وهي تشعر على الدوام بأنها مهدَّدة في أمنها واستقرارها، وربما أكثر من ذلك في وجودها. وهذا الاهتمام مكّن أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية من التفوّق على كثير من مثيلاتها حول العالم، وتحديداً في منطقة الشرق الأوسط، التي تُعَدّ من أكثر الساحات اشتعالاً على صعيد الحرب الاستخبارية.

لكن، في الأعوام الأخيرة، طرأ تغيّر نوعي وملحوظ، فيما يتعلق بعمل أجهزة استخبارات بعض الدول والجماعات في المنطقة، ولا سيما تلك المناهضة للمشروع الإسرائيلي، والتي باتت تواجهه بكفاءة عالية في الساحة التي كانت تُعَدّ ملكاً حصرياً له، وأصبحنا نرى ونسمع نجاحات كبيرة تحققها أجهزة استخبارات تلك الدول والجماعات، وهو ما يعني بالضرورة مزيداً من الإخفاق والفشل لأجهزة استخبارات العدو.

ونحن، بدورنا، سنشير بشيء من التفصيل إلى المنظومة الاستخبارية في الكيان الصهيوني، ليس من أجل ترويجها طبعاً، وإنما من أجل معرفة أساليبها وأدواتها، وأخذ الاحتياطات اللازمة لمواجهتها، والتصدّي لها، كلّ بحسب إمكاناته وقدراته، وحدود مسؤولياته.

أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية

أولاً، النشأة والتأسيس: حرصت “الجماعات اليهودية”، في نهاية القرن الثامن عشر، على إنشاء أجهزة استخبارات قوية، بعد الارتفاع الملحوظ في نسبة قدوم المهاجرين الصهاينة إلى أرض فلسطين، بحيث تم الاعتماد منذ ذلك الحين، حتى عام 1948، على منظمتين استخباريتّين رئيستين.

كانت الأولى تحت مسمى “الشعبة السياسية للوكالة اليهودية”، وعُنيت بمتابعة علاقات الفلسطينيين بالبلدان المجاورة ومراقبتها، وحجم العلاقات بين الدول العربية والدول العظمى حول العالم، بالإضافة إلى التطورات الداخلية في الدول العربية، والتي يمكن أن يكون لها انعكاسات على الأوضاع في الأراضي الفلسطينية في ذلك الوقت.

أمّا المنظمة الثانية، والتي عُرفت باسم “هيئة المعلومات لمنظمة الهاغاناه العسكرية”، وشكّلت فيما بعدُ النواة الأولى لجيش الاحتلال الصهيوني، فركّزت نشاطها على الجبهة الداخلية، والمواطنين الفلسطينيين، بالإضافة إلى جنود الجيش البريطاني. وعملت على تجنيد متطوعين ومتعاونين، من أجل القيام بمهمّات جمع المعلومات، التي ساعدت على ترسيخ قواعد المشروع الصهيوني في الأراضي الفلسطينية.

ثانياً، التطوير والتحديث: في أثناء حرب عام 1948، ولمواكبة كثير من المتغيّرات التي طرأت نتيجة توسع المواجهة وانتقالها إلى بُعد إقليمي، تم تشكيل عدد من الأجسام الجديدة داخل المنظومة الاستخبارية الإسرائيلية، بحيث حلّت مكان الجهازين القديمين المشار إليهما آنفاً. أحد هذه الأجسام كان يُسمى “خدمات الاستخبارات في الجيش الإسرائيلي”، وتحوّل في العام التالي إلى ما أُطلق عليه “شعبة الاستخبارات العسكرية”، وهو ما بات يُعرف الآن باسم جهاز الاستخبارات العسكرية “أمان “.

أمّا الجسم الثاني فهو “القسم السياسي للعمل الاستخباري في الخارج”، والذي يُعَدّ الآن أحد أشهر أجهزة الاستخبارات على مستوى العالم، وهو جهاز “الموساد”.

جسم ثالث تم استحداثه في تلك الفترة، هو “قسم خدمة المعلومات الداخلية”، والذي كان يُعنى بمعالجة شؤون الأمن الداخلي، ومواجهة الأخطار والمصاعب، داخل المناطق التي كانت تسيطر عليها العصابات الصهيونية، وتحوّل هذا القسم فيما بعد إلى “جهاز الأمن العام”، المعروف اختصاراً بـ”الشاباك”.

ثالثاً، الشكل الحالي لأجهزة “الاستخبارات الإسرائيلية”: تملك “إسرائيل” عدداً من أجهزة الاستخبارات التي تتمتع بقدرات وإمكانات كبيرة، والتي، على رغم تعرّضها لكثير من الإخفاقات، ولا سيما في الأعوام الأخيرة، فإنها تبقى جزءاً أساسياً من منظومة اتخاذ القرار في الكيان الصهيوني، وصاحبة اليد الطولى في تحديد شكل السياسات الإسرائيلية، تجاه عدد من الملفات الداخلية والخارجية.

اقرأ أيضاً: “حرب الاستخبارات” تستعر في الإقليم.. شبكات تُفكّك وأذرع تُقطَع (1/2)

1- جهاز الأمن العام “الشاباك”:

يُنظر إلى جهاز “الشاباك ” على أنه واحد من أكثر أجهزة الاستخبارات حضوراً وتأثيراً، على مستوى عملية صنع القرار في الكيان الصهيوني، سياسياً وعسكرياً، بحيث يملك تأثيراً طاغياً، مقارنة بما يماثله من أجهزة الاستخبارات الأخرى.

وحاز هذا الجهاز تلك “المكانةَ الرفيعة”، كونه يُعنى بمهمّات حسّاسة ومعقّدة على صعيد حفظ الأمن الداخلي للكيان الصهيوني، والذي يتعرض على الدوام لتهديدات ومخاطر جمّة.

ومن المهمّات الأساسية التي يختص بها حماية “الدولة” من أي أخطار تهددها على المستوى الداخلي، سواء كانت هذه الأخطار من داخل “المجتمع الصهيوني”، أو من خارجه، على مستوى الصراع مع الفلسطينيين، وتوفير الحماية لكبار الشخصيات السياسية والعسكرية، ورفع التوصيات بشأن التهديدات المحتملة وطريقة التعامل معها، وإحباط الهجمات التي يمكن أن تشكل تهديداً للجبهة الداخلية الصهيونية، والإشراف على عمليات التحقيق مع المعتقلين الفلسطينيين… إلخ.

وتمتاز هيكلية الجهاز بالشكل الهرمي، إذ تبدأ من قائد الجهاز، ويكون غالباً برتبة لواء أو عميد، وصولاً إلى القاعدة، التي تضم المحققين وضباط المناطق وخبراء في علمَي النفس والاجتماع وأمن المعلومات.

ويتضمن “الشاباك” عدداً من الأقسام، منها:

– قسم الشؤون “العربية”: وهو أكبر أقسام الجهاز. وتتركّز مهمّاته في اكتشاف “التهديدات” التي تواجه “إسرائيل”، مثل العمليات الفدائية، والاختراقات التي تهدد المنظومة الأمنية. وتُناط به عمليات الإسقاط والتجنيد للعملاء والجواسيس، بالإضافة إلى حيازته وحدات المستعربين، “القوات الخاصة”، والتي تقوم بعمليات تجسس داخل المناطق الفلسطينية في بعض الأحيان، وتقوم، أحياناً أخرى، بتنفيذ عمليات الاعتقال أو الاغتيال بحق المقاومين الفلسطينيين.

– قسم الشؤون “غير العربية”: يختص هذا القسم بإحباط عمليات التجسس ومنع العمليات السرية. ويقوم بمراقبة سفارات الدول الأجنبية العاملة في “إسرائيل”، والتجسس عليها، وعلى البعثات الدبلوماسية العاملة فيها.

– قسم “التحقيقات”: هذا القسم هو من أهم الأقسام في جهاز “الشاباك”، ويختص، بصورة مباشرة، بعمليات التحقيق مع المعتقلين الفلسطينيين، ويُعرف عنه استخدامه أساليب عنيفة تنافي المعايير الدولية، وأدّت في كثير من الأحيان إلى استشهاد عدد من المعتقلين.

– القسم “التكنولوجي”: هو مسؤول عن تطوير الوسائل التكنولوجية والتقنية وتشغيلها، والتي تختص بجمع المعلومات الهادفة إلى إحباط عمليات محتملة، أو مراقبة أهداف معينة من أجل استهدافها، في حال صدور قرار بذلك من الجهات العليا.

– دائرة الأمن الحماية: تُعنى هذه الدائرة بحماية المؤسسات والدوائر الحكومية، والمصالح الحيوية في الكيان، بالإضافة إلى توفير حماية خاصة لكل المسؤولين والقيادات السياسية والعسكرية.

– دائرة “الشؤون اليهودية”: تختص بمكافحة عمليات التجسس التي تستهدف “إسرائيل”، وخصوصاً في أوساط اليهود القادمين من الخارج، وتركّز الدائرة معظم جهودها على اليهود القادمين من روسيا.

2- مؤسسة الاستخبارات والمهمات الخاصة “الموساد”:

يُعَدّ “الموساد” بمثابة المؤسسة المركزية في منظومة الاستخبارات الإسرائيلية على المستوى الخارجي، وهو أحد أهم أركان المنظومة الأمنية في “إسرائيل”، إذ تبلغ موازنته السنوية نحو 2.5 مليار دولار، ويخدم فيه، بصورة مستمرة، أكثر من 7 آلاف موظف، ويُعنى بدرجة أساسية بجمع المعلومات والبيانات، على اختلاف نوعياتها، سواء كانت سياسية أو عسكرية أو مدنية، بالإضافة إلى تنفيذه عدداً من المهمّات الخاصة خارج حدود “الدولة”، والتي يمكن أن تصل إلى عمليات اغتيال أو اختطاف، أو عمليات تخريبية تستهدف منشآت حيوية وحسّاسة تَتْبَع دولاً وجماعات “معادية”.

ويتولى الجهاز تنفيذ كثير من المهمّات، منها:

* جمع المعلومات الاستخبارية ذات الطابع الاستراتيجي، سواء السياسية أو العسكرية.

* المنع والإحباط لأي عمليات فدائية، قد تنفذها دول أو جماعات معادية للكيان الصهيوني، ضد أهداف إسرائيلية في الخارج، مثل السفارات والقنصليات، والكنس اليهودية، والشركات والمصالح الأخرى.

* إحباط محاولات بعض الدول الإقليمية الحصول على أسلحة كاسرة للتوازنات، وإجهاضها، كالأسلحة النووية والكيميائية، والصواريخ الباليستية.

* تطوير علاقات الكيان الصهيوني بالدول الأجنبية وتمتينها، ولا سيما الكبرى منها، وإقامة علاقات سرية تساعد على تأمين الدعم للكيان، سياسياً وعسكرياً واقتصادياً.

* تطويع كل الإمكانات المادية واللوجستية، من أجل جلب أكبر عدد ممكن من اليهود إلى “إسرائيل “، والضغط عبر مختلف الوسائل على بعض الدول الأجنبية لتسهيل هذا الأمر، والمساعدة على إضفاء الصفة الشرعية عليه، وخصوصاً عندما يتم اللجوء إلى عمليات التهريب عبر الحدود.

ويضم جهاز “الموساد” عدداً كبيراً من الأقسام، نشير إلى أكثرها أهمية:

– قسم جمع المعلومات: تتركز مهمة هذا القسم في جمع المعلومات السرية، ثم تصنيفها وتحليلها، ووضع الاستنتاجات المطلوبة قياساً على الغرض المراد تحقيقه من ورائها.

– قسم العمليات: يتولى قيادة هذا القسم بسبب أهميته نائبُ رئيس الجهاز، بحيث يقوم بوضع الخطط الخاصة بالعمليات التخريبية في الدول “المعادية” وتنفيذها، بالإضافة إلى عمليات الاغتيال والاختطاف من خارج الحدود.

– قسم الحرب النفسية: يستخدم هذا القسم وسائل الإعلام، في مختلف أنواعها، والإشاعات، واستعراض القوة، والإرهاب النفسي، من أجل خلق حالة من الفوضى والبلبلة في صفوف “العدو”، وترجيح وجهة نظر على أخرى، على نحو يصبّ في مصلحة “دولة” الكيان.

قسم التنسيق مع أجهزة الاستخبارات “الصديقة”: يقوم هذا القسم بتبادل المعلومات السرية مع أجهزة الاستخبارات الصديقة، سواء على مستوى الإقليم او العالم، وقد تعزز عمل هذا القسم بعد التوقيع على اتفاقية “أبراهام” بين العدو الصهيوني وعدة دول عربية في أيلول/سبتمبر 2020.

3- جهاز الاستخبارات العسكرية “أمان”:

يتبع هذا الجهاز، بصورة مباشرة، هيئةَ أركان جيش الاحتلال الإسرائيلي، ويُعَدّ من أكبر الأجهزة الاستخبارية وأضخمها وأكثرها تكلفة لموازنة “الدولة”. وبحسب القانون الإسرائيلي، فإن جهاز “أمان” مسؤول، بصورة أساسية، عن تزويد الحكومة الصهيونية بالتقييمات الاستراتيجية، والتي على أساسها تتم صياغة السياسات العامة لـ”الدولة”، ولا سيما على صعيد الصراع مع الدول الإقليمية “المعادية”، بالإضافة إلى تقديم إنذارات ساخنة وعاجلة من إمكان شن حرب أو عمل عسكري ضد “إسرائيل”، أو أيّ من مصالحها في الخارج.

وعلى المستويين العسكري والسياسي، يقدم الجهاز تقديراً عسكرياً فورياً من أجل أمن “الدولة”، والأمن الوقائي في “الجيش” الإسرائيلي، كما يُعَدّ موجَّهاً إلى جميع أقسام الاستخبارات الأخرى في الكيان الصهيوني. ويعتمد هذا الجهاز، في تنفيذ مهمّاته، على التقنيات التكنولوجية المتقدمة في درجة أولى، إلى جانب المصادر البشرية “العملاء والجواسيس”.

يتكوّن جهاز “أمان” من مجموعة أقسام، هي: قسم تجميع المعلومات؛ قسم الاتصالات الخارجية؛ قسم الرقابة والاستخبارات القتالية؛ قسم الاستخبارات البرية؛ قسم الاستخبارات البحرية؛ قسم الاستخبارات الجوية؛ قسم إعلامي خاص بالصحافيين الأجانب العاملين في “إسرائيل”.

كما يضمّ الجهاز عدة وحدات، مثل: وحدة الاستخبارات المعروفة، باسم “لمدان”، والتابعة لسلاح الجو؛ وحدة الاستخبارات والملاحة الاستخبارية، “مدان”، والتابعة لسلاح البحرية؛ وحدة الاستخبارات في القيادات الشمالية والوسطى والجنوبية؛ وحدة الاستخبارات في الجبهة الداخلية؛ وحدة الحرب النفسية؛ وحدة الرقابة العسكرية؛ الوحدة 8200؛ الوحدة 9990؛ الوحدة 504 الخاصة بتجنيد العملاء؛ وحدة “السايبر”؛ وحدة الخرائط؛ وحدة “هتصاب” الخاصة بالتنبؤ بشأن الاستخبارات؛ وحدة الاستخبارات والأمن البشري؛ وحدة البحث العلمي؛ وحدة أمن المعلومات.

بالإضافة إلى الأجهزة الاستخبارية الثلاثة المذكورة أعلاه، هناك عدة أجهزة أخرى، لكنها أصغر حجماً وأقل أهمية، وهي:

مركز الأبحاث السياسية “مماد”:

هو تابع لوزارة الخارجية الإسرائيلية، ويختص بوضع تقدير موقف للجانب السياسي فقط، بناءً على ما يحدث عليه من معلومات أمنية واستخبارية وسياسية، من المكاتب والقنصليات التابعة للخارجية الصهيونية في مختلف دول العالم. كما يضمّ المركز جهازاً يسمى “كمان”، يتكون معظم موظفيه من النساء، إذ تتشابه أدوارهنّ مع تلك التي تنفذها عميلات “الموساد”، مع فارق أساسي، وهو أن العاملات في “كمان” هنّ من عالم السياسة، ويحملن صفات دبلوماسية، ويملكن شبكة علاقات واسعة بمسؤولين سياسيين وعسكريين وأمنيين ودبلوماسيين في معظم دول العالم.

استخبارات الشرطة الإسرائيلية:

هو جهاز استخبارات فعّال ونشط، ويتركز دوره في جمع المعلومات، وتنفيذ المهمّات الخاصة، والبحث والتحليل، وإحباط أي نشاطات “معادية”، والمحافظة على الأمن العام في “الدولة”.

المخابرات الجوية والبحرية:

هما جهازان صغيران، لكنهما عاليا التخصص، ويتمحور عملهما حول المواضيع التي تخص المجالات الجوية والبحرية حصراً، ويساهمان في تقديم تصور شامل وواضح لمجمل التحديات التي تواجه “الدولة”، انطلاقاً من موقعيهما.

إخفاقات وانتكاسات:

لكن، على رغم كل هذه الأجهزة “الاستخبارية” المتخصصة، والتي تمتلك إمكانات هائلة، وتحظى بدعم كامل من سائر أجهزة “الدولة”، وعلى رغم الأساطير التي نُسجت على مدار عشرات الأعوام، بشأن بطولاتها الخارقة، وعملياتها الجريئة، فإنها أُصيبت بانتكاسات متعدّدة، وفشل كبير في كثير من عملياتها الأمنية، سواء الخاصة بجمع المعلومات، أو تلك الهادفة إلى تنفيذ عمليات اغتيال وتخريب.

وهذا ما أقر به كثير من القادة الصهاينة، على غرار العقيد أوري لافور في كتابه “الصفوة”، ومفاده أن مجموعة من عمليات هذه الأجهزة باءت بالفشل، وخصوصاً تلك العمليات التي جرت أحداثها في بعض الدول العربية. وهذا الفشل تحدثت عنه صحيفة “لوفيغارو” الفرنسية الشهيرة، عندما قالت إن “جهاز الاستخبارات الإسرائيلي (الموساد) مشهور عالمياً بجرأته، لكنه في الأعوام الأخيرة مرّ في فترة عصيبة، شهد فيها كثيراً من الفشل والإخفاق”. وسنعرّج فيما يلي على أشهر إخفاقات أجهزة الاستخبارات الصهيونية.

1ـ فضيحة “لافون”: في عام 1954 من القرن الماضي، حاولت الاستخبارات الإسرائيلية القيام بعمليات تفجير ضد أهداف مصرية وأميركية وبريطانية في الأراضي المصرية. وكان وزير الحرب الإسرائيلي آنذاك، بنحاس لافون، يتولى الإشراف على العملية بنفسه، وسُميت هذه العملية “سوزانا”، وكانت تهدف إلى خلط الأوراق، وإحداث بلبلة تشي بأن الأوضاع في مصر غير آمنة، وتخويف اليهود المصريين، ودفعهم إلى الهجرة إلى فلسطين المحتلة، إلّا أن الاستخبارات المصرية اكتشفت الأمر قبل وقوعه، الأمر الذي عرّض الصهاينة لحرج شديد أمام حلفائهم الأميركيين والإنكليز.

2 ـ عملية “عمود النور”: جرت هذه العملية في إبّان حرب الاستنزاف، بحيث أرادت الاستخبارات الصهيونية معرفة التعليمات الواردة من القيادة المصرية في القاهرة، إلى وحدات الجيش الثالث في السويس، فقامت بتنفيذ عملية استخبارية معقّدة، بواسطة إحدى مجموعات “الوحدة 8200″، التابعة لجهاز الاستخبارات العسكرية، “أمان”، بحيث قامت بسرقة “عمود كهرباء”، موجود في الطريق الواصلة بين القاهرة والسويس، وزرعت مكانه عموداً مشابهاً، لكنه مليء بأجهزة التنصت والرصد السلكية واللاسلكية، إلّا أن العملية مُنيت بفشل ذريع، بحيث إن الاستخبارات المصرية كانت تراقب العملية منذ لحظتها الأولى، واستولت على كل الأجهزة والمعدات.

3ـ الطريق إلى النرويج: أرادت “إسرائيل” الانتقام لمقتل رياضييها الأحد عشر في ميونيخ في عام 1972، فقررت تصفية قادة مجموعة “أيلول الأسود” التي نفذت العملية، بحيث سعت لاغتيال القيادي في حركة فتح علي حسن سلامة، الذي كان موجوداً حينها في النرويج، إلّا أن العميلة سيلفيا رافاييل، التي أُوكل إليها تنفيذ العملية، قامت بقتل شاب مغربي يُدعى أحمد بوشيخي، كان يعمل نادلاً في أحد المطاعم، بدلاً من سلامة، بسبب فشلها في تحديد هويته بدقة، وتسرّعها في التنفيذ، بحسب لجنة التحقيق التي شُكلت بعد العملية. وتم اعتقال العميلة الإسرائيلية و5 من مساعديها، وحُكمت بالسَّجن 5 أعوام.

4ـ عملية قبرص: في نيسان/أبريل ‏1991‏، تم اعتقال 4 من عملاء الموساد‏ (‏رجلين وامرأتين‏)‏، في أثناء محاولتهم زرع أجهزة تنصت وتجسس في السفارة الإيرانية في قبرص، بحيث تم تقديمهم إلى المحاكمة، ثم ترحيلهم إلى “إسرائيل”، بعد وساطة أميركية.

5ـ عملية “سايروس”: في الخامس والعشرين من أيلول/سبتمبر 1997، قام عملاء الموساد، بأوامر مباشرة من رئيس الوزراء حينذاك، بنيامين نتنياهو، بمحاولة اغتيال خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس سابقاً، بحيث تم حقنه بمادة سامة في أثناء سيره في شارع وصفي التل في العاصمة الأردنية عمان، إلّا أن السلطات الأردنية، بمساعدة من الحارس الشخصي لمشعل، نجحت في إلقاء القبض على إثنين من عناصر الموساد المتورطين في عملية الاغتيال، وتم إرغام نتنياهو بعد تدخل الرئيس الأميركي في ذلك الوقت، بيل كلينتون، على تقديم المصل المضاد للسم المستخدم في العملية. وتم أيضاً إطلاق سراح الشيخ الشهيد أحمد ياسين، في مقابل إطلاق سراح العميلين الإسرائيليين.

6ـ عملية “الفشل العظيم”: على رغم أن عملاء “الموساد” نجحوا في اغتيال الشهيد محمود المبحوح، القائد في حركة حماس، في دولة الإمارات، في كانون الثاني/يناير 2010، فإن هذه العملية عُدَّت من أفشل العمليات في تاريخ الاستخبارات الإسرائيلية، كما يقول موقع “قضايا مركزية” الإسرائيلي، الذي أشار إلى أن استخدام جوازات سفر مزورة لدول أوروبية، مثل أيرلندا وبريطانيا وألمانيا وفرنسا، قاد “إسرائيل” إلى دفع ثمن باهظ، وأن المعلومات التي نُشرت، بشأن أسماء القتلة وصورهن، أظهرت بصورة واضحة مدى التراجع في أداء جهاز “الموساد”.

وهذا التراجع جعل صحيفة “يديعوت أحرونوت” تطلق على تلك العملية لقب “الفشل العظيم”، في حين وصفها بن كاسبيت، كبير المحللين العسكريين في صحيفة “معاريف”، بأنها استحقت مقعداً متقدماً في قائمة أفشل العمليات في تاريخ الأجهزة الاستخبارية الصهيونية.

الخاتمة:

حاولنا، من خلال طرح هذا الموضوع الخاص بأجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، والتذكير بجملة من الإخفاقات التي تعرضّت لها، والإشارةَ إلى أنها ليست أجهزة “أسطورية”، وأن في الإمكان هزيمتها على رغم فارق الإمكانات، والذي يصب في مصلحتها.

وكنا أشرنا، في الجزء الأول من هذا المقال، إلى الحرب الاستخبارية التي تستعر في الإقليم، وإلى بعض النجاحات التي حققتها أجهزة استخبارات محور المقاومة. ونحاول في هذا الجزء الوصول إلى أفكار ومقترحات، تساهم، بصورة أو بأخرى، في التصدي لهذه الأجهزة المجرمة، والتعرّف إلى أساليبها وأدواتها، الأمر الذي يساهم في كشفها وتعريتها، وصولاً إلى إفشال عملياتها وإجهاضها. وبالتالي، يمكن لنا أن نقدّم فيما يلي بعض النصائح “المتواضعة” بشأن هذا الموضوع:

1ـ ضرورة إنشاء أجهزة “استخبارية” قوية وحديثة ومهنية، لدى جميع الدول والفصائل في محور المقاومة.

2ـ إنشاء “غرفة عمليات” خاصة بالحرب الاستخبارية، تشمل نظام “الخط الساخن” لتبادل المعلومات أولاً بأول.

3ـ رفع مستوى “الثقافة الاستخبارية” لدى جميع الكوادر والقيادات والعناصر في “محور المقاومة”.

4ـ تفعيل مبدأ “الثقافة الاستخبارية” في كل المؤسسات والدوائر السياسية والعسكرية والاقتصادية، والتي تكون معرّضة لخطر التجسس في معظم الأحيان.

5ـ العمل على تشجيع البحث العلمي في مجال “الدراسات الاستخبارية”.

6ـ الاهتمام بـ”الثقافة المعلوماتية”، وضرورة تفعيلها في كل المؤسسات المهمة والحسّاسة.

7ـ تعميم مواد الدراسات الأمنية والاستراتيجية والاستخبارية، في المعاهد والكليات المدنية، وعدم اقتصارها على الكليات العسكرية.

8ـ وضع خطة تعليمية في المدارس والجامعات، لتخريج أفراد لديهم القدرة على التعامل مع الحرب الاستخبارية، ولو في حدها الأدنى.

9ـ إقامة مراكز أبحاث خاصة، تقدّم التصورات الاستراتيجية، وعمليات تقدير الموقف، والتي يمكن أن تخدم صُنّاع القرار، وعدم الاقتصار على المعلومات التي تقدمها أجهزة الاستخبارات فقط.

Exit mobile version