كتب الطاهر المعز: مظاهر الانحدار الأمريكي البطيء

أقلام- مصدر الإخبارية

بقلم الطاهر المعز: باتَت الولايات المتحدة في حالة حرب دائمة لا نهاية لها، منذ حوالي قَرْن، ولا تزال القوات الأمريكية، في بداية سنة 2023، تحتل أجْزاء من سوريا والعراق والصومال والعديد من الدول الأخرى، ولها قرابة 850 قاعدة عسكرية في أكثر من 70 دولة، وميزانية حرب بنحو تريليون دولار سنويًا، وتُعَدُّ الأسلحة من أهم الصادرات الأمريكية.

حيث يتغير الرؤساء لكنهم جميعًا يؤيدون توسيع نطاق العدوان المسلح ضد شعوب العالم، ويترافق كل عدوان مُسلّح مع إجراءات اقتصادية مثل الحصار والتطويق و “العقوبات” التي يُمكن فَرْض تطبيقها بفضل سيطرة الدولار على النظام المالي والتبادلات التجارية، ما يجعل الجيش الأمريكي يدمر دولاً مثل صربيا أو الصومال أو العراق أو أفغانستان، وينهب الثروة ولا يقدم أي تعويض أو جبر للأضرار.

اتّفق السياسيون والرئيس الأمريكي وأعضاء الكونغرس والباحثون ومعظم الصحفيين الأمريكيين على ترديد الأسطورة الكاذبة، القائلة بأن الولايات المتحدة نموذج للديمقراطية الفريدة والإستثنائية التي لا غنى عنها للشعوب والدول الأخرى، والتغاضي عن التهديد الذي يُمثله النظام الاقتصادي النيوليبرالي وعسكرة السياسة الخارجية الأمريكية، سواء للخصوم أو للأعداء ولكن أيضًا للحلفاء، مثل اليابان أو الاتحاد الأوروبي.

كانت الولايات المتحدة تلوح بعبع “الشيوعية” في حقبة الحرب الباردة ثم استبدلتها ب”الإرهاب”، للتلاعب بالرأي العام الأمريكي والعالمي، عندما شعرت ببداية انهيار نفوذها في العالم، وهو انهيار بطيء وتدريجي، وتسعى الولايات المتحدة إلى تعطيل وتأجيل إعادة توزيع النفوذ في العالم، عبر الدعاية والإعلام وعبر الحُروب، المُباشرة أو بالوكالة، خصوصًا ضدّ القوى التي تسعى إلى إرساء “عالم متعدّد الأقطاب” (روسيا والصّين).

ولو كان ذلك ضمن إطار الرأسمالية، وأعربت الولايات المتحدة عن استعدادها لاستخدام جميع الأدوات، منها الإعلام والحصار التجاري والمالي و”العقوبات” والعدوان المُسلّح، للحفاظ على مواقعها ونفوذها.

أظهرت الحرب في أوكرانيا قُدْرَةَ الولايات المتحدة ومُجَمّع الصّناعات العسكرية – مركز قُوّة الإقتصاد الأمريكي- على التّكيّف مع الوضع والمزج بين الانخراط في حروب ساخنة مباشرة، كما في الصومال وأفغانستان والعراق، وهي باهظة الثّمن، وتكتيك نقل الحرب إلى عقر دار الخصوم، عبر وكلاء (تنظيم “داعش” ومليشيات الأكراد في سوريا، وجيش أوكرانيا ضد روسيا وتايوان ضدّ الصّين…).

ويُمكّن هذا التّكتيك من إرسال الأسلحة والمعدات العسكرية إلى وكلاء الولايات المتحدة واستخدام جميع أدوات الحرب، لإغراق خصومها في نزاعات طويلة الأمد، تُقوّض الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي للدولة “المعادية” (روسيا مثلا)، وإعاقة تنميتها وتطورها الاقتصادي.

من غير المُستبْعَد أن تشن الولايات المتحدة حربًا بالوكالة ضدّ الصّين، فقد بدأ المجمع الصناعي العسكري الأمريكي، منذ بداية 2021، في تشجيع تايوان على استفزاز ومواجهة الصّين، وأعد المُجمّع ميزانية أولية بقيمة 22,7 مليار دولارا مخصصة ل”مبادرة الردع في المحيط الهادئ”، وتكثيف الحُضور العسكري الأمريكي في المحيطَيْن الهادئ والهندي، وفي بحر الصين، وتعدّد المناورات العسكرية بمشاركة بريطانيا وأستراليا واليابان وكوريا الجنوبية وغيرها، بهدف استعراض القُوّة واستفزاز الصّين.

طبقت الولايات المتحدة والكيان الصهيوني تكتيكات مماثلة في الخليج العربي لاستفزاز إيران، بالتوازي مع الحصار والعقوبات والاغتيالات والحرب الإلكترونية، واستغلّت الولايات المتحدة الاحتجاجات والمُظاهرات التي اجتاحت إيران طيلة الربع الرابع من سنة 2022، لتكثيف الدّعاية حول حرية التعبير وحقوق الإنسان (والمرأة بشكل خاص) ودعم المُعارضة الليبرالية المُسلّحة ‘(مثل منظمة مُجاهدي خَلْق) التي تدعو علنًا إلى الحرب الأهلية والتّخريب (تصريح بمحطة سي إن إن بتاريخ 17 تشرين الأول (أكتوبر) 2022.

ودعت وكالة “إيران الدّولية” 31 تشرين الأول (أكتوبر) 2022 التي تُمولها السعودية، ومقرها لندن إلى اغتيال “كل من يتعاون مع النظام… كالمحامين والمحققين والقضاة الإيرانيين المتورطين في قضايا متعلقة بالاحتجاج”، وأطلقت منظمات إيرانية مقرها أمريكا الشمالية وأوروبا على عمليات الاغتيال صفة “التخريب المشرف” و”القتل الأخلاقي”، وفق موقع شبكة “الجزيرة” بتاريخ 20 كانون الأول (ديسمبر) 2022.

حاولت دول الاتحاد الأوروبي التخفيف من حدّة الهجومات الإعلامية ضد إيران، بعد أزمة المحروقات وانقطاع إمدادات الغاز الرّوسي، لكن الولايات المتحدة استخدمت أذربيجان الغنية بالغاز (وبها قواعد أمريكية وصهيونية وتركية) لشن حرب إعلامية ولإعاقة أي تقارب مع إيران، من خلال إنشاء “ممر توران” الهادف إلى جلب قوات حلف شمال الأطلسي إلى الحدود الشمالية لإيران، والحدود الجنوبية لروسيا، والحدود الغربية للصين (شينجيانغ).

وتطويق روسيا من البحر الأسود والصين من بحر الصين الجنوبي وإيران من الخليج، وإثارة الاضطرابات العرقية بين الأذاريين في إيران والتتار في روسيا والأويغور في الصين، وفق وكالة “رويترز” بتاريخ 22 أيلول (سبتمبر) 2022.

لا شك في الإنحدار الأمريكي، لكنه بطيء وقد يدوم عُقُودًا، قبل أن تتجاوزها قوى أخرى، لكن هل تستفيد الشُّعُوب والطبقة العاملة والكادحون من هذا التّغْيِير إذا ما انحدرت قوة رأسمالية احتكارية وحَلّتْ محلّها قوى أُخْرى مماثلة؟.

لا تمتلك الطبقة العاملة والشعوب الواقعة تحت الإستعمار والإضطهاد – في الظّرف الحالي – قوى مُستقلّة، قادرة على إلحاق الهزيمة بالإمبريالية ورأس المال، وتحقيق انتصارات لصالح الكادحين والشّعوب والأُمم المُضْطَهَدَة، وهو الأمر الذي يجب تلافيه لتكون هزيمة الإمبريالية والرأسمالية انتصارًا للشعوب وللكادحين.

الحرب بالوكالة

أجرت وكالة الأنباء الألمانية د.ب.أ – 30 كانون الأول (ديسمبر) 2022 مقابلة مع الأمين العام لحلف شمال الأطلسي “ينس ستولتنبرغ” الذي دعا أعضاء الحِلْف إلى إمداد أوكرانيا بمزيد من الأسلحة، لأن من مصلحتنا الأمنية أن تنتصر أوكرانيا وأن تهزم الرئيس الروسى فلاديمير بوتين…”.

وكان رئيس أوكرانيا، فلوديمير زيلينسكي، قد طلب أسلحة ومعدّات وأنظمة دفاع جوي، وأعلنت الولايات المتحدة مَدّ جيش أوكرانيا – الذي يُصمم عملياته ويشرف على إنجازها الضباط الأمريكيون والأطلسيون – بنظام الدفاع الجوي “باتريوت” وصورايخ كروز، وبأسلحة إضافية تفوق قيمتها مليارَي دولار، وسبق أن أعلن وزير الحرب الفرنسي، يوم 28 كانون الأول (ديسمبر) 2022، خلال زيارته الأولى إلى كييف، أنه سوف يرسل أسلحة بقيمة بقيمة 200 مليون يورو.

قَدَّرَ مؤشر رصد الدعم العسكري لأوكرانيا التابع لمعهد كيل، “مُساعدات” الولايات المتحدة الأمريكية لأوكرانيا بأكثر من 50 مليار دولار حتى يوم 20 تشرين الثاني (نوفمبر) 2022 وبلغَ إجمالي “مساعدات” دول الاتحاد الأوروبي 55 مليار دولار، منها 15 مليار دولارا من ألمانيا… وطلبت إدارة الرئيس جوزيف بايدن ضخ 37 مليار دولار إضافية في أوكرانيا.

غير أنَّ أعضاء الكونغرس رفعوا المبلغ إلى 45 مليار دولار، فضلاً عن أسلحة بقيمة فاقت خمسين مليار دولارًا بين بداية آذار (مارس) و30 تشرين الأول (أكتوبر) 2022 وتدريب القوات الأوكرانية، ومساعدات استخباراتية لتحديد مواقع القوات الروسية في أرض المعركة وتدميرها، وفق الرئيس بايدن.

وكتبت صحيفة “بوليتيكو” الأمريكية، يوم 29 كانون الأول (ديسمبر) 2022، أن الرئيس الأوكراني طلب من جوزيف بايدن مرة أخرى صواريخ «ATACMS» ( ATACMS ) التي يصل مداها إلى 300 كيلومتر لتدمير مواقع روسية هامة مثل جسر القرم والقواعد الجوية وخطوط الاتصالات، وسبق أن أرسلت الولايات المتحدة إلى الجيش الأوكراني صواريخ جافلين وهيمارس قبل إرسال باتريوت.

في نفس اليوم (29/12/2022) أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية موافقتها على بيع أنظمة مضادّة للدبابات لتايوان مقابل 180 مليون دولار، بعد أسبوع من توقيع الرئيس الأميركي قانوناً للإنفاق الدفاعي، ينص على “مساعدة” عسكرية بقيمة عشر مليارات دولار لتايوان بين سَنَتَيْ 2023 و2027، وأعلن بيان صادر عن وزارة الحرب الأمريكية (البنتاغون) أن صفقات الأسلحة الأمريكية لأوكرانيا وتايوان تخدم المصالح الوطنية والاقتصادية والأمنية للولايات المتحدة.

تندرج هذه “المُساعدات” (الصفقات) ضمن المخططات العدائية الأمريكية والاستفزازات ضد روسيا والصّين، حيث تعدّدت شحنات الأسلحة الأمريكية والأوروبية والدعم العسكري واللُّوجستي والمالي والإعلامي، لأوكرانيا.

واتخذت دول الإتحاد الأوروبي قرارات العقوبات الاقتصادية والتجارية والمالية ضدّ روسيا، ما أضَرّ بمصالحها، بضغط من الحليف الأمريكي الذي قَطَعَ كل خُطُوط التعاون بين روسيا ودول الاتحاد الأوروبي، بهدف تعزيز النفوذ الأميركي.

تُقدّر الميزانية العسكرية الروسية بنحو 67 مليار دولارا، وقدرت النفقات العسكرية الأطلسية منذ بداية حرب أوكرانيا بأكثر من مائة مليار دولار، وترفض حكومات أوروبا وأمريكا الشمالية إنفاق مثل هذه المبالغ على تحسين الرعاية الصحية والقضاء على الفقر، وأدّت سياسات “العقوبات” الأوروبية (التي قَرّرتها واشنطن) ضد روسيا إلى ارتفاع معدل أسعار الطاقة بنسبة 41% في شهر تشرين الأول (أكتوبر) 2022، وارتفاع نسبة التضخم بمعدل فاق 11,5% وتقلص النمو، وفق رئيسة المصرف المركزي الأوروبي، وتتوقع منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية ارتفاع نسبة التضخم في روسيا سنة 2022 إلى 14% وإلى 6,8% سنة 2023، وسجّل الاقتصاد الروسي نمواً بنسبة 3,4 %، سنة 2022، وفقًا لتقديرات صندوق النقد الدّولي.

تُشير بعض وسائل الإعلام الأوروبية (القليلة) إلى التأثيرات السلبية لحرب أوكرانيا على دول الاتحاد الأوروبي، لتبقى الولايات المتحدة الرابح والمستفيد الوحيد من حرب الإستنزاف الطويلة التي تُخطط لها ضد روسيا لإنهاكها.

نقلًا عن نشرة كنعان

اقرأ/ي أيضًا: هل تنهار إسرائيل من الداخل؟ بقلم صالح النعامي