بقلم /امطانس شحادة
بدأت تتبلور ملامح حكومة نتنياهو السادسة، بعد مرور أكثر من شهر ونصف على الانتخابات الإسرائيليّة الأخيرة، وتكليف رئيس الدولة نتنياهو تشكيل الحكومة. لا نستطيع التعامل مع حكومة نتنياهو الجديدة كأنها ستأتي بتحول جوهري في سياسات الحكومات الإسرائيلية مع الاستعمار الإسرائيلي للضفة الغربية وغزة، من جهة، لكن لا يمكن أيضاً غضّ النظر عن أنها ستتشكّل من أحزاب يمينيّة صِرفة، ترتكز على اليمين الدينيّ المتطرّف والأحزاب الحريديّة، وخاصة حزب الصهيونية الدينية برئاسة بتسلئيل سموتريتش، وحزب “عوتسما يهوديت-القوة اليهودية” برئاسة بين غفير، دون أن تستند إلى أيّ حزب من خارج معسكر نتنياهو، لأول مرة منذ عام 2013.
منذ بداية الألفيّة الثالثة، وخاصة منذ انتخابات عام 2009، ثمّة توافُق كبير بين الأحزاب الإسرائيلية الرئيسيّة على طبيعة إدارة الاحتلال وجوهر دولة إسرائيل وهُويّتها، دون السعي لحسم ملف الاحتلال والقضية الفلسطينية. تطرح الأحزاب الرئيسيّة قاطبةً، موقفاً يعارض إقامة دولة فلسطينيّة قابلة للحياة، ولا تحمل أيّ أجوبة تخص حقوق الشعب الفلسطينيّ التاريخيّة والشرعيّة، بذلك تلغي أيّ احتمال للتوصّل إلى اتّفاق مع الفلسطينيّين. جُلُّ ما تسعى إليه معظم هذه الأحزاب، الحفاظ على الوضع الراهن، مع محاولة تغيير الواقع الجغرافيّ والديمغرافيّ، بتفاوت، دون دفع ثمن سياسيّ أو أمنيّ، في المقابل تشدّد غالبيّة الأحزاب على هويّة الدولة اليهوديّة.
عملت حكومات نتنياهو السابقة، لغاية 2018، على إدارة الصراع وتغييب القضية الفلسطينية وتفتيتها. بعدها، تبنت حكومة بينت-لبيد، غير معلن، مقاربة “تقليص الصراع”، التي تجادل أنّ المناطق المستعمَرة سنة 1967 بمثابة مِصيَدة، إذ لا تستطيع إسرائيل ضمّها، خشية اختلال التوازن الديمغرافي، كذلك لا تستطيع الانسحاب منها، خشيةً على أمنها، لذلك يَكمُن الحلّ في “تقليص الصراع”، الذي يرمي إلى تخفيض حجم السيطرة على الفلسطينيّين، أي تقليص الاحتلال.
إجمالاً، اتسم موقف الحكومة الإسرائيليّة، برئاسة نفتالي بينتْ – يَئِير لَبيد، من السلطة الفلسطينيّة برفض أيّ مبادرات للعودة إلى مسار المفاوضات والتسوية السياسيّة، كذلك رفضت الحكومة الإسرائيليّة وضع رؤية محدّدة في ما يتعلّق بالمسألة الفلسطينيّة عموماً، أو السلطة الفلسطينيّة خصوصاً.
التيّارات السياسيّة والأحزاب في إسرائيل لا تستأنف بالمجمل على طبيعة النظام الاستعماريّ، بل تتنافس حول حدود هذا المشروع وطبيعته؛ إذ عمل المشروع الصهيونيّ، وما زال، على السيطرة وامتلاك الأرض والحيّز، وبناء جغرافية وتاريخ جديدين، في سبيل تغيير واقع البلاد ومَعالمها، وعمل على التخلّص من السكّان الأصليّين، بواسطة القتل والترهيب والطرد، كذلك يسعى إلى إزالة الفلسطينيّين كوجود بشريّ وتاريخيّ ومعنويّ من وطنهم، تدريجياً، ما يُعْرَف بعمليّة، في أدبيات الاستعمار الاستيطاني، المحو الرمزيّ والفعليّ والاستبدال.
في محور القضية الفلسطينية، الأحزاب اليمينية متقاربة إلى حد بعيد في رؤيتها لطبيعة هذا الحل، على الرغم من بعض التفاوت في مواقفها المعلنة. حزب الليكود وأحزاب اليمين المتطرّف الأخرى، تريد ضمان الاستعمار والسيطرة على مناطق الـ 48، وضمّ قسم كبير من مناطق الـ67، دون أن تعطي الفلسطينيّين حقَّ تقرير المصير، أو الاعتراف بالشعب الفلسطيني. تسعى لحسم الملفّ وانتزاع شرعيّة المشروع الاستعماريّ الاستيطانيّ الصهيونيّ بالقوّة والقَوْننة.
حزبا “الصهيونية الدينية” “والقوة اليهودية” هما الأوضح والأكثر صراحة في موقفهما، إذ يرفضان إقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية، كحل للصراع الإسرائيلي الفلسطيني، ويريان الحلول السياسية المطروحة لتسوية الصراع عبر حلّ الدولتين، أو عبر المطالبة بضم “الضفة الغربية” وسكانها إلى دولة إسرائيل، حلولاً غير عملية، من شأنها تهديد مستقبل دولة إسرائيل.
يسعى حزب الصهيونية الدينية، برئاسة سموتريتش، لترجمة عمليّة السيطرة ومنع حصول أيّ إمكانيّة للاستئناف على المشروع الصهيونيّ، كذلك يعمل على فرض المحو والاستبدال التامّ، وإغلاق ملفّ الـمَطالب القوميّة الفلسطينيّة، والاعتراف بإسرائيل دولة يهوديّة، يعرض ذلك في برنامجه السياسي، كذلك يترجمه باقتراحات القوانين والسياسيات على أرض الواقع.
وفقاً لـ”الصهيونية الدينية” اليهودي، ليس هناك “بين النهر والبحر مكان إلا لدولة إسرائيل”، يرى الحل حسب “خطة الحسم: مفتاح السلام يكمن لدى اليمين الإسرائيلي”، التي اقترحها زعيم الحزب سموتريتش عام 2017. وفق خطة سموتريتش، لا يوجد مكان على “أرض إسرائيل” لحركتين قوميتين، الصهيونية والحركة الفلسطينية، بل مكان لبيت قومي يهودي فقط، وفقاً للتوراة.
لذلك، أي فلسطيني، من سكان الضفة الغربية، يرغب في التنازل عن طموحاته القومية ببناء الدولة، يمكنه البقاء والعيش على اعتباره فرداً داخل دولة إسرائيل اليهودية، دون حقوق قومية أو حقوق مواطن، يمنح حقوقاً فردية اقتصادية واجتماعية فقط. أما من لا يرغب من الفلسطينيين في التنازل عن هويته القومية ومشروع الدولة، فسيساعده الشعب اليهودي على الهجرة إلى أي دولة عربية، أي ترانسفير لمن لا يخضع للشروط الإسرائيلية، وتهجير الفلسطينيين قد يكون الحل للصراع، إن فشل ذلك، وأصر الفلسطينيون على البقاء والمطالبة بالحقوق القومية والسعي لإقامة دولة مستقلة، يستطيع الجيش الإسرائيلي التعامل مع ذلك، يعني ذلك، وفق سموتريتش، استعمال العنف والقتل إذا لزم الأمر.
حزب “القوة اليهودية”؛ الذي أسسه المتطرف باروخ مارزل (من اتباع مائير كهانا وكان عضواً في حزب كاخ) عام 2004، تحت اسم “الجبهة القومية”؛ ظل يحمل هذا الاسم لغاية عام 2015، عندما أصبح “قوة يهودية”، برئاسة إيتمار بن غفير منذ عام 2019. لا تختلف مواقفه كثيراً عن حزب “الصهيونية الدينية”، إذ يشدد على أن أرض إسرائيل ملك للشعب اليهودي، “بحكم وعد الله لشعب إسرائيل، فإن أرض إسرائيل وجميع مناطقها المحددة في التوراة، هي ملك لشعب إسرائيل لجميع أجيالها، لأولئك الذين سبقونا والذين سيتبعوننا. ولا يحق لأي زعيم أو جيل التنازل عن الوطن”.
نحو حسم ملف الاحتلال والقضية الفلسطينية
اتّفاقيّات التحالف بين الليكود وحزب “الصهيونية الدينية” وحزب “قوة يهودية”، توضّح أنّ محور الاحتلال وسياسات الاستيطان والتنكيل بأبناء الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلّة، ومحاولات فرض السيطرة اليهودية على المسجد الأقصى المبارك، ستكون الأسخَن والأخطَر في العقد الأخير، ولا سيّما أنّها توكّل رئيس حزب الصهيونيّة الدينيّة، سموتريتش، بهذا الملفّ، وبدور ثانوي لبن غفير، من طريق تحكمه بوحدات حرس الحدود، الفاعلة في الضفة الغربية، من منصبه وزيراً للأمن القومي.
وَفقاً لاتّفاق الليكود وحزب الصهيونيّة الدينيّة، سيحصل سموتريتش على منصب وزير في وزارة الأمن، إلى جانب وزير الأمن، وسيغيَّر قانون أساس الحكومة خصّيصاً لهذا الغرض، سيكون مسؤولاً عن تعيين منسّق أعمال الحكومة في الأراضي المحتلّة، ورئيس “الإدارة المدنيّة” للاحتلال، بعد أن كانت تحت مسؤولة الجيش. وهذان المنصبان ينطويان على أهمّيّة بالغة في كلّ ما يتعلّق بالضفّة الغربيّة.
بحسب الاتّفاق، يصدّق الوزير من الصهيونيّة الدينيّة في وزارة الأمن على ردود النيابة العامّة، على أيّ الْتماس يقدَّم إلى المحكمة العليا بخصوص الاستيطان، بالتنسيق مع وزير الأمن وبموافقة رئيس الحكومة. فيما سيكون بين غفير مسؤولاً عن منح تصريحات اقتحامات اليهود للمسجد الأقصى، وعن التعامل الأمني مع مسجد الأقصى.
الصلاحيات التي مُنِحَها سموتريتش وبن غفير، ستؤدي إلى تغيير جوهريّ في سياسات إسرائيل في مناطق الضفّة الغربيّة والقدس الشرقية عامةً، والمسجد الأقصى خاصةً، بالأساس توسيع الاستيطان والاحتلال، وتقييد البناء الفلسطينيّ في مناطق ج، بغرض محاولة حسم الصراع وفرض حل الأمر الواقع.
سيتمكن سموتريتش من تنفيذ قرارات كانت عالقة في السابق، أو كانت المحكمة العليا قد منعت تنفيذها، في ما يخصّ الاعتراف بالبؤر الاستيطانيّة العشوائيّة (المسمّاة إسرائيليّاً بؤراً غير شرعيّة)، أو ربط تلك البؤر بالكهرباء، وتشييد البنى التحتيّة فيها.
ستُنقَل دائرة الاستيطان والكلّيّات التحضيريّة إلى الجيش، و”الخدمة الوطنيّة” إلى حقيبة “الـمَهَمّات القوميّة”، التي ستُوكَل إلى أوريت ستروك، من حزب الصهيونيّة الدينيّة. أي ستوكل الحكومة الإسرائيليّة الجديدة إلى المستوطنين إدارة شؤون الاحتلال، ووضع السياسات تجاه المستوطَنات والمستوطِنين، وتجاه الشعب الفلسطينيّ الواقع تحت الاحتلال.
بهذا المعنى، حكومة نتنياهو الجديدة بوجود سموتريتش وبن غفير، وزراء مركزيين، ستحمل الجديد تجاه القضية الفلسطينية والاستعمار، وتطور سياسات حكومات نتنياهو السابقة، التي عملت على تهميش قضية الاستعمار والاحتلال، وتلغي أي إمكانية لاتفاقيات مع السلطة الفلسطينية وتتجاهلها، سيحاول كل من سموتريتش وبن غفير الانتقال من مقاربة تقليص الصراع وإدارته، إلى محاولة حسم الصراع وفرض حل الأمر الواقع على الشعب الفلسطينيّ، من طريق السعي لضمّ المناطق “ج”، في المرحلة الأولى، وتوسيع الاستيطان، ومن ثم محاولة الضم الكامل للضفة الغربية، وفقاً لرؤية سموتريتش التي أعلنها في خطه “الحسم”.
أي سيسعى كل من سموتريتش وبن غفير لترجمة “خطة الحسم”، وقناعتهما المسيانية التوراتية المتطرفة، على أرض الواقع، في محاولة لحسم ملف القضية الفلسطينية والاحتلال. هذا التحول يشي بأن القضية الفلسطينية ومستقبل الصراع سيعودان إلى الواجهة في السنوات المقبلة، بعد محاولات حكومات نتنياهو، ومن بعدها حكومة بينت-لبيد، تهميش القضية الفلسطينية وتفتيتها، بل تحويل الاحتلال إلى حالة طبيعية في المشهد الإسرائيلي والإقليمي والدولي، وخاصة بعد اتفاقيات أبراهام.