التضليل عن التطهير العرقي والفصل العنصري على الطريقة الصهيونية “أم الحيران و النقب نموذجا”

مقال- د. نايف جراد

دأبت الصحافة ووسائل الإعلام الصهيونية على تضليل العالم بشأن سياسة الكيان الصهيوني تجاه النقب والبدو بخاصة والعرب الفلسطينيين بعامة، مخفية الأسباب الحقيقية وراء الغضب الذي يعترى الفلسطينيين على خلفية هدم بيوت قرية ” أم الحيران” في النقب، محاولة نقل الأمور إلى مربعات تبدو ظاهريا أنها في مكانها الصحيح، من زاوية تحليل علاقة السكان بعامة والبدو بخاصة كمواطنين بالسلطة الحاكمة، لكنها في الحقيقة بعيدة كل البعد عن كبد الحقيقة المرة، التي لا يستوي معها التحليل والفهم إلا من زاوية رؤية الصراع القومي والطبيعة الأصلانية للعرب الفلسطينيين الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية في مواجهة المستعمر الذي سلب أرضهم واستوطنها، ومارس تجاههم تاريخيا ولا يزال سياسة تطهير عرقي وفصل عنصري بغيضين.
في هذا السياق نشرت ” القدس العربي” مقالا مترجما عن العبرية للصهيوني ” إيال زيسر”، نشر في صحيفة ” إسرائيل اليوم” في 22 من الشهر الجاري بعنوان” البدو والشرق الأوسط: نسيج قابل للاشتعال”. وفيه، يحاول هذا الكاتب تضليل القارئ والافتراء عليه، من خلال تغييب الحقائق التاريخية والمعطيات الواقعية، محاولا وصم حركة الاحتجاجات التي يخوضها بدو النقب ب ” التطرف” و” الداعشية” متسلحا ب” الذخيرة الحية” لمناهضتها، ضاربا على وتر الحاجة لمحاربتها في دول الجوار وخاصة مصر والأردن.
ad
يقول “زيسر”: ” “المواجهة العنيفة بين الدولة ومؤسساتها وبين السكان البدو في أم الحيران، يمكن فهمها في السياق الأوسع، والخاص بصعوبة اندماج السكان البدو في نسيج الحياة العصري والتمتع بثمار التقدم الذي تقترحه الدولة”. ويضيف: “”في النقب كان يعيش عند إقامة الدولة حوالي 10 آلاف بدوي، واليوم يصل عددهم إلى ربع مليون إنسان”. ويعزو ” زيسر” سبب التكاثر هذا إلى عدة عوامل، وهي : “تعدد الزوجات عند البدو” “المحظور في القانون الإسرائيلي”، و”سياسة الرفاه لحكومات إسرائيل التي شجعت الظاهرة… وحولت تكاثر الأولاد إلى مصدر دخل لرب العائلة”، و “رغبة السكان البدو في الحفاظ على الإطار القبلي”، و”رفض البدو لسلطة الدولة ومؤسساتها، مثل الشرطة وأجهزة تطبيق القانون”.
وفي إمعان منه لحرف الأنظار عن الأسباب الحقيقية وراء”غضب” البدو و” المواجهات العنيفة” مع الدولة، ينقل الحديث إلى مجال آخر غير”الصراع القومي” مقارنا بين وضع البدو الفلسطينيين وبدو سيناء وبدو الأردن، مستنتجا بشكل يدعو للسخرية أنه ” “بسبب نمط الحياة المحافظ والخشية من التقدم، وأيضا بسبب التوتر بين البدو وبين الدولة، فان الصحراء في الشرق الأوسط تشكل دفيئة لانتشار الجماعات الإسلامية المتطرفة. وإسرائيل ليست استثناء من هذه الناحية”.وكل ذلك كي يخلص إلى خلاصة تضليله المتعمد، عبر القول ” “ولكن الحديث يدور عن تحدٍ يتعلق بالمجتمع والاقتصاد والدولة، وليس عن صراع وتوتر قومي”
وهكذا، يحاول التنظير الصهيوني إبعاد الأنظار عن سياسة التطهير العرقي والفصل العنصري التي اتبعها الكيان الصهيوني تجاه الفلسطينيين، والتي تجلت، كما يقول خبير التطهير العرقي المؤرخ الإسرائيلي البروفيسور إيلان بابيه في الترحيل والتطهير العرقي، الذي شكل جزءاً جوهرياً من استراتيجيا الحركة الصهيونية، والذي يعني أن طرد الفلسطينيين من ديارهم وممتلكاتهم الأصلية، بما فيها طبعا النقب، لم يكن مجرد هروب جماعي وطوعي للسكان بل خطة مفصلة جرى وضع اللمسات النهائية عليها في اجتماع عقده دافيد بن غوريون في تل أبيب يوم 10/3/1948، أي قبل التاريخ المعروف للنكبة بشهرين بحضور عشرة من القادة الصهاينة، وتضمنت أوامر صريحة لوحدات الهاغاناه باستخدام شتى الأساليب لتنفيذ هذه الخطة ومنها: إثارة الرعب، وقصف القرى والمراكز السكنية، وحرق المنازل، وهدم البيوت، وزرع الألغام في الأنقاض لمنع المطرودين من العودة إلى منازلهم. وقد استغرق تنفيذ تلك الخطة ستة أشهر. ومع اكتمال التنفيذ كان نحو 800 ألف فلسطيني قد أُرغموا على الهجرة إلى الدول المجاورة، ودمرت 531 قرية، وأخلي أحد عشر حياً مدنياً من سكانه. وهذه الخطة، بحسب ما يصفها إيلان بـابـه، تعتبر، من وجهة نظر القانون الدولي، “جريمة ضد الإنسانية”.
وما جرى ويجري في ” أم الحيران”، وبقية مناطق النقب، وفي المثلث والجليل، من هدم بيوت وسياسات عنصرية تجاه الفلسطينيين، هو استمرار لهذه الجريمة.
في التضليل والتغطية على هذه الجريمة، استخدمت الرواية الصهيونية مقولات ممجوجة، باتت أرضية دائمة لكل تحليل صهيوني يخص سياسات وإجراءات الدولة تجاه البدو والنقب.ومن هذه المقولات الآتي:
النقب صحراء قاحلة لا يوجد عليها بشر، وإن وجدوا فهم بدو رحل يتنقلون في الصحراء من الجزيرة العربية إلى سيناء مرورا ببادية الشام. ويعود هذا الحكم التزويري للمقولة الصهيونية” ” أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”.
أرض النقب هي أرض ميتة ( موات) لا توجد عليها ملكية شخصية، وبالتالي فهي ملك للدولة. وقد طرح ذلك رسميا من الحكومة الإسرائيلية في سبعينيات القرن الماضي وصادقت المحكمة العليا الإسرائيلية على قرار “النقب الميت” في 1984.
رسالة” دولة إسرائيل” تجاه النقب والبدو هي رسالة حضارية، تستهدف تطوير و “تخضير الأرض” بريها وزراعتها ورفع المستوى الاقتصادي- الاجتماعي والحضري للبدو.
أما عن أن النقب صحراء قاحلة، وأنها أرض موات غير مملوكة للأشخاص، وان والبدو فيها رحل، لم يعرفوا الاستقرار سابقا، فالمعطيات الجغرافية والمناخية والديمغرافية والسوسيولوجية، ناهيك عن علم الآثار والتاريخ، تثبت بما لا يدع مجالا للشك، بأن منطقة النقب، والتي تبلغ حوالي نصف مساحة فلسطين ( 12577 كم2)، تشمل مناخات متنوعة بين الصحراوي وشبه الصحراوي، وهي منطقة عرفت وجود البشر منذ العصر الحجري القديم، وفيها شواهد وآثار لا زالت موجودة إلى اليوم تدل على أنها عرفت أولى أشكال الاستقرار البشري والقرى في العصر الحجري الحديث(8000-4000 ق.م) كمنطقة وادي زين والنقب الشمالي، وفيها أيضا، كما في بقية المناطق نشأت الثقافات والحضارات التي مرت على فلسطين بدءا من الغسولية مرورا بالكبارية والناطوفية وصولا للحضارة الكنعانية. ولعل وجود عدد كبير من الينابيع فيها وتربتها الخصبة ومعدل سقوط للأمطار يتراوح بين 200 – 300 ملم/سنويا، ساعد كثيرا على هذا الاستقرار، كما تدل على ذلك بقايا الآثار الموجودة في وادي زين وخربة البيطار وبئر الصفدي وتل أبو مطر ورأس النقب وعراد وغيرها. كما عرف النقب في عهد الكنعانيين تشييد المدن ومنها بئر السبع وعراد ولاخيش وتل نجيلة وأيلة وغيرها( أنظر”فلسطين والقضية الفلسطينية”(2014)،جامعة القدس المفتوحة،عمان، الأردن، ص11-22).
أما عن السكان الأصليين للنقب، والذين تعود القبائل البدوية التي كانت سكنته تاريخيا في أصولها إليهم، فهم العرب الكنعانيين وأبناء عمومتهم العموريين والأنباط. ونجد في العهد القديم/التوراة تأكيدا على ذلك في قصة الخلاف الذي نشب بين أبو الأنبياء ابراهيم عليه السلام وأمير الكنعانيين أبيمالك حول البئر، فدفع النبي إبراهيم لأبيمالك سبعة خراف، ويقال أنه من هنا جاءت تسمية بئر السبع. ولعل قبيلة أبو معيليق التي تسكن النقب تاريخيا ولا زالت تتواجد فيه إلى اليوم هي، كما يقول النسابون والمؤرخون، تعود في أصولها إلى أبي مالك.
وقد شهد النقب، وخاصة بئر السبع ازدهارا تجاريا وزراعيا في عهد الرومان والأنباط، وفي العهد الإسلامي أعطيت أهمية كبيرة، حيث اتخذ عمرو بن العاص قرية عجلان القريبة من بئر السبع مقرا له، كما اهتم بها الأمويون لاحقا وازدهرت في عهدهم. وفي عهد العثمانيين أصبحت قضاء تابعا لمتصرفية القدس، وعين الشيخ حماد الصوفي أمير قبيلة الترابين حاكما للقضاء.
ومنذ العهد الإسلامي سادت في النقب قوانين الشريعة الإسلامية بشأن الأرض، باعتبارها أرضا لصالح الأمة بأسرها، يمتلكها من يصلحها ويزرعها. وكانت قبائل البدو في النقب تعرف ملكيتها وحدودها تماما، وهي كما في بقية المناطق، علامات ما كالوديان أو الصخور والسلاسل الحجرية او التلال والمغر والشجر وغيرها. وقد اعترف العثمانيون للقبائل البدوية بتلك الملكية،وأكدوا ذلك في قانون الطابو العثماني لعام 1858، وأعطوها استقلالية كاملة في إدارة شؤونها، واحترموا القانون العشائري العرفي والمحاكم العشائرية باعتبارها صاحية الحق في فض النزاعات والخلافات. وكانت كل الأراضي الصالحة للزراعة في منطقة النقب مزروعة ويعتنى بها. واشتهرت فيها زراعة القمح والشعير والبطيخ والشمام. وقد شبه هيل Hill رئيس البعثة الجيولوجية البريطانية الذي زار المنطقة عام 1883 المواقع المزروعة بجنوب ايطاليا، وفي تعليق للمستكشف ثومبسون W.M.Thompson الذي زارها عام 1885 عندما رأى حقول القمح كتب يقول:” قمح… قمح… محيط من القمح”. وقد قام أحد العلماء الفرنسيين الذي رسم خرائط لكل فلسطين بتسجيل ملكية أرض كل قبيلة في النقب( سمان أبو ستة(2010)،”أطلس فلسطين 1917-1966″، جمعية أرض فلسطين، لندن، ص53).ويقول سمان أبو ستة: ” إن بئر السبع هي سلة الخبز لفلسطين. فالقمح والشعير الذي كانت تحمله السفن في ميناء غزة في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين كان يزرع في شمال وغرب المنطقة حيث معدل سقوط المطر فوق 100ملم/سنويا” ويورد في كتابه الموسوعي الموثق علميا، ما سجلته دائرة الزراعة في حكومة الانتداب البريطاني عن المنطقة: ” المنطقة تشمل 1,640,000دونما من الأرض المزروعة، وكل دونم أرض كان يزرع بأيدي السكان البدو”. ويضيف التقرير:” إن البدو هم مزارعون مهرة وقد أثبتوا بحيوية كبيرة جدا جدارة أساليبهم الزراعية. وقد أحدث إدخال التراكتورات الزراعية نقلة نوعية في الزراعة الفلسطينية وأصبحت الكثير من الأراضي تزرع أكثر فأكثر كل سنة بأشجار الفاكهة”( للمزيد عن طبيعة الملكية والأراضي في النقب يمكن العودة لأطلس فلسطين لمؤلفه سلمان أبو ستة، المصدر السابق، ص 52-55).
وهكذا فإنه يمكن الاستنتاج، كما يذهب إلى ذلك الدكتور شكري الهزيّل، أن لبدو النقب ميزة تميزهم عن بقية أشكال البداوة، وهي ما يطلق عليها بالربع رحل(أو سيمي رحل)، حيث أنهم يملكون الأرض وأماكن سكن ثابتة، ولا يتركون ديارهم إلا بهدف الرعي ثم يعودون اليها ليزرعوها ويحصدوها. . وعلى مدى قرون ظل عرب النقب ملاكي ارض وأصحاب مساكن وديار ثابتة، يعيشون على تربية المواشي وزراعة الأرض، وتشير إحصائيات الانتداب البريطاني أنهُ في عام 1931 كان ” 82% من بدو النقب يعيشون على الزراعة وتربية المواشي والنسبة المتبقية عملت كايدي عامله وفي مهن أخرى.(سياسة إسرائيل نحو عرب النقب www.arabtimes.com).
وحسب الإحصائيات البريطانية، فقد كان عدد سكان النقب عام 1931 إلى 57,265 نسمة. وبناء على نسبة التزايد السكاني الطبيعية المقدرة، وصل عددهم حسب سلمان أبو سته عام 1948إلى 105,000 نسمة. وبسبب ما أقدمت عليه العصابات الصهيونية من أعمال قتل وترهيب وارتكاب للمجازر وغيرها من أعمال التطهير العرقي الذي واكب النكبة الفلسطينية عام 1948، تم تهجير 92 ألف بدوي فلسطيني من سكان النقب، والذين باتوا لاجئين. ولم يتبق في النقب سوى 13 ألفا ( 12 ألف حسب الإحصائيات الإسرائيلية الرسمية).
وهكذا أفرغ النقب تقريبا من سكانه الأصليين، الذين ربطتهم علاقات إنسانية وطيدة بالأرض شكلت علامة فارقة في هويتهم وخصوصيتهم. ولعل مسألة هذه الهوية الخاصة هو ما يمكن أن يستند إليه في تحليل الصراع الدائر في النقب. وقد لاحظت الدكتورة صفاء أبو ربيعة، المختصة بالتاريخ والتاريخ الشفوي، أن العديد من الكتّاب والباحثين، الأجانب واليهود، عرف البدويَّ على أنه غير عربي، رحّال لا ينتمي إلى الأرض والمكان، وهذا التعريف غير صحيح؛ فالبدوي لا يُعرف بانتمائه إلى المكان انتماءً جغرافيًّا فحسب، وإنما يُعْرَف كذلك بانتمائه إليه انتماءً إنسانيًّا وشعوريًّا”. وأضافت أن “شعور البدو بالنكبة مزدوج؛ فهُمْ، من ناحية، يتملّكهم شعور بالغربة وفقدان الأرض، ومن ناحية أخرى يتملّكهم شعور بالفقدان لأنّهم فقدوا جزءًا لا يتجزأ من الذات، وهذا دليل على صلتهم الوثيقة بالأرض. وتأكيدًا على هذه الصلة، نشير انّ للعرب البدو في النقب ممارسات مكانية يؤدونها، للمحافظة على صلتهم بالأرض ولترسيخها، مستمرة منذ سنوات طويلة. هذه الممارسات تتمثل بزيارة أراضيهم التاريخية، ورواية قصص من الماضي تتعلق بالأرض والانتماء إلى المكان. كذلك نرى أن قسمًا من المقيمين في القرى غير المعترف بها يرفضون أن يؤسسوا حياة مستقرة على أراضي هذه القرى، مدّعين أنها ليست أرضهم، وأنّهم إلى أرضهم هم عائدون؛ وهذا ما أكده لي جيل النكبة وجيل ما بعد النكبة”. ( ندوة بمناسبة صدور كتاب بدو النقب والكولونيالية: وجهات نظر… mada-research.org).
إن ما قامت وتقوم به إسرائيل تجاه البدو العرب الفلسطينيين في النقب، من سياسات وتشريعات وإجراءات، استهدف ويستهدف محو الهوية الحضارية والقومية لعرب النقب، واستبدالها بهوية إسرائيلية مزيفة والقيام بعملية تهويد شاملة للمنطقة تمحي هويتها العربية الفلسطينية. فبعد التهجير والتشريد القسري لمعظم سكان النقب عام 1948، قامت دولة الكيان الصهيوني بتهجير قسري آخر لمن تبقى من السكان، فأبعدتهم عن أراضيهم وديارهم الأصلية، حيث جمعت العدد الأكبر منهم في منطقة معزولة باتت تعرف ب” منطقة السياج” في المثلث بين عراد وديمونة وبئر السبع، و تشمل (7) تجمعات هي: تل السبع، ورهط، وشقيب السلام، وكسيفة، وعرعرة النقب، وحورة، واللقية. وبقي عدد من سكان النقب الأصليين في أراضيهم وديارهم الأصلية لكنهم أبعدو قسرا إلى مناطق أخرى لأكثر من مرة، كما حث مع أهالي أم الحيران، وقاموا ببناء بيوت ومساكن لهم في المناطق الجديدة، وهي المواقع التي باتت تعرف بالقرى غير المعترف بها، وعددها يصل إلى (45) قرية. ويذكر الباحث الإسرائيلي أرنون سور من جامعة حيفا، أن عدد التجمعات البدوية خارج منطقة السياج تصل إلى (1000) تجمع، ويوجد فيها(64000) بيتا، وتزداد بيوتها بمعدل (2000) بيت سنويا.( علي ضاهر إبراهيم(2008)، بدو النقب قبل العام 1948، مؤسسة فلسطين للثقافة).
إن مثال أم الحيران يلخص بشكل مكثف سياسة التهجير القسري والتطهير العرقي والفصل العنصري التي اتبعتها وتتبعها إسرائيل تجاه السكان العرب الفلسطينيين بعامة وفي النقب بخاصة. فأهالي أم الحيران هم من عشيرة أبو القيعان، ويعودون في أصولهم إلى ديار منطقة وادي سبالة، أبعدتهم السلطات الاسرائليلية عام 1952 إلى اللقية، وقامت لاحقا بابعادهم الى وادي عتير- حيران حيث أقاموا مساكنهم. ولأنهم متمسكون بالعودة إلى ديارهم الأصلية، ويرفضون عيشة الذل الموجودة في القرى غير المعترف بها حيث غياب البنى التحتية و كافة الخدمات الأساسية، ولأن موقع القرية يقف حجر عثرة في وجه مخططات التهويد، قامت وتقوم سلطات الاحتلال بهدم بيوتها واضطهاد أهلها والتنكيل بهم بدم بارد. و لعل المثير للسخرية هو أنه مقابل ال(1000) ساكن من أهالي أم الحيران الذين يراد هدم بيوتهم وتهجيرهم ستقام ” مستوطنة” لعائلة ” زلتسر” اليهودية التي لا يتجاوز عدد أفرادها (5) أشخاص!!!
من أجل مصادرة الأرض وتهويدها وحرمان مالكيها الأصليين منها ومن العودة إلى ديارهم وممتلكاتهم، شرّعت إسرائيل قوانين جائرة، ومنها قانون أملاك الغائبين لعام 1951 وقانون الأراضي لعام 1953( الذي بموجبه حولت حوالي 13 مليون دونما من الأرض لملكية الدولة)، وقانون التخطيط والبناء لعام 1965. وفي عام 2004 سن قانون” طرد الغزاة” الذي بموجبه اعتبر سكان النقب الأصليين أصحاب الأراضي ” غزاة” يجب طردهم!!!وصادقت الحكومة الاسرائيلية عام 2011 على ما عرف ب ” مخطط برافر”، والذي بموجبه يستهدف مصادرة(800) ألف دونم، وهدم البيوت الموجود في”قرى الشتات”، مما يعني إعادة تهجير (70) ألف إنسان من أراضيهم.
وتعود المخططات التهويدية والتطهيرية العرقية الإسرائيلية تجاه النقب إلى عهد بن غوريون. ففي رسالته لابنه عاموس بتاريخ 5 تشرين أول عام 1937، كتب يقول: “أرض النقب محفوظة للمواطنين اليهود، متى وأينما شاؤوا ذلك. ويجب علينا طرد العرب لنحلّ مكانهم، ولو تطلّب ذلك استخدام القوة فإننا نملك قوة هي طوع إرادتنا، ليس لطرد العرب وترحيلهم فحسب، إنما لضمان حقنا في الاستيطان في هذه الأماكن”. وفي الطريق المؤدّي إلى بيت بن غوريون ستجد نصوصًا منحوتة على الجانبين مثل: “إن اختبار الشعب الإسرائيلي سيكون في النقب”.( الرسالة نت، النقب الميت..نكبة جديدة يواجهها أهالي النقب alresalah.ps/ar/post/154278). وبعد بن غوريون، الذي حاول تطبيق ما قاله لأبنه، طرح وزير أركان الجيش الإسرائيلي موشي ديان مشروعا أسماه ب” ثورة” لتهويد النقب تحت مسمى ” التطوير” ومفاده تحويل البدو إلى عمال في الصناعة والخدمات والبناء. ويكشف الدكتور شكري الهزّيل أبعاد هذا المخطط باستنتاج: ” إذن، الهدف الكامن وراء ذلك المشروع هو سلخ البدويّ نفسيّاً ووجوديّاً عن بداوته، وجرّه إلى بيئة مدنيّة مهجّنة يضطلع فيها الاحتلال بعملية «التأديب المدني» لصقل شخصية «المواطن العصري الأليف» الذي يريده الاحتلال، بعيداً عن قيم العناد والتمسّك بالأرض والمقاومة التي جبلتها الصحراء داخله. كذلك، سيتمزّق النسيج العشائري الدقيق، الذي كان يحكم علاقات العشائر البدوية منذ مئات السنين. ستجد تلك العشائر نفسها مضطرة إلى التعايش في بيئة واحدة ضيّقة، بعدما كانت تمارس حياتها بحرّية أكبر في الحيّز الصحراوي المفتوح، وتحظى كلّ واحدة منها بنوع من الاستقلالية في حيّزها الخاص. ربّما ذلك ما يفسّر ارتفاع نسب الجريمة في القرى المعترف بها التي يسكنها خليط من العشائر البدوية، عنها في القرى غير المعترف بها”.(سياسة إسرائيل نحو عرب النقب www.arabtimes.com).
وطرح أرئيل شارون لاحقا، في سبعينيات القرن الماضي، مخططا تهويديا جديدا تحت عنوان تحويل النقب إلى “محمية طبيعية”، أزيل بموجبه (900) وحدة من مخيمات البدو وتم على أنقاضها إنشاء(59) مزرعة يهودية جديدة. وفي عام 2005 طرح مشروع ” تطوير النقب” وترافق ذلك مع مخطط الانسحاب الاسرائلي من قطاع غزة، حيث كان من المفترض أن يوطن المستوطنون الذين أخلوا من مستوطنات غزة. وفي نظرة سريعة على ذلك المخطط، يتبين أن الهدف كان إقامة مستوطنات يهودية في مواقع حساسة ذات أهمية إستراتيجية لمنع التواصل بين غزة والضفة الغربية.وهي ذات المنهجية والعقلية الاستيطانية التي أتبعت في الجليل الفلسطيني سابقا، وفي الضفة الغربية لاحقا، والتي تستهدف تغيير معالم الأرض والاستيلاء على الأماكن المهمة فيها ومنع تواصل التجمعات السكانية الفلسطينية. وإذا كانت السياسة الاستعمارية الاستيطانية الإسرائيلية التي اتبعت تستهدف الاستيلاء على أكبر مساحة ممكنة من الأرض بأقل عدد من السكان الفلسطينيين، فإن السياسة المتبعة في النقب هي ذاتها، ولكنها هنا وتجاه سكان النقب بالتحديد، تستهدف تجميع أكبر عدد من السكان في أقل مساحة ممكنة من الأرض.
إن صنوف التنكيل والاضطهاد من قبل الحكومة الإسرائيلية للعرب الفلسطينيين سكان النقب عديدة ومتنوعة، وصلت إلى مستوى عميق في ارتكاب الجرائم بحق الإنسان والأرض/ مثل رش المحاصيل الزراعية بالمواد السامة، وهو ما اعتبرته المحكمة العليا بعد رفع اعتراض من قبل مركز “عدالة” غير قانوني، مما جعلها تلجأ لجريمة أخرى عبر حرق تلك المحاصيل.
لكن هذه الجرائم المستمرة من قبل دولة الكيان الصهيوني تواجه اليوم من قبل جماهير النقب بطرق ووسائل عديدة ومتنوعة على كافة الصعد الشعبية والقانونية والسياسية، ولا زال سكان البلاد الأصليين ( ويبلغ عددهم اليوم حوالي من 320 ألف نسمة) متشبثين بأرضهم وملكيتهم لها ويدافعون عنها بكل ما يستطيعون ومعهم بقية العرب الفلسطينيين في منطقة 1948، متسلحين بحقهم التاريخي وحقوقهم المدنية المكتسبة وبالقانون الدولي. وما جرى من أحداث مؤخرا والحشد الكبير الذي شهدته جنازة شهيد أم الحيران المرحوم يعقوب أبو القيعان، لدليل واضح على ذلك. لكن أهالي أم الحيران والنقب ومعهم كل الفلسطينيين في المثلث والنقب ينظرون بعين الأمل لنصرتهم والتضامن معهم من قبل أبناء شعبهم الفلسطيني وكل العرب. ويبدو لي أن حالهم كبقية حال الشعب الفلسطيني قد بات بأمس الحاجة للحماية الدولية في مواجهة الصلف والعنجهية الصهيونية المتمادية بسياسة التطهير العرقي والفصل العنصري.