المثقّفُ الكولونياليّ والاندماجُ الحداثيّ

مقال.. أيوب جمال الشنباري

شَهِدَ القرنُ الماضي أحداثًا سياسيّةً وعسكريّةً وفكريّةً ونهضويّةً واجتماعيّةً وعلميّةً في مجالاتٍ شتّى، وصيغتْ مفاهيمُ كثيرةٌ، وأُعيدَ نشاطُ مصطلحاتٍ عدّة، كان من أبرزها شيوعًا وتناولًا مصطلحَا: (الكولونياليّة والحداثة). ولم يكن نشوءُ مصطلحِ الكولونياليّةِ تحديدًا إلا توازيًا مع تنامي الرأسماليّةِ قوّةً عظيمةً صاعدةً في المجتمع الغربيّ، وشنِّ الغزوِ الأوروبيّ على أسيا وأفريقيا، إلى أنْ بلغَ المصطلحُ ذروةَ الشيوعِ والاستخدامِ تزامنًا مع تعاظمِ رأسِ الشرّ المسمّاةِ بالإمبرياليّة، المتمثّلةِ بالقطبِ الأكثرِ شرًّا واستبدادًا في هذا الوجود، وهو القطبُ الأمريكيّ.

ومع ظهورِ الإمبرياليّةِ قوةً غاشمةً جاثمةً على صدرِ الشعوبِ المقهورةِ والدولِ المنكوبة؛ رأى بعضُ المفكّرين في مفهومِ الإمبرياليّة رديفًا للكولونياليّة، وبعضٌ آخرُ ربط مفهومَ الكولونياليّةِ بشكلٍ وثيقٍ في سياقِ التطوّرِ التاريخيّ مع حركةِ التنوير والعقل الاستكشافيّ المرافقة لتطوّر العلوم.

وبعدَ هذه اللمحةِ السريعة، لا بدَّ من الوقوف قليلًا أمامَ عنوان المقالة، فما المقصودُ بالمثقّف الكولونياليّ والاندماج الحداثي؟ قبلَ الإجابةِ عن السؤال، ينبغي تقديمُ تعريفٍ موجزٍ لمصطلحي الكولونياليّةِ والحداثة.

“تعرّف الكولونياليّة؛ بمعنى (الهيمنة والسّيطرة) لدولةٍ ما على أراضي دولٍ أخرى وشعوبِها، وقد درجتِ التّرجماتُ العربيّةُ على توصيفِها (بالاستعمار والاستعماريّة)”

أمّا الحداثةُ؛ فهي أوسعُ في معناها الدلاليّ، ولا يمكنُ تحديدُ المقصودِ بها إلا حسبَ سياقِ الحقل المعرفيّ الواردة فيه؛ لأنّ انتقالَ المفاهيم من حقلٍ معرفيٍّ إلى آخر، يستلزمُ إحداثَ تغييرٍ في بنائها الدلالي؛ لتبيئتَها والحقلَ الذي تنتقل إليه، ولا يصحُّ منطقيًّا تعريفُ الحداثةِ مجرّدةً دون سياقٍ لها يُفضي إلى معنًى محدّد؛ لكن سأضعُ تعريفًا اصطلاحيًّا سائدًا استخدمَهُ كتّابٌ آخرون، وهي تعني “الانتقال من حالةٍ قديمةٍ إلى حالةٍ جديدةٍ أو تحديثها ارتباطًا بالزمن، وتشملُ وجودَ تغييرٍ ما”

وبعدَ ذكرِ تعريفِ المصطلحين، يجدرُ بي أن أشيرَ إلى ماهيّة المثقّف الكولونياليّ المقصود هنا؛ فمن هو؟ وما دورُه؟

يمكنني تعريفَه: بأنّه الإنسانُ الذي يملكُ اطّلاعًا معرفيًّا واسعًا، وقدرًا كبيرًا من المعلومات المبنيّة على مصادرَ معرفيّةٍ وسلوكيّة، أنتجها المستعمِرُ (بكسر الميم)؛ تلبيةً لأهدافه، ضمنَ سياقاتٍ وظروفٍ هُيّئت له؛ بهدفِ إعادةِ ترويجِها بين أوساطِ الشّعوبِ العربيّة؛ للقَبولِ بها أيديولوجيّةً؛ لتحطيمِ هُويّتِهم الثقافيّةِ والتاريخيّة.

وكما يتّضحُ من التعريف، نستنتجُ أنّ دورَ المثقّفِ الكولونياليّ هو إعادةُ تناولِ التراثِ الفكريّ الاستعماريّ/الاحتلاليّ ترغيبًا به، ونشرِهِ في العقلِ الجمعيّ لدى الشّعوبِ العربيّةِ التي نالت استقلالَها (التي ما زال معظمُ مفكّريها ومثقّفيها يعيشون في إطارِ نزعةِ ما بعدَ الاستعمار/الاحتلال، والخيال السوسيولوجي دون الوصولِ إلى نتائجَ إيجابيّةٍ وحلولٍ تمكّنهم من الارتقاءِ بمجتمعاتِهم نحوَ السيادةِ الوجوديّةِ والفكريّةِ والسياسيّة… إلخ، بالشكلِ الصحيح)؛ ضمنَ سياقٍ حداثيٍّ تدميريٍّ ممنهجٍ يخدمُ المستعمِرَ/المحتلّ؛ لطمسِ الهُويّةِ الثقافيّة، وإحياءِ فكرةِ الاتّباع الثقافيّ، والانقيادِ السياسيّ والمصيريّ من خلال الاندماجِ الحداثيّ الأعمى، وإنهاءِ حالةِ العقلِ النقديّ للحيلولةِ دونَ تقدّمِهِ واعتمادِهِ نهجًا فكريًّا نقديًّا في مجالاتِ الحياةِ كافةً لدى تلك الشّعوب، (وليس العكس المراد من أصل الحداثة)؛ في محاولةٍ لتهيئتها بالقَبول بفكرة الاستعمار/الاحتلال مرّةً أخرى، لكنّه استعمارٌ/احتلالٌ أكثرُ ذكاءً، وأعمقُ تأثيرًا من ذي قبل!

ومن الملاحظِ في الآونةِ الأخيرةِ كثرةُ الحديثِ عن ضرورة العصرنةِ والاندماجِ الحداثي عبرَ وسائل إعلامٍ عربيّةٍ مختلفة، على نحوٍ يُظهر مدى تبني السّلطة العربيّة الإعلاميّة لما يريده الغربُ الاستعماري/الاحتلالي جملةً وتفصيلًا، ومدى هيمنته وتحكّمه في الإعلام العربيّ، الذي هو أهمُّ أدوات الثأثير في شعوب المنطقة؛ لكنْ أيُّ حداثةٍ وأيُّ عصرنةٍ يقصدون؟

إنّ مواكبة التطوّر والعصرنة، وتحديث الوسائل الفكريّة والسياسيّة والاجتماعيّة، (وَفْقَ مفهوم الحداثة من حيث الأساس، وهو سيطرةُ العقلِ والعقلانيّةِ على جميع جوانب الحياة، أو فلسفة الذاتيّة، وعدم خضوع الإنسان للسلطة ما الورائيّة…، وليست تلك الحداثة الملوّنة التي صاغها المستعمِر/المحتلّ مشروعًا خدمةً لأهدافه، واستكمالًا لهيمنته وسيطرته، التي استخدمها أيديولوجيّةً لتحطيم الثقافة العربيّة)؛ ينبغي أن تكون انطلاقًا من استراتيجيّة المثقّف المعبّرة عن هُويّته الإنسانيّة والثقافيّة والأخلاقيّة والوطنيّة والسياسيّة والتاريخيّة، ثُمّ رؤيته القوميّة والعروبيّة، تنسجمُ وطبيعةَ المجتمعاتِ التي خضعت للاستعمار/الاحتلال من قبل، مع ضرورة مراعاة الصبغة التراثيّة الفكريّة والقيميّة والأخلاقيّة الخاصّة بتلك المجتمعات، ودراسة ما طرأ عليها من تحوّلات وتغييراتٍ على الصُّعدِ كافةً في ظروفها التاريخيّة السابقة والراهنة دراسةً تاريخيّةً منهجيّةً صحيحة، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ تلك المجتمعات النامية تعدُّ دولًا مستهلكةً لا منتجةً في عصرنةٍ معولمةٍ شرسةٍ استباحت كلَّ ما حولها كالنار في الهشيم.

يقول الدكتور خلدون سمان، في كتابه “صراع الحداثة”: “إنّ الغرب يسعى إلى إقناع الشعوب المستعمَرة/المحتلّة بسموّ ثقافة الغرب ورقيّها، وتدنّي ثقافة الشرق وانخفاضها”. وأضاف: “إنّ الاستعمار/الاحتلال الغربي يسعى إلى إقناع شريحة نُخَبِ المفكّرين والسياسيّين العرب بعدم أهليّة الثقافة العربيّة “الإسلاميّة”؛ لعدم تماشيها مع متطلّبات العصر الحديث”.

وبالرغم من تخلُّصِ الدول العربيّة من قيد الاستعمار/الاحتلال العسكريّ الغربي؛ إلا أنّ الأفكار الاستعماريّة/الاحتلاليّة، ما زالت متجذّرةً في عقول كثيرٍ من النخب الفكريّة والسياسيّة في المجتمعات العربيّة. وإنْ كان في تعاظم ظاهرة التغريب الراديكاليّة ضربٌ من التطوّر والتقدّم لمجتمعاتنا العربيّة – موضوعيًّا – إلا أنّها أسهمت كذلك بالمحاولة الفعليّة من وضع الثقافة العربيّة موضعَ التشكيك والمطالبة بمحو آثارها، ورفضها هُويّةً ثقافيةً وتاريخيةً للعربيّ “المتحدّث”!، وهذا انشغالٌ يتنافى مع الهدف الأسمى للحداثة تجاهَ تطوّر المجتمعاتِ العربيّة؛ إذ جاء ذلك الانشغالُ من تحت عباءة الحداثة المسمومة الخادمة للاستعمار/الاحتلال بالدرجة الأولى.

ومن الخطورة بمكان، أن يُفهم الاندماجُ الحداثي في المجتمعات العربيّة – كما هو سائدٌ الآن في الغالب – ويُنقلَ ويُروَّجَ له بصورةٍ خاطئة، على نحوٍ تذوبُ فيه الأخلاق، وينسلخُ منه الانتماء، وينعدمُ في طيّاته الالتزامُ الوطنيُّ والقيميّ، بشكلٍ يعيدُ هيكلةَ استعمار/احتلال العقول قبل الدول، للسيطرة على الإنسان العربيّ بكلّ مكوّناته، وجعله أشبهَ بالروبوت منه من الإنسان!

وهذا ما يسعى إليه الغربُ من تصدير حداثته الملوّنة منذ عقود؛ لخلق مجتمعاتٍ عربيّةٍ أشبه بالأسواق المفتوحة المستهلِكة لسلعه دون إنتاجٍ منها، وصناعةِ جماهيرَ موجّهةٍ تستهلك إعلامه وتروّج له دونَ وعيٍ أو ثقافة؛ أي أن تكون المجتمعاتُ العربيّةُ حواشيَ فاعلةً نشطةَ الاستهلاك، دون أن يكون لها دورٌ في عمليّة الإنتاج المعرفيّ والفلسفيّ والسياسيّ والتاريخيّ بالمعنى الإنسانيّ والحضاريّ والنهضويّ؛ فقط عقولٌ مستهلِكةٌ ومجتمعاتٌ عاجزة؛ هم صدّروا لنا حداثةً مسمومةً تخدمُهم هم لا نحن، وهي أشبهُ ما تكون باستراتيجيّة “الإلهاء” التي تحدّث عنها المفكّر الأمريكي نعوم تشومسكي؛ فالغربُ الأورو – أمريكي لم يكتفِ بالتوسّع الرأسمالي ليضمنَ المركزيّة الاقتصاديّة، ولا بالتوسّع الاستعماري/الاحتلاليّ ليضمنَ المركزيّة الجيوسياسيّة، بل أراد المركزيّةَ الحضاريّة بالمعنى الفلسفيّ والتاريخيّ والوجوديّ الشامل؛ تلك التي بلغ أعلاها قبل أدناها بفضل مشروع الحداثة، وتمكّن من المحافظة عليها حتّى اليوم، وما زال يحرصُ المستعمِر/المحتلّ على إبقاء هيمنته على العالم العربي، وإبقاء سلطته على مشروع الحداثة فيه، ويأمل في استمرارِها إلى الغد ما بعد الحداثي.

وهكذا اليوم يستباحُ العقلُ العربيُّ ويصبحُ فريسةً لثقافة الأجنبيّ المدمّرة انطلاقًا من طبيعته الاستهلاكيّة لوسائل الحداثة الاستعماريّة/الاحتلاليّة المتنوّعة والكثيرة؛ وما يسرّعُ عمليّة الغزو الفكريّ والسيطرة الأخلاقيّة والهيمنة النفسيّة والاجتماعيّة وجودُ أصواتٍ داعيةٍ للحداثة “العمياء” (المثقّف الكولونيالي) – بقصدٍ أو دونه – دون إخضاعها لمقاييس المجتمع؛ الوطنيّة والأخلاقيّة والسياسيّة والاجتماعيّة والفكريّة المعبّرة عن هُويّته وأصالته، في ظلّ غياب أو ربّما تغييب العقول الداعية للإنتاج المعرفي، والتقويم الأخلاقي والسلوكي، بما يتواءمُ وعصرَ الحداثة انطلاقًا من أدبيّات المجتمع وأخلاقيّاته؛ فغدا العقلُ العربيُّ المسهتلِكُ سلعةً في يد الإمبرياليّة المتوحّشة الطامحة للسيطرة على كلِّ شيءٍ في هذا الوجود؛ الإنسان، والحيوان، والنبات، والجماد، بصورةٍ تشي باستعمارٍ/احتلالٍ جديدٍ هو أكثرُ ذكاءً، وأعظمُ خطرًا، وأسرعُ تأثيرًا في طمسِ الهُويّةِ الثقافيّةِ والأخلاقيّةِ والسياسيّةِ والاجتماعيّةِ والتاريخيّةِ للمجتمعاتِ العربيّة.