غسان كنفاني- نهلة راحيل غسان كنفاني

غسان كنفاني في المشهد الثقافي الإسرائيلي

أقلام- مصدر الإخبارية

بقلم: د. نهلة راحيل: ُيُعد الأديب الفلسطيني غسان كنفاني (1936- 1972) أحد أهم الأدباء العرب الأكثر تأثيرًا- حتى الوقت الحالي- في المشهد الثقافي الإسرائيلي، رغم قصر حياته ومشواره الإبداعي، حيث استلهم العديد من الكتّاب الإسرائيليين مضامين أعماله الأدبية والنقدية، بأشكالها المتنوعة، في إبداعاتهم المختلفة وتحاوروًا معها؛ محاولين استنطاق ما تتضمنه من رسائل سياسية ورؤى إيديولوجية؛ تخص قضايا الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي في الأساس. ومع تغير شروط الواقع الحالي ما زالت قراءة الإبداع الأدبي والفكري لكنفاني محل اهتمام المبدعين والباحثين المنتمين للمدونة الثقافية في إسرائيل على اختلاف ميولهم.

ولذلك، كان من الطبيعي الاهتمام بترجمة معظم نتاجات كنفاني إلى اللغة العبرية وتقديمها للقارئ الإسرائيلي سواء بهدف كسر العزلة المعرفية التي أصابت الساحة الثقافية الإسرائيلية من ناحية، أو بهدف إعادة قراءة نتاج كنفاني بوصفه أديب القضية الفلسطينية الأبرز من ناحية أخرى. وهنا تجدر الإشارة إلى أن عملية النقل الترجمي تتم في إطار منظومة قوى- سياسية وثقافية- قد تكون غير متكافئة، حيث يُنقل الصوت الفلسطيني من خلال صوت المترجم ووساطته.

وهناك مساهمات بارزة في هذا المجال لعددٍ من المثقفين المهتمين بترجمة الإبداع العربي إلى العبرية، مثل: الأديب ذي الأصل العراقي شمعون بلاص (1930- 2019) الذي قام بترجمة ثلاث قصص قصيرة لكنفاني، وهي “أرض البرتقال الحزين” و”أبعد من الحدود” و” السلاح المحرم”؛ ضمن قصص فلسطينية من إعداده وترجمته صادرة عام 1970، وقام بتحرير ترجمة “رجال في الشمس” و”ما تبقى لكم” في عام 1978. وكذلك مثل: عالم الاجتماع الشهير يهودا شنهاف (1952) الذي قام بترجمة “ورقة من غزة” وهي واحدة من قصص غسان كنفاني المدرجة في مجموعته القصصية “أرض البرتقال الحزين”.

وبجانب الترجمة، تنوعت أشكال الاستدعاء الأخرى ما بين الإعداد المسرحي والسينمائي والكتابات النقدية والمحاورات الروائية. فقد حظي كنفاني باهتمام بالغ؛ نظرًا لدوره البارز في دعم القضية الفلسطينية والتعبير عنها، فتمت مسرحة روايتيه “عائد إلى حيفا” و”رجال في الشمس” وعرضهما على خشبة المسرح الإسرائيلي، كما تم عرض قصته للأطفال “القنديل الصغيرة” في مسرح ألمينا، وهو مسرح متعدد الثقافات للأطفال والشبيبة يرعاه مجموعة من الفنانين اليهود والعرب.

بالإضافة إلى استدعاء أهم تيّمات أعمال كنفاني وتوظيفها في بعض الأدبيات العبرية التي تلتفت إلى قضايا الوطن واللجوء والصراع، وتحاول الرد عليها أو استكمالها، بما يخدم الراهن الأيديولوجي والثقافي القائم في المجتمع، وبما يعبر- في المقام الأول- عن رؤى وأفكار كاتبيها الذين قد يقومون باستدعاء تلك التيّمات أحيانا بالإعلان عن ذلك، وأحيانا أخرى دون الإشارة إليها؛ معتمدين على رواج تلك الأفكار سواء لدى المُتلقي الفلسطيني المُلِم بإبداعات كنفاني أو المُتلقي الإسرائيلي المطّلع عليها عبر الوسيط الترجمي.

لماذا لم تدقّوا جدران الخزان؟

تُعدّ دراسة الكاتب الصحفي “داني روبنشتاين” (1937- ) المختص بالشؤون العربية، الصادرة مؤخرًا (يوليو 2022) عن دار نشر علليت هاجج، بعنوان: “لماذا لم تدقّوا جدران الخزان؟ غسان كنفاني- أديب المنفى”؛ أحدث الكتابات العبرية الشاملة التي تتناول كنفاني بالبحث والحوار. وقد تمحورت دراسات الكتاب، في معظمها، حول انشغال كنفاني بمشكلة المنفى الفلسطيني وأزمة اللاجئين الذين قضوا أغلب حياتهم في المخيمات. ويعرض روبنشتاين، داخل فصول الكتاب، كنفاني بوصفه ممثلا لجيل كامل من لاجئي المخيمات من الفلسطينيين، وهو الجيل الذي اِنهزم آباؤه في حرب 1948 وفقد دياره وهُجّر إلى بلاد الشتات؛ بسبب أحداث النكبة.

كما يستدعي الكتاب شخصية الأديب الفلسطيني الشهيد غسان كنفاني الذي كان من أوائل كُتّاب المنفى الذين عبروا عن أصوات الفلسطينيين الذين تركوا منازلهم ورائهم نتيجة النكبة وتشردوا خارج وطنهم. ويصفه بأنه رائد الأدب المقاوم الذي طالب شعبه بالتوقف عن رثاء الوطن المفقود والبكاء على الماضي، ودعاه إلى التخلص من عجزه وتحمل مسؤولية مصيره، دون الاعتماد على مساعدة الدول العربية الأخرى، وهذا ما كرس له كنفاني قلمه- بتعبير روبنشتاين- ودفع حياته من أجله.

ويستعرض ما خلفّه كنفاني من نتاجات مختلفة تتنوع ما بين الرواية والقصة والمسرحية والرسائل وكتابات للأطفال ودراسات نقدية وفكرية. ويقدم أهم مضامين نتاجات كنفاني مثل: أحوال المخيم الفلسطيني، ومعاناة الفلسطيني في المنفى، وشراكة القوى الاستعمارية والدول العربية في سلب الحق الفلسطيني، وكفاح الفلسطيني من أجل العودة إلى وطنه، وغربته داخل بلاد الشتات، وكذلك نضال الأم الفلسطينية داخل الوطن وخارجه. ويسلط الكتاب الضوء على محاولات كنفاني المستمرة – سواء عبر كتاباته الإبداعية أو من خلال مقالاته الصحفية – لاستنهاض الشعب الفلسطيني وحثه على المقاومة، خاصة بعد نكسة 1967.

من هنا، يَلّفت روبنشتاين النظر إلى أهمية تراث غسان كنفاني ليس فقط للجانب العربي والفلسطيني، بل كذلك للمتلقي الإسرائيلي الذي يمكنه أن يتعرف، من خلال هذا الإرث الأدبي والنقدي، على مراحل القضية الفلسطينية كما يمثلها أحد المُقتلَعِين عن أرضه، ويستكشف المجهول في هوية الفلسطيني الذي يحاول التفاوض معه والوصول إلى تسوية تحقق التعايش المحتمل.

حمائم في ميدان ترافلجار

جاءت رواية حمائم في ميدان ترافلجار (2005) للكاتب الإسرائيلي العراقي الأصل سامي ميخائيل (1926- )، لِتُجري حوارًا مع رواية “عائد إلى حيفا” لغسان كنفاني، وتلك الحوارية لم يكن ليدركها القارئ إلا إذا كان قد اطلع مسبقًا على النص الأصلي الذي تعالق نص ميخائيل معه، أي نص كنفاني.

ورغم تصدير الكاتب سامي ميخائيل افتتاحية روايته بعبارة توضح العلاقة الحوارية بينه وبين الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني – وهي “حوار مع غسان كنفاني”-؛ فإنه لم يعلن صراحة عن النص المقصود – وهو “عائد إلى حيفا”- الذي تحول لنص مركزي للمتلقي العربي الفلسطيني الذي يتوجه إليه ميخائيل بنصه الجديد، باعتباره استكمالًا لقصة كنفاني؛ ينمّي فيها في الاتجاه الذي يعبر عن رؤيته.

ويبدو أن ميخائيل قصد إجراء حوار مع أفكار الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني، واقتراح صياغة جديدة أكثر تعقيدًا، لرؤية كنفاني التي وُصفت بكونها رؤية أحادية للصراع؛ فأراد ميخائيل أن يكوّن العملان معًا متوالية حكائية لحبكة واحدة، تعكس الرؤية الثنائية للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي.

وقد تسبب صدور رواية سامي ميخائيل في ردود أفعال عنيفة منطلقة من وقوع ميخائيل تحت التأثير – ليس النصي ولكن الإيديولوجي- للفلسطيني غسان كنفاني، فرأت بعض الدوائر النقدية أن العملين لا يمكن التعامل معهما باعتبارهما نصوصا أدبية جمالية فقط، إنما بكونهما رسائل سياسية في الأساس. ولا تخلو تلك الاتهامات- التي رأت في التأثر بنص كنفاني نقيصة – من نظرة فوقية؛ تؤكد على مبدأ التراتبية الثقافية الذي تتعامل وفقًا له المؤسسات الأدبية داخل “المجتمع” الإسرائيلي، والذي يفسر الظواهر عبر الثقافية من منظور يخدم التمركز الغربي.

جاء الاشتغال الأكبر على شخصية “الابن” في النصين، فـ “دوف” لدى كنفاني يتحول إلى “زئيف” لدى ميخائيل، مع الاحتفاظ بالتفاصيل الحياتية للشخصيتين، إلا أن الكاتب سامي ميخائيل عَمَدَ إلى التوسع في شخصية الابن وتفعيل دورها المُغيّب لدى كنفاني؛ وذلك للكشف عن تبعات الهوية المزدوجة التي يحملها الابن والتي ورثّها لابنه بعد ذلك بالتبعية. ويبدو أن ميخائيل قد أراد بذلك إلقاء الضوء على الأزمة التي يعاني منها اليهود العرب – والكاتب ينتمي إليهم في الأساس- ومشاكل استيعابهم داخل “المجتمع” الإسرائيلي الذي يعد انعكاسًا واضحًا للمركزية الأوروبية التي لم تفرق في خطابها الاستعلائي بين الفلسطينيين واليهود العرب.

من هنا، يشير ميخائيل إلى أن “الطفل الذي وُلد حاملًا الهوية العربية، لكنه كَبِرَ وتعلم في المدارس الإسرائيلية هو يهودي وليس عربيًا”، حيث يتم إدخال العربي الفلسطيني أو اليهودي الشرقي على حد سواء في مسيرة من المحو الثقافي الشامل لهويتهما الأصلية، ودمجهما في “بوتقة الصهر” لتبني الهوية الجديدة، فدوف في نص كنفاني وزئيف في نص ميخائيل ما هما إلا انعكاس واضح لسامي ميخائيل نفسه؛ اليهودي العربي الذي وجد نفسه داخل سياق المجتمع الإسرائيلي الغربي التوجه، لكنه لم يتنكر لأصله الشرقي الحقيقي.

العودة إلى حيفا:
عمد الكاتب الإسرائيلي بوعز جاؤون (1971- ) كذلك إلى مَسرَحِة نص غسان كنفاني “عائد إلى حيفا” وتم عرضه على خشبة مسرح “هاكاميري” بتل أبيب عام 2008، في مسرحية حملت عنوان “العودة إلى حيفا”، حيث الحبكة والشخصية والأحداث جاهزة؛ فقد تأسس نص جاؤون على رواية كنفاني التي تحمل في بنيتها عناصر درامية تشمل على أشكال من التعبير الدرامي كالشخصيات والحوار والصراع والمؤشرات السردية والبنية الزمكانية؛ فشكّلت لدى جاؤون مرجعًا لجأ إليه خلال إعادة صياغة النص دراميًا وإعداده للعرض المسرحي.

ويصرح الكاتب عن دافعه لَمسرَحِة نص كنفاني بقوله: “أثناء دراستي في لندن قرأتُ رواية كنفاني القصيرة “عائد إلى حيفا” في نسختها العبرية، وأسرتني كثيرًا؛ فاللحظة التي دخل فيها الجندي اليهودي – الذي كان من قبل طفلًا عربيًا- إلى البيت بملابسه العسكرية صدمتني بشدة، فهذا مشهد مسرحي بكل معنى الكلمة؛ يؤطر كل ما حُكي قبله. إن هذا الصبي يرمز في رأيّ إلى جوهر مأساة الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني”.

وقد أثارت مسرحية جاؤون ردود أفعال غاضبة أثناء عرضها، إلى حد قيام بعض المعارضين بوقفات احتجاجية تنتقد مسرح “هاكاميري” وعروضه المسرحية بشكل عام، ذلك لأن المسرحية مستمدة من رواية كنفاني، الذي كان متحدثًا رسميًا باسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ، وهو أمر غير مسموح به في نظرهم، وهو اعتراض ينبع في الأساس من رفض الجمهور الإسرائيلي للكاتب الفلسطيني نفسه، دون الانتظار لرؤية العرض القائم على نصه أو تقييمه.

تحكي المسرحية قصة زوجين فلسطينيين (هما: سعيد، وصفية)، فقدا رضيعهما أثناء حرب 1948، في الوقت الذي تتولى تربيته أسرة إسرائيلية مكونة من زوجين (هما: ميريام، وإفرايم)، من الناجين من أحداث النازي، بعد أن فقدا هما أيضًا ابنهما في تلك الأحداث. وتعيش الأسرة اليهودية في منزل سعيد وصفية في حيفا بعد أن تتبنى رضيعهما وتقوم بتربيته ليصبح جنديا في الجيش الإسرائيلي. وبعد مرور عشرين عاما، يقرر الزوجان الفلسطينيان زيارة منزلهما بالحليصة في حيفا ومحاولة معرفة مصير ابنهما (خلدون/ دوف).

فقد حافظ جاؤون على الصراع الدرامي بأحداث الرواية وعلاقته بالشخصيات، لكنه طرح وجهة نظر مغايرة إزاء بعض الشخصيات، فقام بتحريك بعضها على مسرح الأحداث وتغيير مواقف وأدوار البعض الآخر، بما يسهم في تصعيد الصراع ويعكس قناعاته الخاصة ورؤيته لسياق نصه المُمسرح. وبهذا تكون مسرحيته مستمدة من رواية الأديب غسان كنفاني “عائد إلى حيفا”، التي انتهت باقتناع “سعيد” بأن القضية الفلسطينية/ الإسرائيلية لن تُحلّ إلا بتبني خيار المقاومة المسلحة، وهي النهاية التي شعر الكاتب الإسرائيلي بأنها لا تتماشى مع رؤيته الفكرية للصراع الفلسطيني/ الإسرائيلي؛ فعمد إلى تغييرها باقتراح حل التعايش وقبول الأمر الواقع؛ لأن الخاتمة كنهاية للأحداث في المسرحية تحدد عمومًا معنى النص ككل، وتعكس ملخصًا يفسر رؤية الكاتب للقضية التي طرحها خلال بنية العمل الأدبي.

نقلًا عن مجلة الهدف

اقرأ/ي أيضًا: زيارة الوفد الأمني المصري إلى غزة.. ماذا بعد؟

Exit mobile version