إسرائيل والنوم في العسل!

آراء _ مصدر الإخبارية

د. عبد المجيد سويلم

يعرف القراء مغزى ومعنى «النوم في العسل» حتى من دون مشاهدة فيلم النجم الكبير عادل إمام، وهو واحدٌ من أهمّ أفلام هذا النجم، إن لم يكن الفيلم الأهمّ لعادل إمام في كامل تاريخه الفنّي، حيث تجلّى الإبداع في هذا العمل الكبير بالتصدي لجملة من المفاهيم التي تعكس حالات الاستكانة والعجز في المجتمع، ومحاولات «المؤسسة» التستّر على أسباب هذا العجز بكل السبل والوسائل، وبإصرارٍ كبيرٍ على التهرب والهروب عن مواجهته، وكان كما هو معروف للثنائي المميّز، الكاتب وحيد حامد والمخرج شريف عرفة الدور الأكبر في إظهار المواهب الفنيّة للنجم إمام من خلال دور المحقّق.

«النوم في العسل» هو حالة متداخلة من الغفلة والتغافل، حالة من فقد الصلة بالواقع، والعمل على البحث «الواعي» عن كل سبب ممكن في تفسير هذا الواقع باستثناء السبب الوحيد، والذي لا سبب غيره على الإطلاق.

تنطبق حالة النوم في العسل على إسرائيل بصورةٍ نموذجية أكثر مما تنطبق على أيّ دولة في العالم.

إسرائيل لا ترى، ولا تريد أن ترى مطلقاً أن سرقة الأرض الفلسطينية، والتهامها وقضمها، وإقامة المستعمرات عليها، والعمل ليل نهار على ضمها سبب أو مبرّر لأيّ ردود فعل فلسطينية، سواء كانت عنيفة أو سلمية، وإسرائيل لا ترى أن سرقة المياه، وتدمير البيوت، أو العقوبات الجماعية، وعمليات القتل والإعدام الميداني، وكل أشكال الإذلال على الحواجز، أو حتى عربدات المستوطنين وإحراق العائلات الفلسطينية يمكن أن يكون سبباً «مقبولاً» في تفسير بعض العمليات التي يقدم عليها الشباب الفلسطيني، بل وتعتبر إسرائيل من حيث الجوهر أن لا علاقة أصلاً بين السياسات والممارسات الإسرائيلية وبين هذه العمليات، ما يعني أن إسرائيل تعتبر أن ما تمارسه وما تقوم به هو «شرعي وقانوني وطبيعي»، في حين أن ردود الأفعال على ما تمارسه هو «تخريب وإرهاب» يستحق أعلى درجات القسوة والقتل والتنكيل، بل أعلى درجات الحزم والردع، وصولاً إلى إطلاق العنان كاملاً لكل ما هو ممكن ومتاح في مواجهة هذه الأعمال.

باختصار فإن إسرائيل ترى أنّ من «حقّها» أن تستولي، وأن تنهب، وأن تقتل، وأن تسرق، وأن تذلّ، وأن تدمّر، وأن تحرق، وأن تحاصر، وأن تجوّع، وأن تهدّد، وأن تمنع، وأن تحرم، وأن تعتقل، وأن تعذّب، وأن تُبعد، وأن تطرد الناس من أرضهم، وأن تحرم العائلات من حقها في العيش تحت سقفٍ واحد، وأن تفرّق الزوجة عن زوجها، وأن يُحرم الأبناء من رؤية ذويهم، بل ترى أن حقّها أن تحتجز الجثامين، وأن يكون لديها مقابر بالأرقام، ومن حقها أن تستبيح المقدسات الإسلامية والمسيحية، ومن «حقها» أن تحفر وتنقّب، وأن تحدد الطرق والأسماء، ومن «حقها» تغيير الأمكنة واستبدال تاريخها، ومن «حقها» التحكُّم بالمواليد وسجلّاتهم، وبالمتوفَّون، ومن حقّها «تشغيل» العمّال عندما ترغب، وطردهم إذا أرادت.

باختصار، أيضاً، وباختصارٍ شديدٍ فإن إسرائيل تُشرعن لنفسها، وتُعبّئ مجتمعها أن من «حقّها» أن تقوم بكل ذلك لأنها صاحبة المُلكية الحصرية لهذه الأرض التي كانت تسمّى فلسطين، وصارت بمؤامرة دولية وإقليمية تسمّى إسرائيل، وأن الشعب الفلسطيني، مالكها الأصلي والشرعي هو حمولة زائدة على «دولة إسرائيل»، وأن أقصى ما يحقّ للشعب الفلسطيني هو العيش «المؤقّت» فيها، تحت القوانين التي تكرّس تهميشهم، والتي تجرّدهم من أي حقوق وطنية في وطنهم، وتحوّلهم إلى مجرّد سكان، لمراحل قد تمتد أو تقصر ـ حسب الظروف والمعطيات الملموسة ـ لهم بعض الاحتياجات وليس الحقوق، وهناك بعض الحاجة لهم ليعملوا في خدمة الاقتصاد الإسرائيلي، وذلك حسب حاجات السوق الإسرائيلية، ومن «حق» إسرائيل أن تفرض عليهم ما تراه ومن «واجبهم»، أيضاً، الامتثال التام لهذه القوانين.

أمّا إذا رأى أصحاب هذه الأرض الأصليون والشرعيون أن من حقهم ومن واجبهم مقاومة هذا الظلم فهناك وحينه يتحولون إلى إرهابيين ومخرّبين لأن المؤسسة الصهيونية لا تعترف بشرعية وجودهم، بدليل أنها تجردهم من هذه الشرعية، بصرف النظر عن شكل هذه المقاومة.

لاحظوا أن إسرائيل تقتل وتُعدم وتعتقل وتستولي وتنهب وتهدم في مواجهة الاحتجاجات السلمية، ولاحظوا أن إسرائيل تفعل ذلك في مواجهة التضامن الدولي مع فلسطين، إذ تسمى حركات التضامن مع هذا الشعب حركات مناصرة للإرهاب واللاسامية، ولاحظوا أن مجرّد التوجّه إلى المنظمات الدولية المعنية بالقانون الدولي تعتبره إسرائيل «إرهاباً» دبلوماسياً، ولاحظوا أن كل ردّ فعلٍ فلسطيني، من أي فلسطيني، في أي مكان، في الداخل أو الأراضي المحتلة، أو في الشتات هو بالعرف الإسرائيلي إرهاب وتخريب، ولهذا تنام إسرائيل في العسل، وتُصدم من ردود الأفعال الفلسطينية لأنها تعيش في وهم أنّ من «حقّها» أن تفعل ما يحلو لها، وما تزيّنه لها أوهامها وأحلامها ومعتقداتها دون أن ترى ولو لمرة واحدة أن الشعب الفلسطيني ما انفكّ يُقارعها منذ أكثر من مئة عام، وهو لم يخرج من هبّة أو انتفاضة إلّا ليدخل في هبّةٍ وانتفاضةٍ جديدة، وأن الأجيال الجديدة أكثر صلابةً وتصميماً من الأجيال السابقة، وأن الإرادة الوطنية لهذا الشعب ما تراجعت يوماً ولا هانت في يومٍ من الأيّام.

عجيبٌ أمر إسرائيل، وكيف لدولةٍ مثلها أن تقبل بمخادعة نفسها، والكذب على شعبها بهذه الدرجة من الخفّة والتدليس؟ وماذا يكسب الشعب الإسرائيلي من سياسة غياب حقائق الصراع وتغييبها سوى الغرق في المزيد من الأوهام، والمزيد من الأحلام الزائفة؟

أليس التزييف في نهاية المطاف، أو محاولات إخفاء حقيقة الصراع على هذه الأرض هو التفسير المنطقي الوحيد للشعور بالعجز بعد أكثر من قرنٍ كامل؟

ألا يعني ذلك أن الخوف من الاعتراف الحقيقي يحمل في طيّاته الإقرار بفشل المشروع من جذوره؟

أليس الهروب والتهرّب، ثم أليست سياسة الغفلة، وإشاعة الجهل بالصراع أو تجهيل الأجيال الإسرائيلية حوله هو الرعب الذي يفسّر النوم في العسل؟

الذي أراه أن المؤسسة الصهيونية بقدر ما جنت على شعبنا، وبقدر ما نكّلت به، وقتلت منه، وسرقت ونهبت أرضه وثرواته، وزيّفت تاريخه، وسطت على ثقافته وهويته وتراثه وروايته فإنها (أي المؤسسة الصهيونية) قد جنت على الشعب الإسرائيلي، أيضاً.

فعندما تتجاهل إسرائيل، أو تعمل جاهدة على تجاهل الوصول إلى مساومة تاريخية مع الشعب الفلسطيني، وتعتمد على عنصر القوة والبطش في قدرتها على الاستمرار بهذا التجاهل، فهي في الواقع تضع الشعب الإسرائيلي أمام خيارٍ واحدٍ ووحيد، وهو استمرار هذا الصراع بكل تكاليفه وأعبائه دون جدوى، ودون أي أمل بالانتصار.

فإذا كانت إسرائيل قد خسرت هذه المراهنة عندما كان الشعب الفلسطيني أضعف مما هو عليه اليوم بما لا يُقاس، وعندما لم يكن لديه بعد الدعم الشعبي العربي العارم والمطلق، وعندما كان من دون أي ظهير دولي فاعل، وعندما تمّ تشريده واقتلاعه وإلحاقه وفرض الوصاية عليه، فهل ستنتصر عليه بعد أكثر من مئة عامٍ من المقارعة اعتماداً على القوة، وعلى «النوم في العسل»؟

الحقن الإعلامي والأيديولوجي أوصل قطاعات واسعة من الشعب الإسرائيلي إلى مراحل «متقدمة» من النوم في العسل، وأغلب الظن أن هذا النوم بالذات هو أزمة إسرائيل التي لا قبلها أزمة، ولا بعدها أزمة.

كان عبد الوهاب المسيري (رحمه الله) قد قال يوماً: «إسرائيل نشأت وتطوّرت وتفوّقت بفعل عاملين اثنين؛ الدعم الغربي المطلق، والضعف العربي المطلق».

أعتقد أن مقولة المفكر المصري الكبير هي المقولة الأكثر عمقاً وجوهرية في تصوير الواقع الإسرائيلي.

مقابل ذلك، وحتى تاريخه لم أقرأ، ولا لمفكرٍ واحدٍ أن نظرية النوم في العسل يمكن أن تحلّ الأزمة الإسرائيلية.