وداعاً هاني النبيل.. بقلم طلال عوكل
أقلام _ مصدر الإخبارية
بقلم _ طلال عوكل
في أول أيام شهر نيسان الجاري، يوم الجمعة المنصرم قبل يوم واحد من الأول من شهر رمضان الفضيل، رحل عن دنيانا الأخ والصديق والرفيق المناضل والإعلامي والكاتب الصحافي هاني حبيب الذي لا يعرف الكثيرون أن اسمه هو نبيل شنينو.
كم يستطيع الإنسان السويّ، أن يبني من الصداقات القريبة إلى القلب والعقل، يشاركهم أسراره وخصوصياته ويسند إليهم ظهره وقت الشدائد؟ كتب ابني هاني «بوستاً» نشر على منصّات التواصل الاجتماعي يقول: «والد آخر يرحل عن هذا العالم، العمّ الغالي هاني حبيب في ذمة الله، الفراق صعب، والبكاء صعب والوجع صعب.. يحدث أننا نموت على مهل».
وقبل أيام قليلة كان هاني عوكل قد نشر «بوستاً» يقول فيه: «لي آباء كُثر.. قبل أعوامٍ قليلة غادرنا صاحب القلب الكبير والضحكة الجميلة العمّ الغالي أبو حسن شاهين، وبالأمس القريب تأثرنا لرحيل العمّ الدمث والمتواضع أبو علي ناصر (طيّب الله ثراه)، واليوم فجعنا بخبر وفاة العمّ الغالي أبو يحيى سليمان صاحب الابتسامة الحلوة والرُّوح المرحة..».
«بوستات» هاني تلخّص القصة، أربعة إخوة، ورفاق وأصدقاء ومقرّبون جداً، زاملناهم ورافقناهم لعقودٍ طويلةٍ، عشنا معهم خلالها أياماً وشهوراً وسنوات صعبة، لكن مع صحبتهم كانت الصعوبات مدعاة للرّاحة وتعظيم إرادة الاستمرار والنضال.
قد لا يكون أبو حسن وأبو علي ناصر وأبو يحيى من الشخصيات التي حفرت لها مساحة على مستوى الرأي العام الفلسطيني كما هو الحال بالنسبة لهاني حبيب، لكن صفحات الزمن الجميل، تحتفظ لكل منهم بذكريات تدعو للفخار، والأكيد أن كلّاً منهم كان سيحظى بمكانة واسعة لدى الرأي العام، لو أن الفرصة أُتيحت لهم.
كلهم مناضلون، كلهم أُصلاء، أُمناء على القضية، كلهم تضحويون متواضعون، وكلهم أصحاب سجلات مليئة بالمحطات التي يستحقون عليها كونهم فلسطينيين ينتمون إلى شعبٍ مناضلٍ أصيلٍ وعريقٍ.
من يستطيع تحمُّل مثل هذا الحجم من الفقد، لأقرب أصدقائه، وأحبابه، وكم بقي من هؤلاء، بعد أن مضى قطار العمر، دون أن يسمح بالتعويض؟
هاني حبيب قصّة حياة فلسطيني تشبه الكثير من أبناء هذا الشعب. وُلِدَ «أبو شادي» العام 1948، في عام النكبة ، من أسرة متواضعة في مدينة أسدود، ثم هاجرت العائلة قسرياً إلى غزة ، من دون أن يدري بأنه كان عليه أن يكون واحدا من آلاف الفلسطينيين، الذين يترتب عليهم أن يحملوا القضية، وأن يشاركوا في صياغة الردّ التاريخي على تلك النكبة.
درس في مدارس الوكالة في غزة، وحصل على شهادة الثانوية، ثم انتقل لدراسة القانون في مصر حتى السنة الثالثة، وحين وقعت هزيمة حزيران غادرها بحثاً عن العمل، بعد أن تقطّعت به السُّبُل، ولم يعد الأهل قادرين على تغطية نفقات دراسته.
مرّ على الأردن ثم إلى الكويت، ولكنه اختار أن يلتحق مع أعداد المتطوعين للدفاع عن الثورة خلال «أحداث أيلول» 1970 في الأردن واستقر به المطاف في إحدى قواعد الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، من هناك قطع علاقاته بحياته السابقة، واندمج حتى العظم في النضال الوطني. انتقل إلى لبنان وفي الطريق كان قد تعرض للاعتقال في سجن الجفر الأردني لحوالى خمسة عشر شهراً، وأربعة عشر شهراً أخرى في السجون السورية.
ثم التحق بمدرسة «الهدف» الصحافية، وخلال ذلك غادر إلى رومانيا للدراسة وحصل على شهادة الماجستير في الإعلام، والعلاقات العامة، ليعود مرّة أخرى للعمل كسكرتير تحرير في مجلة «الهدف».
غادر مع مقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية إلى سورية، ليتابع عمله في «الهدف» التي انتقل مركز عملها إلى دمشق، ومنها إلى الوطن في تموز 1994، حيث عمل مديراً في وزارة الإعلام.
وإلى لحظة رحيله، كان حاضراً بقوّة وتميّز على الفضائيات، الفلسطينية والعربية والدولية كمحلّل سياسي عُرف بجرأته وموضوعيته ومصداقيته، هو كاتب في جريدة «الأيام» منذ تأسيسها، وعمل محاضراً في العلاقات العامة والإعلام بكلية الدراسات المتوسطة في جامعة الأزهر، لنحو عشر سنوات.
كتب هاني آلاف المقالات، وشارك في مئات المؤتمرات وورشات العمل والحوارات، وأجرى مئات المقابلات الصحافية، التلفزيونية والإذاعية، وعبر منصّات التواصل الاجتماعي، ثمّة خط ومنهج واضح، وثابت ينظم كل هذا التراث والإنتاج لم يحد عنه راحلنا الكبير، بحيث شكّل هويته التي أصبح العامّة يتعرفون عليه من خلالها، هي هوية الصدق، وعمق الانتماء، وأصالة المنبع، والجرأة والموضوعية، محمولة على صفة التواضع والبساطة، ومحمية بعمق المشاعر الوطنية والإنسانية.
هاني حبيب معروف بزهده، ونظافة يده، وابتسامته التي لا تغيب، وحبّه لأصدقائه، ونزاهته، ورفضه المطلق للمتاجرة بمواقفه، وكان لا يتذمّر من أن الحياة لم تمنحه ما يستحق.
لم يكن قائداً كبيراً ولم يسعَ إليها، ولم يُعِر انتباها للألقاب ولم يُزاحم على مكاسب شخصية، حتى لو كان يستحقها، إنه كان ملاكاً يمشي على الأرض، يشبه الكثيرين من أقرانه الكتّاب الكبار الذين يذوبون في انتماءاتهم وهويّاتهم، وحُبّهم الشديد لبلادهم.
حين أُصيب للمرّة الأولى بجلطة دماغية، أصابت قدرته على النطق، اتصلت بالزملاء في «الأيام»، لأُخبرهم أن هاني لن يكتب مقالاً هذا الأسبوع، وسنرى ما يحدث بعد ذلك.
فوجئت أنه بعد خروجه من المستشفى حيث أمضى يومين فقط أنه عاد ليكتب مقالاته بانتظام، بالرغم من معانياته، فلقد كان يتابع الأخبار حتى وهو على سرير المرض في المستشفى.
يعرف هاني أنه كان بمقدوره أن يرتاح من الكتابة لـ»الأيام» خلال الوقت الذي يريده إلى أن يتشافى، لكنه لا يغادر طبيعته والتزامه وإصراره على متابعة دوره رغم كل الصعوبات. لقد خسر شعبنا قامة إعلامية وثقافية وإنسانية كبيرة، تضاف إلى الخسارات المتتالية التي سبقته من أعمدة كُتّاب جريدة «الأيام».
هذا فارس آخر يترجّل بعد حسن البطل، الفارس العتيد، وبعد ترجُّل عشرات من فرسان الزمن الجميل لعلّ ذلك يُسجلّ إضافة نوعية في صفحات كتاب النضال الفلسطيني من أجل الحرية والاستقلال. له من أسمائه نصيب كبير فهو إن كان هاني فهو عسل وإن كان نبيل فإنه نبيل حقّاً.