هاني حبيب… في وداع حارس الضمير
أقلام _ مصدر الإخبارية
بقلم أكرم عطا الله
هل يصاب القلب بعطب دائم؟
نعم، عندما يشهر الموت سلاحه ليختطف صديق العمر دون أن يترك لك متسعاً للمساومة، وعندما تقول لك زوجتك التي تستجمع كل قوتها وهي تحاول أن تتماسك قبل أن تفضحها نظرات حزن «مات هاني حبيب»، هكذا دون مقدمات، فالزلازل تأتي فجأة والصواعق تضرب بلا مقدمات.
بحبر الدمع يكتب القلم عزيزاً سكت قلمه للأبد، ويتركنا مثخنين بالجراح في معركة الحياة التي فقدت فيها الصحافة الفلسطينية واحداً من أعمدة خيمتها التي استظلت بها لعقود وهي تنتقل من دمشق وبيروت ونيقوسيا و غزة حيث الملاذ الأخير، لتشاء صدفة السياسة أن تحط به على شواطئها لنلتقي صدفة منذ أكثر من ربع قرن في ذلك الممر الصغير الذي أهداني صديقاً بهذا الحجم وأنا بعمر أبنائه.
مات ضمير الصحافة الفلسطينية الذي ظل أميناً لرسالتها حتى المقال الأخير الذي لم يغفُ يوماً، محافظاً على استقامة نادرة في زمن الانهيارات الكبرى، يكتب كراهب لم تتلعثم رسالته، حتى حين أُضيفت مساحة الرؤية كان الضمير الصلب متقداً ليشكل منارة لكل الصحافيين الذين اقتربوا منه. فقد كان بوصلة للقياس ولوجهة من عملوا في تلك المهنة أو لمن أرادوا أن يسيروا في طريقها أمناء على رسالتها.
اليوم هو الأحد، موعد نشر مقالته الدائمة منذ تأسيس «الأيام»، لم يرسل مقاله بالأمس كتقليد حافظ عليه في ربع القرن الأخير من حياته، لقد فقدنا واحداً من أبرز كتاب المدرسة الواقعية التي تقرأ أحداث الكون لتكون وجهتها الوطن الذي كان حلمه منذ أن كان مقاتلاً في الأغوار في ستينات القرن الماضي قبل أن ينتقل الى عالم الصحافة، في يوم الأحد كان اسمه يعتلي صفحة «آراء» ونحن نأتي خلفه لأنه أستاذ ومعلم وهادٍ.
كان هاني حبيب قديساً في يومياته التي خبرتُ تفاصيلها عن قرب ونحن نتجول في المدينة نهاراً لسنوات طويلة، عملنا في مكتب واحد، كان يأتي رجل كل يوم يتسلم مفاتيح سيارته ليغسلها يومياً، سألته بعد أن تكرر الأمر: لماذا تتسخ سيارتك كل يوم؟ أجابني: هذا رجل فقير ومعيل، وهذا شكل يحفظ كرامة البشر، فلا يجوز أن يشعر أنني أعطيه المال شفقة.. كان يعطف على كل متسولي الشوارع موزعاً ما لديه بلا حساب. وقد اعتدنا على المرور كل شهر على السوق القديم في مخيم الشاطئ الى محل رجل سبعيني يُصلح أدوات قديمة عفا عليها الزمن ليضع فقيدُنا يده في جيبه ويسلم على الرجل. فسألته ذات مرة ان كان قريبَه، أجابني: لا ليس قريباً فقد كنت يتيماً في صغري وكان هذا جارنا قبل أن ألتحق بالثورة، وكان أحياناً يعطف علينا. وظل كاتبنا متكفلاً بالرجل حتى مماته.
لا يتسع مقال لسرد تفاصيل مؤسسة انسانية متحركة اسمها هاني حبيب، ولا مدرسة صحافية عملاقة تجسدت في شخصه منذ أن بدأ حياته المهنية زمن غسان كنفاني في مجلة «الهدف» التي تصدرها الجبهة الشعبية، وليعمل سكرتيراً صحافياً لجورج حبش والذي ساهمت أخلاقه بكل تلك الإنسانية النادرة التي انتقلت الى كاتبنا، كنا ننام قيلولة الظهيرة في بيت الحكيم قال لي: لأفيق على صوته الهادئ يقول لي «هاني! ابني قوم عملت القهوة». كان جورج حبش يصنع القهوة لسكرتيره، هذا في السبعينات زمن العنفوان الثوري وخطف الطائرات عندما كان اسم الحكيم رقماً صعباً، كان بذلك التواضع الذي وجدته في تلميذه رحمهما الله.
كان هادئاً كنسمة صيف في تعامله مع البشر، وصادماً كعاصفة شتاء في تعامله مع الساسة، يحنو على صغار الموظفين ومَن هم أقل منه وظيفياً، ونداً صعباً لمن هم أعلى منه درجة، كان مدرسةً في الأخلاق، احترف مهنته ولم يهادن أو يساوم على مواقفه التي أغضبت كل العاملين في الحقل السياسي، وهو ما يتضح عندما نكتشف أنه لم يحظ بتكريم من المؤسسة السياسية التي أعطت أوسمة للكثير، لكن هذا وحده وسام راكمه الراحل على امتداد كتاباته لتجد صداها لدى عامة الناس الذين نعوه بما يليق بطهرانية نادرة التصقت باسمه.
كان شديد الذكاء وثاقب النظرة منذ أن عرفته منتصف تسعينات القرن الماضي، قال: لن تكون هناك دولة، هذا في ذروة الحلم مع عودة السلطة. رفَضَ تسليح الانتفاضة وقال: ستبدد كل شيء. وبعد أحداث 2007 وطرد السلطة من غزة قال: هذا سيستمر للأبد. وقد تحققت كل نبوءاته السوداوية، لم نصل للدولة، الانتفاضة بددت كل شيء، والانقسام تأبد.
مسألتان يجب ألا يقترب منهما الصحافي لأنهما ستغيران مواقفه، هكذا ظل يردد، المال والمنصب، فالمال سيحوله الى كاتب للدفاع عن الممول، والمنصب سيحوله للدفاع عن المصلحة وفي هذا مقتله. لذا مات فقيراً ككل الكتاب الذين لم يتاجروا بقلمهم، ظل محافظاً على توازنه في أشد لحظات فقدان التوازن. كان هادئاً واقعياً وحالماً، يائساً من الواقع لكن حالماً بالمستقبل، كان يتمنى أن نصل للاستقلال وأن ينتهي الانقسام، أن يرى أي شيء يتحقق، لكن الواقع وسياسييه كانوا أكثر إخلاصاً ووفاءً للكارثة..!!
اليوم فقدت الصحافة الفلسطينية واحداً من أهراماتها وحارس ضميرها ووريث أخلاقها، واحداً من رجال الزمن الجميل تاركاً ما يكفي من وجع الفقد، سيشعر الصحافيون والصحافيات بيُتم لا يقل عن يتم العائلة.. كان استثنائياً بلا حدود.. ملائكياً بلا حدود.. وداعاً يا صديق العمر.