شهد النظام العالمي خلال السنوات الأخيرة تحولات جوهرية أنهت فعليًا مرحلة النظام الليبرالي الذي ساد عقب انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991، وفتح الباب أمام نظام دولي جديد يتسم بتصاعد القومية والشعبوية ومراجعة القواعد التي حكمت العلاقات الدولية لعقود. وقد ارتكز النظام الليبرالي السابق على الهيمنة الأمريكية، التي سعت إلى إعادة تشكيل العالم وفق قيم الديمقراطية والأسواق الحرة والعولمة والمؤسسات متعددة الأطراف.
غير أن هذا النموذج واجه مقاومة متزايدة من قوى دولية غير ليبرالية، إلى جانب تصدعات داخل الغرب نفسه، تجلت بشكل واضح في صعود التيارات الشعبوية القومية، وعلى رأسها وصول دونالد ترامب إلى الرئاسة الأمريكية. بالتوازي، برز محور دولي يضم الصين وروسيا وكوريا الشمالية وإيران، يعمل على تقويض النفوذ الأمريكي وتحدي النظام الليبرالي القائم.
وشكّل الغزو الروسي لأوكرانيا عام 2022 نقطة تحول كبرى، إذ أطاح بمسلمة أساسية في الفكر الليبرالي، مفادها أن احترام الحدود الدولية بات قاعدة راسخة، لا سيما في أوروبا التي اعتُبرت بعد الحربين العالميتين قارة سلام. وأدى هذا التطور إلى إعادة الاعتبار لمنطق القوة والردع العسكري، ودفع الدول الغربية إلى الاصطفاف خلف أوكرانيا، عبر دعم عسكري واقتصادي واسع النطاق دون الانخراط المباشر في القتال.
في المقابل، يعاني الغرب من انقسام داخلي متزايد بين التيار الليبرالي التقليدي وتيار قومي شعبوي أقل التزامًا بالمؤسسات الدولية والتحالفات العسكرية، ما أضعف الثقة بمظلة الأمن الأمريكية. وتعزز هذا القلق مع إعادة انتخاب ترامب أواخر 2024، في ظل تبنيه نهج "أمريكا أولًا"، الذي أثار شكوكًا لدى حلفاء واشنطن في أوروبا وآسيا بشأن مدى استعداد الولايات المتحدة للدفاع عنهم في حال تعرضهم لتهديدات عسكرية.
أفضت هذه التحولات إلى تصاعد سباق التسلح عالميًا، وعودة قضايا الأمن القومي إلى صدارة الأجندات السياسية، مع ارتفاع ميزانيات الدفاع، وإعادة التسلح، وحتى النقاش حول العودة إلى التجنيد الإجباري في بعض الدول الأوروبية.
بالنسبة لإسرائيل، تحمل هذه المتغيرات أبعادًا مزدوجة. فمن جهة، قد تستفيد من الطلب المتزايد على صناعاتها الدفاعية المتقدمة وخبرتها العسكرية، خاصة في ظل تراجع الاعتماد المطلق على المظلة الأمنية الأمريكية. ومن جهة أخرى، يظل اعتمادها الاستراتيجي العميق على الولايات المتحدة مصدر قلق، خصوصًا في ظل الانقسامات داخل الإدارة الأمريكية وتراجع الدعم الشعبي لإسرائيل، لا سيما بين الشباب والتيار الديمقراطي.
وتتسم علاقة إدارة ترامب بإسرائيل بطابع متناقض؛ إذ يتبنى الرئيس الأمريكي موقفًا داعمًا لها، مدفوعًا بعوامل أيديولوجية وسياسية داخلية، أبرزها نفوذ التيار الإنجيلي، الذي يرى في إسرائيل حليفًا حضاريًا في مواجهة ما يعتبره تهديدًا إسلاميًا راديكاليًا. وقد تُرجم هذا الدعم عمليًا في ذروته خلال التدخل الأمريكي إلى جانب إسرائيل في الحرب مع إيران في يونيو 2025.
في المقابل، يبرز داخل معسكر ترامب تيار انعزالي قوي يعارض الانخراط في صراعات الشرق الأوسط، ويخشى أن تجر إسرائيل الولايات المتحدة إلى حروب لا تخدم المصالح الأمريكية، ما قد ينعكس سلبًا على الدعم العسكري والسياسي لإسرائيل مستقبلًا.
أما على صعيد التهديدات، فتواجه إسرائيل تصاعدًا في المخاطر نتيجة تعزيز تحالف خصومها، لا سيما إذا ما حصلت إيران على منظومات تسليح متقدمة من روسيا أو الصين. كما يبرز محور إقليمي آخر تقوده قوى مرتبطة بجماعة الإخوان المسلمين، ويضم قطر وتركيا، التي تتخذ مواقف عدائية تجاه إسرائيل، وتلعب أدوارًا متزايدة في ملفات غزة وسوريا.
في المقابل، تلوح فرص محتملة لتخفيف التهديدات، بفعل سعي إدارة ترامب إلى ترسيخ اتفاقيات السلام ومنع اندلاع الحروب. وقد أسهم تدخله في إنهاء الحرب في غزة، وإطلاق سراح الرهائن، والدفع بخطة سلام حظيت بموافقة دولية، رغم الشكوك الكبيرة حول تنفيذها. كما تظل احتمالات التطبيع مع السعودية عاملًا محوريًا قد يعيد تشكيل البيئة الأمنية الإقليمية، شريطة تحقيق تقدم حقيقي في المسار الفلسطيني.
في المحصلة، تقف إسرائيل أمام بيئة دولية وإقليمية شديدة السيولة، تجمع بين فرص تعزيز قدراتها ومكانتها، ومخاطر تصاعد التهديدات وتراجع الضمانات التقليدية. ويظل أمنها القومي مرهونًا بقدرتها على التكيف مع النظام العالمي الجديد، وإدارة اعتمادها على الولايات المتحدة، واستثمار التحولات الإقليمية والدولية بحذر استراتيجي بالغ.