المركزي

ما بعد المركزي… مسؤوليتنا لحماية المجتمع ونسيجه الوطني

أقلام _ مصدر الإخبارية

بقلم/ جمال زقوت

بانعقاد المجلس المركزي، وبغض النظر عن طبيعة التباين وعمق الخلاف حول انعقاده، ومدى شرعية ما تمخّض عنه من قرارات تنظيمية، والأثر المدمر الذي قد يُحَوِّل حالة الانقسام حول السلطة إلى صراع معلن حول شرعية المنظمة وعليها، يستمر الانقسام ومعه يتواصل إصرار الأطراف المهيمنة على المشهد على جانبيّ الانقسام على رفض مراجعة المسار والسلوك السياسيين، وأثرهما على تدهور مكانة القضية الفلسطينية، ومعها سبل حياة ومعيشة الناس الذين يعانون من ممارسات الاحتلال المباشرة، سواء بفعل حصار قطاع غزة التي تحكمها حركة حماس ، أو جراء أبشع الانتهاكات التي تتعرض لها الضفة الغربية من قوات الاحتلال، سيما في القدس المحتلة التي يواجه أهلها حملة تطهير عرقي، خاصة في حي الشيخ جرّاح، وغيره من أحياء المدينة المحتلة، دون أن تحرك السلطة ساكنًا للخروج من هذه الدائرة الجهنمية.

يبدو أن الحالة الفلسطينية تحولت بصورة لا لُبس فيها من مرحلة كان من المفترض أن تكون طبيعتها الرئيسية هي التحرر الوطني، وما استدعته نشأة السلطة لمتطلبات البناء الديمقراطي كرافعة انتقالية للخلاص من الاحتلال، وما تفرضه هذه الطبيعة المركبة من ضرورة ارتكاز للحالة الجماهيرية ووحدتها وقدرتها على الصمود والمقاومة الشعبية، انتقلت من هذه الحالة ومتطلباتها، إلى مرحلة سلطوية جوهرها إقصاء الناس عن العملية السياسية الداخلية، وعن كونهم حاضنة للكفاح الوطني، ومتطلبات الحكم الديمقراطي، سيما لجهة حقهم في دورية إجراء الانتخابات العامة كوسيلة جوهرية للمشاركة السياسية. هذه المرحلة بكل تداعياتها السلطوية التي فعليًا لا يمكن تشبيهها سوى بأنظمة الحكم البوليسي التي لا تأبه بحقوق الناس، وهنا نؤكد أن حقهم الأول يتمثل بالمشاركة في وأد الانقسام بالوسائل السلمية والديمقراطية، وثانيًا المشاركة في وضع أسس التوزيع العادل لأعباء مواجهة الاحتلال، وثالثًا تعزيز قدرتهم على الصمود كركيزة أساسية لمواجهة مخططات الاحتلال ومركزية جوهر ما يطلق عليه المقاومة الشعبية في هذه العملية وصيرورتها ودينامياتها، وفي مقدمتها الحق في حرية الرأي والتعبير والتظاهر والتنظيم، وهذه مسؤولية الحكومة “أي حكومة”، فما وصلت إليه حالة الانقسام وإدارة الظهر لمثل هذه القضايا التي بدون وضعها أولوية عليا على جدول الأعمال الوطني و الحكومي الممارسين وليس لمجرد مضغ الكلام ، تكون اسرائيل تقدمت خطوة خطيرة لتنفيذ استراتيجيتها في احتواء القضية الفلسطينية، ونقلها لمجرد بحث الأغلبية عن لقمة العيش التي يمكن توفيرها في سوق العمل الاسرائيلي، وهذا هو ” السلام الاقتصادي” ولا شئ غيره.

هذه المعضلات الجوهرية التي تتراكم على مدار سنوات أوسلو، والفشل المزمن ” إلا من رحم ربي” في بلورة فلسفة حكم تجمع بين مهمتيّ التحرر الوطني والبناء الديمقراطي، شكّلتا ركيزة الانقسام واستمراره بكل تداعياته. وفي الواقع، فإن هذا الأمر خلق تناقضًا بنيويًا خطيرًا في بنية كلٍ من الحركة الوطنية والسلطة المنقسمة والمهيمنة على المشهد. ففي وقت يسيطر طرفيّ الانقسام على فتات الموارد التي تبقيها اسرائيل في يدها، فإن هذه الموارد تهدر خارج العملية الوطنية، إن لم تكن تُبدد بصورة كبيرة جراء الفساد المستشري على ضفتيّ الانقسام. بينما تعاني الأغلبية الشعبية من سياسات الإفقار والحصار وقلة الإمكانيات التي تعزز صمودها، وتمكِّنها من مواجهة تحديات هذا الواقع. ذلك كله في ظل حالة من قلة الحيلة والتدوير الذاتي للأزمة السلطوية.

أمام هذه الحالة المعقدة والتي تزداد تفككًا، لابد من تحديد الأولويات الشعبية، وفي مقدمتها حماية النسيج الوطني للمجتمع الفلسطيني، وترسيخ متطلبات السلم الأهلي وروح التضامن الاجتماعي كركائز أساسية للصمود الوطني والميداني ومنع الانهيار. إن إنجاز هذه المهام الكبرى يستدعي استراتيجية متوسطة المدى لإعادة بناء الحركة الوطنية بمكوناتها الاجتماعية والسياسية والثقافية، من أدنى لأعلى وليس العكس، وهنا تبرز الحاجة لإنشاء لجان شعبية في كافة أماكن الوجود الفلسطيني، سيما في الضفة والقطاع المحتلين، دون استثناء الشتات. وبحيث يجري تدريجيًا تجديد بنى الحركة الوطنية وصون الطابع الوطني العلماني لمنظمة التحرير ومؤسساتها الجامعة، ومرة أخرى كركيزة للدفاع عن الحقوق الوطنية وفي مقدمتها الحق المطلق في تقرير المصير، وبما يشمل حق العودة.

الانتخابات البلدية

في هذا السياق، يمكن، بل ويجب، النظر للحراك الجاري حول الانتخابات المحلية لإنتاج مجالس بلدية وظيفتها تعزيز قدرة الناس على الصمود من خلال تقديم خدمات محترمة على أسس من العدالة والحكم الصالح والرشيد على مستوى البنى المحلية، وتكامل دورها مع مؤسسات المجتمع المدني والهيئات الوطنية التي تعبر عن مضمون حقوق الناس المدنية منها والاجتماعية والاقتصادية، وحقهم الطبيعي في الأمن والسلم المجتمعيين.

إن ما يجري من تحشيد وامتداد تباينات تبعات واقع الانقسام في مجرى التحضير والمنافسة بين القوائم الانتخابية، أو انحرافها نحو العقلية العشائرية المنغلقة، سيما في عدد من المدن الرئيسية والكبرى، على حساب الإنجازات الوطنية والديمقراطية التي راكمها شعبنا في مجرى نضاله الطويل ضد الاحتلال، سيما ما ولّدته الانتفاضة الشعبية الكبرى، إنما، وفي حال تسيّده سيُشكل ضربة قاصمة لأي جهد وطني يهدف إلى حماية النسيج الاجتماعي. فالتنافس على خدمة المواطن وإعلاء شأن المواطنة يتّسع للجميع وهو المدخل ليس فقط لصون وحدة المجتمع ونسيجه الوطني، بل ولحماية تلك القيم التي راكمها النضال الوطني والموروث الكفاحي التقدمي لشعبنا منذ ما قبل النكبة وحتى اليوم. هذا هو الطريق لكي تكون الانتخابات البلدية محطة لوقف الانهيار والإسهام في النهوض الوطني بتكامل دورها مع المؤسسات الأهلية والأطر الشعبية كرافعة لإعادة بناء المشروع الوطني لكل الفلسطينيين في مواجهة عقلية الانقسام التي ساهمت في تفكّك وفشل الحركة الوطنية، وهذا أيضًا هو الطريق لمواجهة مخططات الاحتلال في إحداث مزيد من تمزيق الكيانية الوطنية ومخططاتها التي طالما سعت للتعامل مع البلديات كحصان طروادة لوأد الوطنية الجامعة، وترسيخ الكانتونات المعزولة عن بعضها، كما سعت في مراحل سابقة. غنيٌّ عن القول أن رفض إجراء الانتخابات البلدية في قطاع غزة إنما يعبر عن عمق نزعة الهيمنة والإقصاء لحكم الأمر الواقع في القطاع والاستعداد للتعايش مع مشاريع الكانتونات التي تمضي اسرائيل بها قدمًا.

درس جامعة بيرزيت

دون التقليل من أهمية الوفاق الذي توصلت إليه الحركة الطلابية في الجامعة وإدارتها، والذي أفضى لإعادة العملية التعليمية لمسارها، إلا أن دروسًا جوهرية يجب التوقف عندها إزاء تلك الأزمة التي كادت أن تعصف بواحدة من أهم الإنجازات الوطنية ممثلة بجامعة بيرزيت ورمزيتها الوطنية والتعليمية، ويأتي في مقدمتها أن تلك الأزمة هي أحد أعراض أزمة الحركة الوطنية التي تنهشها العقلية “الفصائلية الميليشياوية” الانهزامية، والتي تغطي على فشلها بروح الابتزاز السلطوي، التي تترافق مع غياب الحساسية الجماهيرية لوسائل الإدارة في مجتمع هو بأقصى درجات الحاجة للتكامل والتضامن بين مختلف مكوناته.

وأما الدرس الآخر، فإن التعليم والمؤسسات التعليمية، وحتى تستعيد دورها الوطني والديمقراطي كمنارات للمعرفة ودورها في التنمية المجتمعية، يجب أن تُحمى من التدخلات السلطوية والفصائلية على حدٍ سواء، فبالقدر الذي يجب أن يكون الحراك الجامعي قائم على التعددية واحترام قواعد الديمقراطية في العلاقة بين الكتل الطلابية وقواعدها وبينها وبين إدارة الجامعة، لابد من رفع يد المؤسسة الأمنية عن الأنشطة الطلابية طالما تعمل في إطار أنظمة وقوانين الجامعة ومكانتها الوطنية؛ لأن تسرب الخراب أو التخريب لمثل هذه المؤسسات الوطنية وفشل المجتمع أو عجز السلطة عن إيجاد مخارج محترمة لأزماتها سيكون له عواقب وخيمة لن تُحمد عقباها.

أخيرًا، إن الحفاظ على الطابع الوطني التعددي للمجالس البلدية والدور التنويري والتقدمي العلماني للمؤسسات التربوية والتعليمية، واستنهاض القدرة التكاملية لمؤسسات المجتمع الأهلية والشعبية، يشكل روافع وبنية تحتية، بل، وصمام أمان لوحدة المجتمع، ولكنها لن تكون بديلة عن إعادة بناء المؤسسات الوطنية الجامعة وبما يشمل جميع تجمعات الشعب الفلسطيني دون استثناء. فنجاح اسرائيل في تدمير فرص حل الدولتين والاستمرار بمشروع الاستيطان الاستعماري، يطرح على الشعب الفلسطيني ضرورة استعادة وحدة الشعب وحركته الوطنية الجامعة والممثلة لكل أطيافه وتجمعاته، بما في ذلك داخل الخط الأخضر. فالصراع اليوم بات على الرواية والأحقية في الوجود و التسليم بالحق في تقرير المصير.

Exit mobile version